Monday, November 5, 2007

آخر الشعراء/ السفراء






هناك عصر انتهى, يعرفه أبناء جيلي جيداً, عصر رجال الدولة, عندما كان الوزير وزيراً وليس موظفاً, عندما كان الوزير صاحب قرار, وحامل للمسئولية.
كنا في الستينيات, كان هناك حادث مروري وكان هناك جمع من الناس, اقتربت واندسست بين الناس ورأيت ما خلق الجمهرة, كان عسكري في الجيش الكويتي يمسك بخناق مرتكب المخالفة بيد, وباليد الأخرى يمسك بعقاله المرصع بشعار الدولة, وبينما كان الناس يحرضوه:
-دعه يمضي في حال سبيله طالما لم تأت الشرطة.
كان يردد عليهم بحزم:
-أنا مسئول عن هذه.
وهو يرفع شعار الدولة أمام أعين الناس.
هذه الكويت التي افتقدتها, وافتقدها أبناء جيلي, كويت كان يعتمد فيها على الرجال الذين كانوا مسئولين بحق, ولم يكن اختيارهم للمسئولية سواء كوزراء أو سفراء إرضاء لأحد, أو تسوية لحسابات حزبية أو قبلية أو طائفية, كان الاختيار يعتمد على الثقافة والوعي والحس الوطني.
عندما أسس الأستاذ المناضل الكبير جاسم القطامي وزارة الخارجية, كان السفراء الذين مثلوا الكويت في العواصم المهمة هم الموسيقار على زكريا الأنصاري, الشاعر عبدالله حسين الرومي, الفنان حمد الرجيب, والشاعر محمد أحمد المشاري, والشاعر يعقوب الرشيد, ناهيك عن الدور الكبير للأستاذ عبد العزيز حسين عندما كان رئيساً لبيت الكويت بالقاهرة, وممثلاً لدولة الكويت سواء في الكلمة التي ألقاها في مقر الأمم المتحدة, عندما رغبت الكويت بالانضمام كعضو إلى هيئة الأمم المتحدة, أو لدول الخليج لتقديم المساعدات التعليمية, والقائمة تطول لتشمل الفنان التشكيلي قاسم عمر الياقوت ومحمد أحمد الغانم الذي كان سكرتيراً للنادي الأدبي عام 1924, ولا نستثني كتاب ومثقفين أو شعراء مستنيرين مثل أحمد السقاف وعبد الله بشارة ومحمد أحمد المجرن وعبدالله السريع وغيرهم من الرجال الأفاضل, كانت قيمتهم كمثقفين ومفكرين هي ما جعلتهم رجال دولة.
عندما صدر مرسوم بتعيين حمد الرجيب سفيراً مفوضاً فوق العادة في الجمهورية العربية المتحدة, سألت والدي رحمة الله عليه ما معنى مفوضاً فوق العادة, أجاب أي أنه مفوض باتخاذ أي قرار يراه مناسباً دون الرجوع لوزارة الخارجية أو للحكومة الكويتية, هذا السفير كان يستقبل في ديوانه بالقاهرة الفنانين والأدباء والمفكرين العظام بالقاهرة إضافة إلى رجال السياسة, كان يعرف ديوانه بأنه أهم وأشهر منتدى ثقافي في القاهرة في حينها, وأنا شخصياً حضرت اجتماع تأسيس فرقة أم كلثوم للموسيقى العربية, حيث سعى حمد الرجيب للحصول على تبرع من الشيخ صباح السالم الذي كان أمير الكويت في ذلك الوقت, وأصبح حمد الرجيب أول رئيس للفرقة.
ويذكر حمد الرجيب في كتابه "مسافر في شرايين الوطن", أنه عند تقديم أوراق اعتماده كسفير لدولة الكويت لملك المغرب الحسن الثاني, أخبره رئيس المراسم أنه يجب أن ينحني حسب التقاليد في حضرة الملك, قال له حمد الرجيب بما معناه نحن لم نعتد الانحناء أو تقبيل اليد مهما كان الشخص الذي نقابله, وبالفعل أدرك الملك هذا الأمر بما عرف عنه من فطنة وحكمة, وتصرف بسرعة وبادر إلى مصافحة السفير.
في القاهرة كان الوزراء في ذلك الوقت يطلبون من حمد الرجيب التوسط لهم عند الرئيس جمال عبد الناصر, كان يستطيع مقابلة الرئيس في أي وقت, بل أن جمال عبد الناصر طلب من أمير الكويت أن يبقى حمد الرجيب سفيراً في مصر, ولذا ظل سفيراً لمدة أربع عشرة سنة في القاهرة قبل أن ينتقل إلى المغرب.
كانت البلد تبنى على يد المثقفين والأدباء والفنانين, والآن بعد تخلي الدولة عن المثقفين والثقافة, والاستناد إلى موظفين وقبليين وطائفيين, ليس لديهم أي اهتمام بالثقافة, يجلسون على كراس فقط لأنهم أقرباء لفلان أو من ضمن أبناء القبيلة الفلانية أو الجماعة الدينية هذه أو تلك, لم يعد لإمكانات الإنسان ووطنيته وإخلاصه أي اعتبار في الكويت, ولذا تردت الأوضاع وتفشى الفساد والتخلف, بل أصبح من حق أي مراهق أن يجرجر أديباً أو مثقفاً أو مفكراً إلى المحاكم أو إلى السجن, وهذا هو الفرق بين تلك الكويت التي افتقدناها بحق وبين هذه الكويت التي يستطيع أي متنفذ أو فاسد أن يؤثر في مسيرتها ومستقبل التنمية فيها.
ما دعاني إلى تذكر هذا الموضوع, هو غضبي وإحساسي بالفقد لرحيل الشاعر السفير والصديق يعقوب الرشيد, هذا الرجل الذي ساهم في إثراء الحياة الثقافية والحضارية في الكويت, بصفته إنساناً وشاعراً وسفيراً, مثل بلاده في كل المجالات, كان شغوفاً بإكمال مسيرة والده رجل التنوير الكبير عبد العزيز الرشيد أحد الأعلام في الثقافة الكويتية, كان يعقوب الرشيد شاعراً رقيقاً, وإنساناً مهذباً راقياً, مثل كل إنسان كويتي مثقف.
رحل الرشيد وترك فينا إحساس بالفقد وتساؤل: ماذا يخبئ لنا القادم من الأيام؟, نعلم أن البلد ولادة, لكن هناك من يئد الولادات الجميلة, هناك من لا يحب الكويت كما يجب أن تكون, ثقافية حضارية, فكونها كذلك فضح له ولمصالحه, هناك من يتمنى مسح تاريخ الكويت الحقيقي الثقافي/الحضاري.
لكن الشعر باق, والثقافة باقية, والوطن باق.
يقول الشاعر يعقوب السبيعي في إحدى قصائده:
"واللي ما عنده إلا هالوطن كل شي عنده".

osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com

No comments: