Saturday, January 26, 2008

خمسون عاماً من الفخار




لم أقابل مثقفاً عربياً, إلا وقال لي أن ثقافته نشأت مع مجلة العربي, فهذا المشروع الكويتي النبيل, قد أعطى ثماره والهدف منه منذ سنوات طويلة, منذ إنشاء المجلة عام 1958م, وعند التمعن بأي مشروع ثقافي كويتي لا نجد أنه كمالي أو ترفي أو أنشئ للتظاهر الفارغ, ولم يطلق أي مشروع ثقافي كويتي لخدمة الكويت فقط, سواء مطبوعات ثقافية أو مؤسسات مثل المعهدين العاليين المسرح والموسيقى, والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, وجامعة الكويت وحتى ثانوية شويخ.
كل مشروع ثقافي صغير كان أم كبيراً, حسبت الكويت بتخطيطها له وإنشائه حساب أخوتها العرب, ولم يكن في الأمر منة أو رغبة بالمديح, بل انطلقت هذه المشروعات من إيمان راسخ بالعوامل المشتركة للثقافة العربية وأهمية تفاعلها, لم يجبر أحد الكويت على التفكير بجدية في الدول العربية الأخرى, لكنها تصرفت بناء على قناعاتها وإيمانها بقضيتها, عندما كانت أكبر عناصر قوتها في تضامنها ومساندتها لبعضها من أجل التنمية والتقدم, ولعل التنمية الثقافية في طليعتها.
وخلال خمسين عاماً رئس تحرير العربي مجموعة من المثقفين العرب البارزين ومنهم كويتيين أفنوا أعمارهم لخدمة الثقافة, واجتهدوا ضمن هدف واحد هو تحقيق رسالة العربي عند إنشائها, أي خدمة المثقف العربي, ولذا سميت بالعربي, ويتغير رؤساء تحريرها وتبقى العربي إحدى الإسهامات المميزة لدولة الكويت في الثقافة العربية.
وعبر كل هذه السنين تغيرت العربي في بعض ملامحها وسياساتها, حسب اجتهاد المسئولين عليها, لكن ذلك لم يغير من قيمتها ومكانتها كمطبوع ثقافي عالي المستوى, يندر وجود مثيله بالساحة العربية, ورغم أن الدعم الحكومي المادي والمعنوي, يقوى ويضعف إلا أنه لم يتم التخلي عن هذا الإنجاز الذي أعطى للكويت مكانة بارزة, ولم يبرز مسئول رسمي واحد عبر نصف قرن من الزمان يقلل من أهمية مجلة العربي.
أنا أفهم أن هناك وجهات نظر متباينة حول شكلها أحياناً أو مضمونها, أفهم أن أي مشروع يتعرض إلى انتقاد وملاحظات, ولكن لا يجب إسقاط الموقف الشخصي من أي مسئول في العربي على هذا الصرح الثقافي, وهذا ينطبق على المؤسسات الثقافية الأخرى, فالانتقادات أحياناً يبالغ بها لدرجة إلغاء كل منجزات المؤسسة أو المسئول الثقافي عنها, وتطغى مصلحة المنتقد الذاتية على مصلحة الوطن, فلمجرد عدم نشر عمل له, سواء كان حقاً أو باطلاً ينعكس ذلك على المؤسسة والمسئول.
ومجلة العربي ليست مجلة للهواة وبريد القراء, لكنها مجلة ذات مستوى رفيع وهذا ما يجب أن يكون, وإذا كنا واقعيين فليس كل من نشر له في جريدة أو طبع كتاباً, يصبح من حقه النشر في أي موقع, ففي المجلات العلمية والثقافية المحكمة ترفض كتابات أساتذة وأكاديميين مهمين, لمجرد أنها لا تطابق مواصفات وشروط المجلة, وأتذكر في سبعينيات القرن الماضي أن الجريدة اليومية كانت ترفض النتاجات الأدبية الهابطة, وترفقها ب"لا يصلح للنشر", بينما تطالعنا صحف اليوم بنصوص ومقالات أدبية, أقل ما يقال عنها مخجلة, بل أن تجربتي التي مررت بها مع مجلة اليقظة التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت الأستاذ الشاعر علي السبتي, غيرت اتجاهي بالكتابة, فعندما أرسلت قصيدة للنشر, أرسل لي مدير التحرير رسالة مرفقة بالقصيدة وعبارة واحدة " القصيدة ضعيفة, أنصحك بقراءة ألف بيت من الشعر العربي, مقابل كل بيت تكتبه", ومن يومها توقفت عن نشر قصائدي, وبدأت بعدها بسنوات أنشر القصة القصيرة.
نعم هناك أمر آخر, لا يتعلق بمستوى النص أو باسم الكاتب, بل يتعلق بالروتين والبيروقراطية أحياناً, وخاصة أن المجلات ذات الثقل الثقافي تتلقى الآلاف من النصوص ومن مختلف الدول العربية, وكل كاتب نص يعتبر أن نصه مهماً, ولنا في الراغبين بنشر كتبهم في عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني, مثالاً واضحاً, فالمجلة تشكل إغراءً كبيراً للكتاب من الناحيتين المادية والمعنوية, ولذا تنهال عليها مخطوطات من كل حدب وصوب, هذا إضافة إلى الاستكتاب.
ولو راجعنا المجلات الأدبية التابعة للاتحادات والروابط الأدبية في العالم العربي, لوجدنا لديها سياسة أكثر صرامة, وأظن أنه يجب أن توضع وجهات النظر هذه في موقعها الصحيح, فالعربي ليست ملكية خاصة ولكنها مؤسسة عامة رسمية, ويمكن نقل وجهات النظر المختلفة والحوار فيها دون رماح ومتاريس.
في العيد الخمسين لتأسيس مجلة العربي, نبارك للكويت حفاظها على مشروعها الثقافي المرموق, آملين لمن سيحتفل بمرور قرن على تأسيسها, وكلي أمل باستمرارها, أن يعطيها حقها وحق رؤساء تحريرها من التقدير والعرفان.

Saturday, January 19, 2008

عهود الفرص الضائعة





غادرنا عام 2007م وحمل معه ما حمل من انجازات وإخفاقات للبشرية, تاريخ مر ولن يعود, لن يعود منه غير الذكرى والعبرة, والعبرة إلا يكرر البشر عثراتهم أو حماقاتهم, بل يسرعون من نشاطاتهم الهادفة لسعادة الإنسان, أليس هذا هو الهدف الأساسي بغض النظر عن الانتماءات والأساليب؟
في كل العصور الماضية كانت هناك فرص ضائعة لتحقيق سعادة وتقدم ورخاء البشر, لكن تأبى الأنظمة ويأبى تجار العنف والتسلط إلا أن يمارسوا "ساديتهم" بتدمير أحلام الإنسان بكوكب يسوده السلام والمحبة, كوكب عانى منذ البدء من تدمير وقتل ودمار, وسيادة مشاعر الكراهية والحقد والتخلف والتعصب الغبي.
كادت عبر العصور أن تختفي قيمتان إنسانيتان عظيمتان, وهما الحب والاحترام, وتصدرت في أجندة البشر قيم العداء والكراهية ومصادرة الرأي, اختفت قيم البناء وتصدرت قيم التدمير والفناء, حتى على المستوى الشخصي, "أنا ومن بعدي الطوفان", واستحدثت آلاف الوسائل حقيقية وباطلة, من أجل غايات لا خلاف عليها.
ألم تنسكب دماء يوليوس قيصر على أرض البرلمان الروماني, بذريعة الغايات النبيلة But Brutes is an honorable man كما قال مارك أنطوني في رثاء قيصر, كان بروتس صديق قيصر, وعندما جاءت طعنته القاضية, قال قيصر:" حتى أنت يا بروتس؟! إذا فليمت قيصر".
وقد كان نصيب العالم الإسلامي من البشاعة والتدمير كبيراً في عام 2007م, فمن الأشلاء والدماء والحرائق, إلى الإرهاب الفكري ومصادرة الرأي والإبداع, في أفغانستان وباكستان والعراق ولبنان, وفي كل العالم الإسلامي بلا استثناء, مورست أشكال القهر والإرهاب ومصادرة الحقوق والحريات, أمة لم تستفد من ميراث العقل, وأعط لنفسها سمة الهمجية أمام العالم, أمة حوت متخلفين وجهلة أساءوا إلى دينهم أكثر مما أبرزوه للعالم كدين سلام ومحبة.
ومهما كانت الذرائع, لا يوجد أي مبرر لمصادرة الحريات وحق الإنسان في التعبير والإبداع, فتلك ميزة لكونه بشر, ففي النصف الأول من عام 2007 فقط وحسب منظمة partiy yekititiyia demokrat, ومن خلال بريد أرسله صديق, تحت عنوان "الكاتب العربي بين مطرقة الأنظمة وسندان الأصولية", هناك أكثر من 781 كاتباً وأديباً وصحفياً وأستاذاً جامعياً في العالم, أما مقتولين, أو ملاحقين ومعتقلين, معذبين, أو مختطفين ومفقودين ومنفيين.
بشر يقتلون لمجرد استخدامهم لعقولهم, أو لكتابة ما تفتق عنه إبداعهم وخيالهم, لمجرد صياغة حلمهم وأحلام أوطانهم, بقصيدة أو قصة أو مقالة أو مسرحية أو لوحة تشكيلية, إنسان يضطهد ويقتل لمجرد التفكير المغاير, لمجرد الاختلاف في الرأي.
هل يختلف الأمر هنا؟ على كتف الخليج؟ إطلاقاً, فالإرهاب الفكري ومصادرة حريات الناس ورغبتهم في الفرح, ومصادرة الإبداع وحرية الرأي, كلها نماذج لبشاعة العنف والقهر ضد الإنسان, فحق الاختيار ليس مرهوناً بالإنسان الكويتي كما يجب أن يكون, ولكنه يخضع لمحاكم التفتيش, سواء في رقابة وزارة الإعلام الحكومية أو من قبل جماعات الإسلام السياسي, الذين يفرضون ثوابت للأمة خارج الدستور, وخارج ما جبل عليه الإنسان والمجتمع الكويتي من حب للتسامح, ورغبة في الانفتاح والتطور والتعلم, يفرضون قيماً خارج نسق المنطق وسياق التاريخ, مستخدمين جميع الوسائل بما فيها الحق الشرعي في الاستجواب, للوصول إلى غايات الاستحواذ والسيطرة.
لقد مر عام 2007 والبشرية لم تتخلص من بقايا همجيتها, من بقايا عهود الشر والتخلف والكراهية, تلك العهود التي ضاعت خلالها فرص التقدم والرخاء والسعادة الحقيقية, بل استخدمت كل ما وصلت إليه الإنسانية من تقدم تكنولوجي وعلوم وديموقراطية للتدمير والسيطرة, واستخدمت الأديان ذريعة للقتل والحرق وتكميم الأفواه.
عام وراء عام وفي بداية كل منها يتفاءل الناس, ويبنون أحلاماً وآمالاً بسعادة لم تتحقق, يحلمون بالسلام والحرية والاستمتاع بمباهج الحياة, بإبداعات البشر التي تمنع كل يوم, ويضطهد مبدعوها.
ماذا ينتظر البشرية في عام 2008؟ ماذا ينتظر الكويت على الأقل؟

Saturday, January 12, 2008

أحلى الجزر







يصادف في فبراير القادم الذكرى الخمسين لوصول أول بعثة تنقيب في جزيرة فيلكا, ففي فبراير من العام 1958م وصلت البعثة الهولندية للتنقيب عن الآثار في جزيرة فيلكا.
وبعدها تغيرت في أذهان الكثيرين ملامح التاريخ في منطقة الكويت والجزر التابعة لها, فبعدما كان النظرة السائدة أن هذه الأرض لم تكن يوماً غير صحراء قاحلة, أصبح من الواضح العمق التاريخي السحيق لهذه المنطقة, والذي كشفت البعثة عنه في أعماق فيلكا, وأصبح هناك اهتمام عالمي بالإرث الحضاري القيم لهذه الجزيرة, وهذا ما دعى إلى الكشف والتنقيب في مناطق الكويت الأخرى, مثل تل بهيته وكاظمة والصبية وغيرها.
والمعروف أن الكويت كانت محطة ترانزيت تجاري عبر كل الحضارات القديمة, لما تمثله من موقع استراتيجي كمرفأ على رأس الخليج العربي, هذا عدا عن كونها تقع بين مناطق حضارية هامة, مثل فارس وما بين النهرين, ولم يقتصر ذلك على اهتمام الحضارات القديمة بهذا الموقع, بل أيضاً اهتمت به بريطانيا ممثلة بشركة الهند الشرقية كممر لتجارتها بين الشرق والغرب, ونقل المعتمد البريطاني مركزه من المحمرة ببر فارس والبصرة إلى الكويت, حسب الوثائق التاريخية.
وكشفت البعثة الهولندية في ذلك الوقت, عن آثار لفترة هيلنسية أو هيللينية, تمثلت في معابد وعملات وجرار وتماثيل, تعود إلى ثلاثمائة عام قبل الميلاد, في فترة استيطان قادة الاسكندر الأكبر وجنوده فيها, بعد عودة أسطوله من غزوة الهند عبر بحر العرب, والذي كان يقوده أدميرال البحر "نياركوس", وهو أحد زملاء الاسكندر في التتلمذ على يد أرسطو, وأسموا الجزيرة "إيكاروس", لأنها تشبه جزيرة إيكاروس في بحر إيجة بأجوائها وجمال طبيعتها, إذ من المعروف تاريخياً, أن جزيرة فيلكا كانت خضراء فيها أفلاج وجداول ماء عذب, وكان سكانها يزرعون القمح, وكانت تعتبر أرض الغزلان المقدسة, وجزيرة فيلكا "إيكاروس" لا تسكنها الثعابين والعقارب, ولذا أعلنت جزيرة مقدسة حسب حجر إيكاروس المنقوش عليه رسالة من انكزارخوس إلى سكان ايكاروس, والموجود حالياً بمتحف الكويت الوطني.
والتاريخ الأثري في فيلكا, لم يبدأ في استيطان الهللينيين والذي استمر لأربعمائة عام, ولكنه يسبقه بعصور أقدم بكثير, فالتنقيب كشف عن وجود آثار تعود إلى العصر البرونزي, كما اكتشفت كنيسة من العصر النسطوري, أو المسيحية الشرقية, إضافة إلى تجمع سكاني حولها.
ولا يقتصر وجود الآثار في جزيرة فيلكا وحدها, فإضافة إلى الثلاث حضارات التي اكتشفت في تل بهيته في الشويخ, اكتشفت كذلك آثار إسلامية تعود إلى العصور العباسية في منطقة كاظمة وغيرها, ومعروف أن الفرزدق مدفون في كاظمة, كما اكتشفت قبل سنوات آثار لتجمعات سكانية في منطقة الصبية عمرها أكثر من سبعة آلاف سنة.
واهتم العديد من الكتاب والباحثين بجزيرة فيلكا, لعل أبرزهم "عاشق فيلكا" الأستاذ خالد سالم, الذي كتب عدة مؤلفات تشير إلى أهميتها في التاريخين البعيد والقريب, ولعل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, يستعين به ليحكي عن ذكرياته عند وصول أول بعثة تنقيبية, فهي بالتأكيد ستكون شهادة توثيقية هامة, تضاف إلى التاريخ الثقافي الكويتي.
الآن, وهناك مشروع لتحويل جزيرة فيلكا إلى منتجعات سياحية, سيكون من الغبن طمس هذا التاريخ, وسيكون جرماً بحق الكويت وتاريخها, إذ أن ذلك التوجه ودون دراسة, سيشكل خطراً يدمر الآثار التي ما زال التنقيب جارياً عنها, ولعل هدف تحويل الكويت إلى مركز تجاري يجب أن يذكرنا بأهمية فيلكا كممر تجاري عبر التاريخ, فهذا الإرث الثقافي الآثاري هو كنز وثروة وطنية خالدة للأجيال داخل الكويت وللمجتمع الدولي.

Saturday, January 5, 2008

لماذا الكتابة؟





لماذا الكتابة؟! لا يوجد سؤال يحمل من الاستفزاز والتحدي لأي كاتب مثل هذا..لماذا تكتب؟! كمن يسألك: لماذا تتنفس, وبدقة أكبر كمن يسألك عن سبب وجودك في الحياة, سؤال بعمر الزمن, ولا توجد اجابة جاهزة, سؤال يحمل أسرار مولدك, حياتك, ومماتك, ولاتوجد إجابة واحدة..بم أجبت قبل خمسة وعشرين سنة؟ بم أجبت قبل عشر سنوات؟ ماذا ستجيب بعد سنة واحدة؟ ..
سؤال يحمل من السذاجة ومن العمق ما يجعلك تتساءل: من أنا؟! سؤال يحيي فيك روح العبث والمسؤولية في آن واحد..سؤال يستعيد كل ذاكرتك المؤلم منها والمفرح..الانتصارات والهزائم..الحب والكراهية..اللذة والألم..الحيرة والوعي..الزيف والحقيقة..سؤال يدفعك لاستحضار كل صداقاتك وعلاقاتك وكل الوجوه والعيون التي أسعدتك وآلمتك, التي كشطت من لحمك و التي غذتك..
لا يوجد سؤال ينبشك كهذا, الم نقل انه يحمل سر الكون..
من يجرؤ على دحرجة سؤال كهذا ثم يستدير؟! يقتنصك في لحظة استرخائك فيربكك..دون إحساس بتأنيب ضمير..أو يصفعك به بقسوة قفاز التحدي؟
هل فقد السؤال قيمته بمرور الزمن؟ هل السؤال بقيمته؟ أم بقيمة السائل؟ أم المسئول؟..مجه صيارفة الصحافة المفلسين حتى بهت ..وهاهو ينفتح أمامك مرة أخرى كالمدى..
صحيح , لماذا أكتب؟!
لو كانت اللا أدري مشبعة لأجبت بها, طاعناً السائل بخاصرته لينتهي الأمر, ولكن ماذا عن صدى السؤال؟! فمنذ بكارة البشرية والسائل يموت والسؤال يبقى, هذا كل ما في الأمر..لا أدري لا تغلق الاحتمالات بل تفتحها على مصراعيها , والسؤال الذي لا يفنى ولا يستحدث من عدم.. أزلي و تاريخي في الوقت نفسه..مطلق ونسبي..علمي وأدبي..تقدمي ورجعي..متعدد الوجوه والأصوات والعيون..
لماذا تكتب؟! لم يسأل الكاتب مثل هذا السؤال؟! أليست الكتابة بداهة؟ كالحياة .. هل يسأل الإنسان لم يعمل؟ لم ينجب؟ لم يعيش؟ لم لا يترك الكاتب وشأنه..الصحافة تسأله لم يكتب والناقد يسأله لم يكتب والقارئ يسأله لم يكتب والسلطة تسأله لم يكتب..هل لأن الكتابة فعل يحتمل الخطيئة أو الفروسية؟ يقترف جرم البناء أو الهدم؟ لا فرق..هل للكتابة تأثير وقوة كي تأخذ دوافعها كل هذه الأهمية؟!..وفي الأساس لم توجد أهداف لأي نشاط إنساني؟! ما دخل الآخرين بما تكتبه وحدك؟ ماذا يعنيهم مما ينتجه فكرك ووجدانك؟ أليست الكتابة تحقيقاً ورضاء ذاتياً؟ ولكن ما قيمة الذات إذا لم يكن للآخرين وجود..تخيل كاتب مهم في جزيرة معزولة..تخيل كاتب أقل أهمية في جزيرة معزولة..ما الفرق؟! هل تكتسب الكتابة أية أهمية دون وجود الآخر..القارئ..المتلقي؟! ولكن هل يعني ذلك انك تكتب كي ترضي الآخر؟! إذا ماذا عن ذاتك؟!..من اخترع المعادلات؟ الجدل؟ العلاقة التبادلية؟ الديالكتيك؟ أم أنها أزلية وتاريخية كالسؤال ذاته: لم تكتب؟
من يمنعك الآن من رفض الكتابة؟ من رفض التعب و وجع الرأس؟ للأسف لا أحد..لكن من يمنع الآخرين من لومك إذا لم تستمر بالكتابة؟ أيضاً لا أحد..
لطالما تساءلت لماذا فجر النازيون قبر بوشكين أثناء غزوهم للإتحاد السوفييتي..ولماذا ترفض السلطات التركية إدخال رفات الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت كي يدفن في وطنه الذي كرس له كل أشعاره ..ولماذا استهدف صدام حسين المؤسسات الثقافية أولاً أثناء غزوه للكويت..ولماذا يغتال خفافيش الظلام أفضل منتجي الأدب والثقافة والفكر..ولماذا قال غوبلز مساعد هتلر:" كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي"..؟!
ربما تكمن في الإجابة كل أسرار الكتابة وسحرها..
في معادلة الزيت والفتيل لا يرى الإنسان الاحتراق بل النور هو الذي يعنيه..ماذا عن معادلة الكاتب والكتابة؟..الكاتب والوعي؟..الكاتب والانتماء؟..الكاتب والحياة؟..الكاتب والمجتمع؟..الكاتب والكاتب؟..الكاتب و السكون والحركة؟..الكاتب والنور والظلام؟..العدل والظلم..الحاجة والرغبة..الالتزام والعبث... إلى مالا نهاية من التساؤلات و المعادلات والخيوط التي تربط الكاتب بهذا الكون, بهذا الوجود..
إن أية إجابة جاهزة لهذا السؤال المشهر في وجهك تعني النهاية, وفساد المتعة في نهايتها, مع أن لكل شئ نهاية و لانهاية حسب زاوية النظر, فان الإجابة في كل زمان ومكان وأياً كان نوع السائل يجب أن تبدأ دائماً هكذا..صحيح لماذا أكتب؟!