Saturday, December 26, 2009

هل تغير الشعوب عاداتها؟



الإنسان عبارة عن مجموع عاداته، والعادات هي عادات يمكن أن تكون سلوكية وذهنية، وعندما يمارسها الإنسان كثيراً أو يتمرن عليها، تصبح جزءً من شخصيته، سواء كانت عادات سلبية أم إيجابية، وهذه العادات يكتسبها الإنسان في كثير من الأحيان بشكل تلقائي، حسب ما يتداول في أسرته من أفكار وقناعات وسلوكات، وأحياناً تلعب المدرسة ويلعب الشارع والإعلام دوراً في اكتساب القناعات والعادات، وأحياناً تكتسب العادات بشكل منهجي وتلقيني، فيقوم الوالدان أو تقوم المدرسة بتعليمها عن قصد.
ومن العادات التي يكتسبها الإنسان، تلك التي يعكسها سلوك وأفكار الأهل، وتشكل مثال للطفل، ويتشرب أو يتأثر الطفل بهذا المثال سلباً أو إيجاباً، وتشكل جزءً من شخصيته، دون وعي من الأهل عن مدى تأثير ذلك على الأبناء.
ويصبح السلوك عادة, وتصبح الفكرة عادة عندما تكرر كثيراً, فتصبح أوتوماتيكية, مما يصعب مقاومتها أو تغييرها, ويتعامل الإنسان مع عاداته وكأنها أمور قدرية, لا مناص ولا فكاك منها, فيقال "بوطبيع ما يغير طبعه", والعادة قوية جداً, وقد يكون تأثيرها أقوى من تأثير الدين, بل يتم في كثير من الأحيان عند كثير من الشعوب, وفي كثير من الأديان تطويع الدين للعادات, ومع مرور الوقت يعتقد الإنسان أن عاداته الاجتماعية هي من صلب الدين, حتى لو كانت مخالفة للدين.
فكل الأهل مثلاً يحبون أبناءهم، ويربونهم بالطريقة التي يعتقدون أنها صحيحة، ولكن أساليبهم تكون لها انعكاسات سلبية، مثل ضرب الوالد لولده وقسوته عليه حتى يصبح رجلاً، النية هنا سليمة، لكن الأسلوب خاطئ، مثل حماية الأم الزائدة لأبنائها، هنا نيتها سليمة، لكن تأثير ذلك سلبي على المدى البعيد، مثال آخر على الأم المتسلطة، التي تحمي أبناءها بالإجبار، مثل اختيار الدراسة، اختيار الزوجة، اختيار الأصدقاء.
وردود الفعل للتربية تختلف عند الأشخاص المختلفين, فالضرب والقسوة قد يخلقان شخصية ضعيفة فاقدة للثقة, وقد تكون لديه ردة فعل عكسية, مثل العنف وبلادة المشاعر, أما الحماية الزائدة للأبناء فتكمن خطورتها بأنها قد تنتج أبناءً اتكاليين ضعفاء في مواجهة الحياة ومتطلباتها, غير منتجين وغير مبدعين, وأما التسلط وخاصة من الأم, فيمكن أن ينتج عن ذلك ردود فعل عكسية, أي يقوم الشاب بكل السلوكات التي تناقض ما تربى عليه, أو فرض عليه بالتربية, وكأنه يستمتع بكسر القوانين, حتى وإن كان ذلك بالسر, فالتشدد الديني بالتربية, قد يدفع الأبناء للانحراف, أو على الأقل مخالفة هذه التربية.
لكن الأغرب في تأثير مثل هذه العادة, أن الشاب الذي نشأ على تسلط الأم, قد لايختار إلا زوجة تشبه أمه في تسلطها, ولا يشبع ذهنياً وشعورياً إلا بتسلط زوجته عليه, رغم رفضه الظاهري لتربية أمه, وهنا تكمن البرمجة الذهنية التي تعطي للبشر سماتهم, وهذا يعني أن منطقهم يناقص قناعاتهم أو عاداتهم القاهرة والأوتوماتيكية.
وتتسع دائرة التربية, لتشمل القبيلة والمجتمع, وبعد مرور مئات السنين, تصبح العادات الذهنية وكأنها سمة من سمات المجتمع أو الشعب, فتوصف بعض الشعوب بالبرودة العاطفية, وبعضها بالخضوع, وبعضها بالدموية, وبعضها بالغش, ..الخ, لكن كل ذلك ما هو إلا السائد والظاهر فقط.
لكن حسب العلم, فإن الإنسان قادر على تغيير عاداته وأطباعه, في أي مرحلة من مراحل حياته العمرية, دون انتظار للتغير البيئي مثل الحيوان, إنما بمنهجية وتوجيه وتدريب, وكثير من الشعوب غيرت أطباعها عبر الزمن, ولكن بتوجيه هادف ومقصود من الدولة والنظام والمؤسسات, فهل العادات الأوربية هي نفسها قبل مئات السنين؟
ولأن العادات والسلوك والقناعات هي جزء من ثقافة المجتمعات, فبالامكان تغييرها وتطويرها, فما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع والشعب, فالشعب الذي اعتاد تفرد حكامه بالقرار, لن يتحول في يوم وليلة إلى ممارس للدموقراطية, ولكنها مع التربية العامة, ومع التكرار ستصبح جزءً من العادة والطبع.
كان ذلك جانب من نقاش خلال ندوة قدمتها, وأصر خلالها كثير من الحاضرين على أننا شعوب لن نتكيف مع الدمقراطية, وأن تكويننا يختلف عن تكوين الشعوب الأوربية, وكانت قناعة بعض المثقفين, أن "بوطبيع ما يغير طبعه", حتى بعد مرور آلاف السنين, فموروث ثقافتنا ما زال منذ أيام الجاهلية, وأترك لكم التفكير في هذا الأمر
.

Saturday, December 19, 2009

أعداء النور




كلما استبشرنا خيراً بصحوة الحكومة, واستنهاضها لنفسها, واستعادة هيبتها, كلما قابلتنا بالخذلان, وتركتنا لقمة سائغة للمتخلفين من أعداء النور والحرية, أعداء التقدم والتنمية.
فالشعب الكويتي الذي استبشر خيراً بمواجهة الحكومة, لاستجوابات استعراض العضلات, والانتقاص من هيبتها, سعياً إلى تدمير مكتسبات الشعب, وفرض دولة داخل دولة, وجد أن انتصار الحكومة لم يكن انتصاراً للشعب, وآماله باستعادة دولة المؤسسات المدنية, ولكنه كان انتصار هش وضعيف, فقط لتضمن عبره استمرارها, وتبييض وجهها, وكأنها تعمل لنفسها وليس من أجل شعب يتوق منذ عقود لاستعادة حريته وكرامته, التي سلبها أنصار التخلف.
إن العار الذي ارتكبته الحكومة, برضوخها لنواب الإسلام السياسي, ومنع مفكر من دخول الكويت, هو عار سيحمل وزره الشعب الكويتي, الذي اعتاد احتضان المفكرين, على اختلاف مشاربهم وآرائهم منذ أكثر من قرن, مثل محمود أمين العالم وفؤاد زكريا وعبد الرحمن بدوي, عار على كويت الثقافة والتنوير, التي قدمت للعرب مثالاً ليس له شبيه, في التسامح والدمقراطية, وإثراء الفكر العربي.
إن منع المفكر المصري نصر حامد أبو زيد من دخول الكويت, رغم أنه غير مدان قانونياً, وليس عليه تهمة أو قضية في الكويت, هو إجراء لا تمارسه إلا الدول الدكتاتورية المتخلفة, القامعة لحريات الفكر, وهو إجراء يفقد الشعب الثقة بإمكانية الحكومة وقدرتها على تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري.
أثبتت الحكومة بأنها تخاف من القلة المتخلفة, وأثبتت هذه القلة بأنها تخاف من الفكر المستنير, فهي لم تسعى في يوم من الأيام إلى مواجهة الأفكار بالأفكار, بل سعت دائماً إلى التكفير والإقصاء, لكل ما يخالف فكرها الظلامي.
ولدينا مثال آخر في الأمس القريب, عندما طالبت مجموعة من المشايخ, وسائل الإعلام بمنع نشر فتوى رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكة المكرمة, والتي أجاز فيها الاختلاط, ولم تسعى إلى مقارعة الحجة بالحجة, فهذه الفئة لا تعرف معنى الحوار والنقاش, بل ليس لديها أية قدرات فكرية.
الإسلام السياسي الذي أختطف الكويت, وأطفأ نورها الثقافي والعلمي والحضاري, لن يكتفي ولن يتوقف عن عدائه للحرية والتقدم, حتى تتحقق له دولته الإسلامية, ويفرض أجندته على المجتمع بأسره, على الكويت حكومة وشعباً.
ماذا تبقى من الكويت, ومن عزتها وكرامتها؟ إذا كانت فئة قليلة متخلفة, تستطيع منع الشعب من القراءة والإبداع, إذا كانت تستطيع جرجرة الأدباء والمفكرين إلى المحاكم, إذا كانت تستطيع فرض أفكارها الإرهابية على أطفالنا, ومن خلال مناهج التربية والتعليم, إذا كانت تستطيع إعاقة التنمية وإهدار ثروة البلاد, إذا كانت تنتهك الدستور كل يوم باسم الدستور.
استطاعت هذه الفئة المتخلفة, إدخال عشرات الإرهابيين ومثيري الفتن إلى الكويت, دون أن تحرك الحكومة ساكناً, استطاعت تصدير الإرهابيين, لقتل المسلمين والعرب, في أفغانستان والعراق وغيرها من البلدان, واستطاعت تكوين ثروات لدعم القتل والدمار, من خلال مؤسسات وبنوك وجمعيات, كثير منها غير قانوني, استطاعت إيصال نواب للأمة بطرق غير قانونية, وتهدد أكبر رأس في السلطة التنفيذية, دون رادع من حكومة يتطلع إليها الشعب لانصافه.
هل تريد الحكومة كسب أصوات المشاغبين, وأصحاب الأصوات العالية, على حساب شعبيتها؟ هل تفضل رضاء فئة متخلفة على رضاء الشعب الكويتي عنها؟ هل تفضل الحكومة تلطيخ اسم الكويت, واعتبارها حاضنة للتخلف, ومحاربة للحرية والفكر والثقافة؟ هل تريد إلغاء تاريخ الكويت الذي قدمت خلاله أهم المطبوعات الثقافية والفكرية العربية, وقدمت خلاله أرقى المسرحيات والفنون والآداب, هل تريد إلغاء سمة الكويت المدافعة عن الحريات؟ والتي جعلت شعوب العالم تقف معها في محنة الغزو؟
أظن أن الحكومة تقرأ الشعب الكويتي قراءة خاطئة, وتبالغ في تقدير فئة قليلة, أظن أن الحكومة غافلة عن أجندة هذه الفئة, التي تسعى لتشكيل دولة وفرض قوانين, خارج السياق الكويتي, ومخالفة لآمال وطموحات الشعب في اللحاق بالركب الدولي.
من يمنع مفكر من دخول البلاد اليوم, لا يمكن أن يكون جاداً في السعي للتنمية والتقدم, ومن يربي وحشاً في بيته, فعليه توقع أن يلتهمه وأبناءه, ومن يخضع اليوم, يخضع كل يوم
.

Saturday, December 12, 2009

الرموز والقدسية



في البدء أود أثبت رأيي في أهمية حرية المعتقدات والأديان, كحق للبشر أجمعين, وأشير إلى أن منع المآذن في سويسرا بناء على استفتاء شعبي, يشوبه شيء من إقصاء الآخر, ورغم أنه قرار دموقراطي, اختلفت معه الدولة السويسرية نفسها, والقيادة الدينية المسيحية في العالم, والعديد من الهيئات والتجمعات المدافعة عن حرية ممارسة العقائد, إلا أن ذلك لا يمنع من اختلافنا معه.
وهذا ينطبق على الكويت وبعض الدول الإسلامية, التي تحجر على الديانات الأخرى حرية الممارسة الدينية, وحرمانها من بناء دور عبادتها, وحرمانها من الجنسية, وذلك بواسطة ممثلي الشعب من أعضاء مجلس الأمة, مناقضين بذلك نصوص الدستور التي تكفل حرية العبادة, ورغم أن الكويت والجماعات الإسلامية بنت العديد من المساجد, ومارست الدعوة للإسلام في كل دول العالم, دون اعتراض من هذه الدول, بل وبتسهيلات وامتيازات تكفل الأمان والطمأنينة للمسلمين في تلك الدول.
ولن أخوض كثيراً في موقف الشعوب الأوربية من الإسلام الحالي, والذي تمثله مجموعات أساءت إلى هذه الدول وقوانينها, وأساءت إلى الإسلام المتسامح نفسه, كما روعت شعوب أوروبا وأمريكا, بالقتل والإرهاب والتهديد والعداء السافر, وهذا ما سبب ما سمي بالإسلاموفوبيا, أو رهاب الإسلام, أو الخوف المرضي من الإسلام.
ولكني سأتوقف عند موضوع الدفاع الهستيري عن المآذن, وكأنها شيء قدسي, فالمئذنة رمز غير مقدس, ولم تكن في أصل الدين, ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, لم تكن هناك مآذن, بل بني سقف المسجد الأول من سعف النخيل المستند على دعامات خشبية, وكان بلال يعتلي سطح أحد المنازل ليرفع الآذان, ولكن مع اتساع رقعة المدينة, نشأت الحاجة إلى المآذن, ويذكر موقع وزارة الأوقاف الكويتية الإلكتروني, أن أول مئذنة بنيت في الإسلام, كان في عام 45 هجرية, بناها زياد بن ابيه عامل معاوية بن أبي سفيان على مصر.
وكانت أولى المآذن مربعة لأنها أقيمت فوق أنقاض أبراج معابد رومانية قديمة, بعد الفتوحات الإسلامية, ثم تحولت المآذن إلى أشكال جمالية في العمارة الإسلامية, اختلفت في أشكالها وأحجامها في العصور المختلفة, علماً أن المئذنة التي كانت أحياناً تسمى منارة في العصر الجاهلي, كان يعلق عليها سراج للاستلال على المدينة, وكانت عبارة عن أبراج فوق بعض البيوت.
وهذا ينطبق على القبب في المساجد, فلم تكن القبة من ضمن بناء المساجد الأولى, وأول قبة بنيت في الإسلام, هي قبة الصخرة في الحرم القدسي, بناها عبد الملك بن مروان عام 72 هجرية, ثم أصبحت من روائع فن العمارة الإسلامية, ولكنها كانت موجودة في العمارة اليونانية والرومانية وحضارة ما بين النهرين, فأسقف بيوت العراق كانت قبباً, وذلك لاعتبارات بيئية.
ولم تكن المآذن والقبب في أصل الدين الإسلامي, ولكنها وجدت قبله, كما أن تطور المدن الإسلامية واتساعها, تطلب أن يرفع الأذان من مكان عال, حتى يصل إلى أقصى مكان ممكن, كما لعبت القبب دوراً في إيصال صوت خطيب المسجد, وتردد صداه, خاصة بعدما كبرت المساجد, وقبل أن يكتشف المايكروفون, وهناك كنائس تحولت إلى مساجد, مثل مسجد أيا صوفيا باسطنبول, ومسجد في الأندلس تحول إلى كنيسة بعد احتلال اسبانيا.
نحن البشر من يضفى الأهمية على الرموز, فعلم البلاد عبارة عن قطعة قماش, ولكننا مستعدين للموت من أجلها, وعلم اسرائيل أيضاً قطعة قماش, ولكنه يثير فينا مشاعر سلبية.
وقد كانت للقبائل العربية رايات ترمز لها, ورغم أن اللون الأسود يرمز للحزن والموت عند الحضارات البشرية, إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم, اختاره لراية الجيوش الإسلامية, وأصبح رمزاً لها, وكما أن اللون الأبيض معروف عند الحضارات برمزه للفرح والعرس, فإن اللون الأحمر عند الصينيين هو رمز الفرح, كما أن الهلال ليس له علاقة بالإسلام, ولكن وضعته الدولة العثمانية كشعار ورمز لها, بل أنه أقدم كرمز عند الحضارات القديمة في الجزيرة العربية, أيضاً الصليب ليس له علاقة بالديانة المسيحية, واستخدم بعد المسيح بفترة طويلة, بيد أننا نرى كيف يستخدم كقوة للشفاء, وكقوة ضد الشر والشياطين.
نحن من يمنح القوة والدلالة للرموز, ولا تحمل هي قوة في ذاتها, ولا قدسية في وجودها في حياتنا, ولكن الغريب كلما فتحت هذا الموضوع مع أحد الأخوة, يتعامل معي وكأني أسأت إلى الإسلام, وبدأت بالتجديف
.

Saturday, December 5, 2009

مسألة التنوير




يقول الفيلسوف أوجست كانت, "أن التوصل إلى التنوير يعني خروج الإنسان عن حالة القصور العقلي التي يجد نفسه فيها, والتي هو وحده مسؤول عنها, فإن تكون قاصراً عقلياً يعني أن تكون غير قادر على استخدام عقلك بدون وصاية شخص آخر وتوجيهه, فالإنسان مسؤول عن هذه الحالة, إذا لم يكن سببها نقصاً في عقله وإنما نقص في شجاعته وجرأته على اتخاذ القرار بمفرده".
من المعروف علمياً, أن القدرات الكامنة في عقل الإنسان مطلقة وغير محدودة, ولكنه لا يستخدم من هذه القدرات أكثر من 3%, كما أن الفروق بين البشر في قدراتهم العقلية, لا تكمن فقط بالتعلم والحصول على شهادات عليا, ولا فقط بالمهارات التي يكتسبها في مسيرة حياته, على الرغم من أهميتهما, ولكنها تكمن في استخدام العقل أو عدم استخدامه في التحليل والتفسير, وفهم العالم.
وحسب ويكيبيديا, فتنوير مصطلح يشير إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية, تقوم بالدفاع عن العقلانية ومبادئها, كوسيلة لتأسيس نظام للأخلاق والمعرفة, ففي أوربا القرنين 18 و19 نادى العلماء والفلاسفة بقوة عقل الإنسان وقدرته على فهم العالم وإدراك قوانين حركته وتطوره, واعتمدوا على التجربة العلمية والنتائج المادية, بديلاً عن الخرافة والخيال.
ويؤكد كانت أسباب حالة القصور العقلي في سببين, الكسل والجبن, فتكاسل الناس في التفكير, أدى من جهة إلى تخلفهم, ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم, وذلك بسبب عامل الخوف فيهم, ويرى أن تغيير اتجاه العقول يكون بالتربية العقلية والنقدية, وهذا يشترط الحرية بوصفها ضرورة للتنوير.
ورغم أن رجال الدين المتشددين من غير العلماء, سواء في أوربا أم في العالم العربي, قد حاربوا أي حركة تنويرية, إلا أن العقلانيين فيهم هم من نشر مبادئ التنوير, ومنهم في العالم العربي محمد عبده والأفغاني والكواكبي ورفاعة الطهطاوي وجرجي زيدان, وفي الكويت الشيخ يوسف بن عيسى القناعي والشيخ عبدالعزيز الرشيد وغيرهم.
وهؤلاء الرجال الذين لم يصبحوا تياراً مؤثراً تاريخياً, بمعنى التغيير في بنية الفكر العربي, جاءت آرائهم كردة فعل على الاستعمار والتبعية, رغم أنها نظرت إلى التراث نظرة نقدية, بمعنى إعادة قراءته, ولم ينجح التنويريون الذين أتوا لاحقاً, مثل طه حسين وسلامة موسى, بتشكيل تيار مؤثر في المجتمع, يرتكز على إنتاج المعرفة الجديدة.
وبعد هزيمة 1967م, بدأت حركة الانعزال والانسلاخ والغربة التي مارسها المثقف, مما ترك فراغاً وجدانياً جماهيرياً, أعطى الفرصة لانقضاض الاسلام السياسي على المكتسبات الحضارية, واستفحلت هذه الحركات لدرجة أنها هددت مواقع السلطة في مصر وغيرها من الدول الإسلامية, بل وبدأت السلطات تزايد على الخطاب الإسلامي السياسي الماضوي, خوفاً على مواقعها واستجابة للتهديد الذي مارسه أعداء التنوير, فتخلت عن بناء المجتمعات الحديثة.
فاغتيال المفكر فرج فوده عام 1992م مثلاً, أيده الشيخ محمد الغزالي مؤكداً:"أن مثل هذا الشخص يستحق عقوبة الإعدام التي يتوجب على الدولة تنفيذها, وعندما لا تقوم الدولة بتنفيذ العقوبة, ويقوم أحد المواطنين بأداء هذه المهمة, فلا يوجد في الإسلام عقوبة على هذا الفعل" (الوطن السعودية)., وعندما أهدر دم الكاتب السعودي تركي الحمد, لم تحرك الحكومة السعودية ساكناً لمعاقبة رجل الدين الذي أهدر دمه, وهذا يثبت أن التنوير وتنمية الإنسان ليسا في أجندة الأنظمة العربية, فهي تتبنى ما يوافق ويثبت مواقعها كسلطة, حتى وان كان ذلك ضد مصالح شعوبها في التنمية والتقدم.
لكن يخطئ من يعول على الزمن فقط في التغيير, فالتنوير لا يأتي كمنحة تاريخية, فالبشرية ومن خلال عمرها القصير خاضت معارك من أجل التنوير, وفي كل المجتمعات, حتى في المجتمع الإسلامي القديم, فامتعاض المثقف من الواقع وتذمره وترفعه عن المبادرة, وخشيته من بلل ثوبه, لا يساهم إلا في ترسيخ التخلف وتدمير عقل الإنسان.
فسلوك المثقف سلوك تبريري, ولسان حاله يقول إذا سألت فسأجيب, بينما قوى التخلف لا تعتمد على الخطاب النظري فقط, ولكنها تسعى وبشكل عملي على حبس القدرات العقلية للجماهير, وحرف اهتماماتها, وتخريب عقولها, بكل ما يتاح لها من أدوات شرعية وغير شرعية, بما فيها استخدام منجزات التقدم مثل الدموقراطية والتكنولوجيا.
ولعل أحد أسباب اخفاق وضعف حركة التنوير في عالمنا العربي والإسلامي, هو اشتراكها مع حركة التخلف في التعصب الفكري والعرقي والفئوي, وهي حدود تقيد التفكير العقلاني, والشجاعة في نقد الذات, وهي أساس من دونها لا يمكن الحديث عن التنوير.