Saturday, December 26, 2009

هل تغير الشعوب عاداتها؟



الإنسان عبارة عن مجموع عاداته، والعادات هي عادات يمكن أن تكون سلوكية وذهنية، وعندما يمارسها الإنسان كثيراً أو يتمرن عليها، تصبح جزءً من شخصيته، سواء كانت عادات سلبية أم إيجابية، وهذه العادات يكتسبها الإنسان في كثير من الأحيان بشكل تلقائي، حسب ما يتداول في أسرته من أفكار وقناعات وسلوكات، وأحياناً تلعب المدرسة ويلعب الشارع والإعلام دوراً في اكتساب القناعات والعادات، وأحياناً تكتسب العادات بشكل منهجي وتلقيني، فيقوم الوالدان أو تقوم المدرسة بتعليمها عن قصد.
ومن العادات التي يكتسبها الإنسان، تلك التي يعكسها سلوك وأفكار الأهل، وتشكل مثال للطفل، ويتشرب أو يتأثر الطفل بهذا المثال سلباً أو إيجاباً، وتشكل جزءً من شخصيته، دون وعي من الأهل عن مدى تأثير ذلك على الأبناء.
ويصبح السلوك عادة, وتصبح الفكرة عادة عندما تكرر كثيراً, فتصبح أوتوماتيكية, مما يصعب مقاومتها أو تغييرها, ويتعامل الإنسان مع عاداته وكأنها أمور قدرية, لا مناص ولا فكاك منها, فيقال "بوطبيع ما يغير طبعه", والعادة قوية جداً, وقد يكون تأثيرها أقوى من تأثير الدين, بل يتم في كثير من الأحيان عند كثير من الشعوب, وفي كثير من الأديان تطويع الدين للعادات, ومع مرور الوقت يعتقد الإنسان أن عاداته الاجتماعية هي من صلب الدين, حتى لو كانت مخالفة للدين.
فكل الأهل مثلاً يحبون أبناءهم، ويربونهم بالطريقة التي يعتقدون أنها صحيحة، ولكن أساليبهم تكون لها انعكاسات سلبية، مثل ضرب الوالد لولده وقسوته عليه حتى يصبح رجلاً، النية هنا سليمة، لكن الأسلوب خاطئ، مثل حماية الأم الزائدة لأبنائها، هنا نيتها سليمة، لكن تأثير ذلك سلبي على المدى البعيد، مثال آخر على الأم المتسلطة، التي تحمي أبناءها بالإجبار، مثل اختيار الدراسة، اختيار الزوجة، اختيار الأصدقاء.
وردود الفعل للتربية تختلف عند الأشخاص المختلفين, فالضرب والقسوة قد يخلقان شخصية ضعيفة فاقدة للثقة, وقد تكون لديه ردة فعل عكسية, مثل العنف وبلادة المشاعر, أما الحماية الزائدة للأبناء فتكمن خطورتها بأنها قد تنتج أبناءً اتكاليين ضعفاء في مواجهة الحياة ومتطلباتها, غير منتجين وغير مبدعين, وأما التسلط وخاصة من الأم, فيمكن أن ينتج عن ذلك ردود فعل عكسية, أي يقوم الشاب بكل السلوكات التي تناقض ما تربى عليه, أو فرض عليه بالتربية, وكأنه يستمتع بكسر القوانين, حتى وإن كان ذلك بالسر, فالتشدد الديني بالتربية, قد يدفع الأبناء للانحراف, أو على الأقل مخالفة هذه التربية.
لكن الأغرب في تأثير مثل هذه العادة, أن الشاب الذي نشأ على تسلط الأم, قد لايختار إلا زوجة تشبه أمه في تسلطها, ولا يشبع ذهنياً وشعورياً إلا بتسلط زوجته عليه, رغم رفضه الظاهري لتربية أمه, وهنا تكمن البرمجة الذهنية التي تعطي للبشر سماتهم, وهذا يعني أن منطقهم يناقص قناعاتهم أو عاداتهم القاهرة والأوتوماتيكية.
وتتسع دائرة التربية, لتشمل القبيلة والمجتمع, وبعد مرور مئات السنين, تصبح العادات الذهنية وكأنها سمة من سمات المجتمع أو الشعب, فتوصف بعض الشعوب بالبرودة العاطفية, وبعضها بالخضوع, وبعضها بالدموية, وبعضها بالغش, ..الخ, لكن كل ذلك ما هو إلا السائد والظاهر فقط.
لكن حسب العلم, فإن الإنسان قادر على تغيير عاداته وأطباعه, في أي مرحلة من مراحل حياته العمرية, دون انتظار للتغير البيئي مثل الحيوان, إنما بمنهجية وتوجيه وتدريب, وكثير من الشعوب غيرت أطباعها عبر الزمن, ولكن بتوجيه هادف ومقصود من الدولة والنظام والمؤسسات, فهل العادات الأوربية هي نفسها قبل مئات السنين؟
ولأن العادات والسلوك والقناعات هي جزء من ثقافة المجتمعات, فبالامكان تغييرها وتطويرها, فما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع والشعب, فالشعب الذي اعتاد تفرد حكامه بالقرار, لن يتحول في يوم وليلة إلى ممارس للدموقراطية, ولكنها مع التربية العامة, ومع التكرار ستصبح جزءً من العادة والطبع.
كان ذلك جانب من نقاش خلال ندوة قدمتها, وأصر خلالها كثير من الحاضرين على أننا شعوب لن نتكيف مع الدمقراطية, وأن تكويننا يختلف عن تكوين الشعوب الأوربية, وكانت قناعة بعض المثقفين, أن "بوطبيع ما يغير طبعه", حتى بعد مرور آلاف السنين, فموروث ثقافتنا ما زال منذ أيام الجاهلية, وأترك لكم التفكير في هذا الأمر
.

Saturday, December 19, 2009

أعداء النور




كلما استبشرنا خيراً بصحوة الحكومة, واستنهاضها لنفسها, واستعادة هيبتها, كلما قابلتنا بالخذلان, وتركتنا لقمة سائغة للمتخلفين من أعداء النور والحرية, أعداء التقدم والتنمية.
فالشعب الكويتي الذي استبشر خيراً بمواجهة الحكومة, لاستجوابات استعراض العضلات, والانتقاص من هيبتها, سعياً إلى تدمير مكتسبات الشعب, وفرض دولة داخل دولة, وجد أن انتصار الحكومة لم يكن انتصاراً للشعب, وآماله باستعادة دولة المؤسسات المدنية, ولكنه كان انتصار هش وضعيف, فقط لتضمن عبره استمرارها, وتبييض وجهها, وكأنها تعمل لنفسها وليس من أجل شعب يتوق منذ عقود لاستعادة حريته وكرامته, التي سلبها أنصار التخلف.
إن العار الذي ارتكبته الحكومة, برضوخها لنواب الإسلام السياسي, ومنع مفكر من دخول الكويت, هو عار سيحمل وزره الشعب الكويتي, الذي اعتاد احتضان المفكرين, على اختلاف مشاربهم وآرائهم منذ أكثر من قرن, مثل محمود أمين العالم وفؤاد زكريا وعبد الرحمن بدوي, عار على كويت الثقافة والتنوير, التي قدمت للعرب مثالاً ليس له شبيه, في التسامح والدمقراطية, وإثراء الفكر العربي.
إن منع المفكر المصري نصر حامد أبو زيد من دخول الكويت, رغم أنه غير مدان قانونياً, وليس عليه تهمة أو قضية في الكويت, هو إجراء لا تمارسه إلا الدول الدكتاتورية المتخلفة, القامعة لحريات الفكر, وهو إجراء يفقد الشعب الثقة بإمكانية الحكومة وقدرتها على تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري.
أثبتت الحكومة بأنها تخاف من القلة المتخلفة, وأثبتت هذه القلة بأنها تخاف من الفكر المستنير, فهي لم تسعى في يوم من الأيام إلى مواجهة الأفكار بالأفكار, بل سعت دائماً إلى التكفير والإقصاء, لكل ما يخالف فكرها الظلامي.
ولدينا مثال آخر في الأمس القريب, عندما طالبت مجموعة من المشايخ, وسائل الإعلام بمنع نشر فتوى رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكة المكرمة, والتي أجاز فيها الاختلاط, ولم تسعى إلى مقارعة الحجة بالحجة, فهذه الفئة لا تعرف معنى الحوار والنقاش, بل ليس لديها أية قدرات فكرية.
الإسلام السياسي الذي أختطف الكويت, وأطفأ نورها الثقافي والعلمي والحضاري, لن يكتفي ولن يتوقف عن عدائه للحرية والتقدم, حتى تتحقق له دولته الإسلامية, ويفرض أجندته على المجتمع بأسره, على الكويت حكومة وشعباً.
ماذا تبقى من الكويت, ومن عزتها وكرامتها؟ إذا كانت فئة قليلة متخلفة, تستطيع منع الشعب من القراءة والإبداع, إذا كانت تستطيع جرجرة الأدباء والمفكرين إلى المحاكم, إذا كانت تستطيع فرض أفكارها الإرهابية على أطفالنا, ومن خلال مناهج التربية والتعليم, إذا كانت تستطيع إعاقة التنمية وإهدار ثروة البلاد, إذا كانت تنتهك الدستور كل يوم باسم الدستور.
استطاعت هذه الفئة المتخلفة, إدخال عشرات الإرهابيين ومثيري الفتن إلى الكويت, دون أن تحرك الحكومة ساكناً, استطاعت تصدير الإرهابيين, لقتل المسلمين والعرب, في أفغانستان والعراق وغيرها من البلدان, واستطاعت تكوين ثروات لدعم القتل والدمار, من خلال مؤسسات وبنوك وجمعيات, كثير منها غير قانوني, استطاعت إيصال نواب للأمة بطرق غير قانونية, وتهدد أكبر رأس في السلطة التنفيذية, دون رادع من حكومة يتطلع إليها الشعب لانصافه.
هل تريد الحكومة كسب أصوات المشاغبين, وأصحاب الأصوات العالية, على حساب شعبيتها؟ هل تفضل رضاء فئة متخلفة على رضاء الشعب الكويتي عنها؟ هل تفضل الحكومة تلطيخ اسم الكويت, واعتبارها حاضنة للتخلف, ومحاربة للحرية والفكر والثقافة؟ هل تريد إلغاء تاريخ الكويت الذي قدمت خلاله أهم المطبوعات الثقافية والفكرية العربية, وقدمت خلاله أرقى المسرحيات والفنون والآداب, هل تريد إلغاء سمة الكويت المدافعة عن الحريات؟ والتي جعلت شعوب العالم تقف معها في محنة الغزو؟
أظن أن الحكومة تقرأ الشعب الكويتي قراءة خاطئة, وتبالغ في تقدير فئة قليلة, أظن أن الحكومة غافلة عن أجندة هذه الفئة, التي تسعى لتشكيل دولة وفرض قوانين, خارج السياق الكويتي, ومخالفة لآمال وطموحات الشعب في اللحاق بالركب الدولي.
من يمنع مفكر من دخول البلاد اليوم, لا يمكن أن يكون جاداً في السعي للتنمية والتقدم, ومن يربي وحشاً في بيته, فعليه توقع أن يلتهمه وأبناءه, ومن يخضع اليوم, يخضع كل يوم
.

Saturday, December 12, 2009

الرموز والقدسية



في البدء أود أثبت رأيي في أهمية حرية المعتقدات والأديان, كحق للبشر أجمعين, وأشير إلى أن منع المآذن في سويسرا بناء على استفتاء شعبي, يشوبه شيء من إقصاء الآخر, ورغم أنه قرار دموقراطي, اختلفت معه الدولة السويسرية نفسها, والقيادة الدينية المسيحية في العالم, والعديد من الهيئات والتجمعات المدافعة عن حرية ممارسة العقائد, إلا أن ذلك لا يمنع من اختلافنا معه.
وهذا ينطبق على الكويت وبعض الدول الإسلامية, التي تحجر على الديانات الأخرى حرية الممارسة الدينية, وحرمانها من بناء دور عبادتها, وحرمانها من الجنسية, وذلك بواسطة ممثلي الشعب من أعضاء مجلس الأمة, مناقضين بذلك نصوص الدستور التي تكفل حرية العبادة, ورغم أن الكويت والجماعات الإسلامية بنت العديد من المساجد, ومارست الدعوة للإسلام في كل دول العالم, دون اعتراض من هذه الدول, بل وبتسهيلات وامتيازات تكفل الأمان والطمأنينة للمسلمين في تلك الدول.
ولن أخوض كثيراً في موقف الشعوب الأوربية من الإسلام الحالي, والذي تمثله مجموعات أساءت إلى هذه الدول وقوانينها, وأساءت إلى الإسلام المتسامح نفسه, كما روعت شعوب أوروبا وأمريكا, بالقتل والإرهاب والتهديد والعداء السافر, وهذا ما سبب ما سمي بالإسلاموفوبيا, أو رهاب الإسلام, أو الخوف المرضي من الإسلام.
ولكني سأتوقف عند موضوع الدفاع الهستيري عن المآذن, وكأنها شيء قدسي, فالمئذنة رمز غير مقدس, ولم تكن في أصل الدين, ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, لم تكن هناك مآذن, بل بني سقف المسجد الأول من سعف النخيل المستند على دعامات خشبية, وكان بلال يعتلي سطح أحد المنازل ليرفع الآذان, ولكن مع اتساع رقعة المدينة, نشأت الحاجة إلى المآذن, ويذكر موقع وزارة الأوقاف الكويتية الإلكتروني, أن أول مئذنة بنيت في الإسلام, كان في عام 45 هجرية, بناها زياد بن ابيه عامل معاوية بن أبي سفيان على مصر.
وكانت أولى المآذن مربعة لأنها أقيمت فوق أنقاض أبراج معابد رومانية قديمة, بعد الفتوحات الإسلامية, ثم تحولت المآذن إلى أشكال جمالية في العمارة الإسلامية, اختلفت في أشكالها وأحجامها في العصور المختلفة, علماً أن المئذنة التي كانت أحياناً تسمى منارة في العصر الجاهلي, كان يعلق عليها سراج للاستلال على المدينة, وكانت عبارة عن أبراج فوق بعض البيوت.
وهذا ينطبق على القبب في المساجد, فلم تكن القبة من ضمن بناء المساجد الأولى, وأول قبة بنيت في الإسلام, هي قبة الصخرة في الحرم القدسي, بناها عبد الملك بن مروان عام 72 هجرية, ثم أصبحت من روائع فن العمارة الإسلامية, ولكنها كانت موجودة في العمارة اليونانية والرومانية وحضارة ما بين النهرين, فأسقف بيوت العراق كانت قبباً, وذلك لاعتبارات بيئية.
ولم تكن المآذن والقبب في أصل الدين الإسلامي, ولكنها وجدت قبله, كما أن تطور المدن الإسلامية واتساعها, تطلب أن يرفع الأذان من مكان عال, حتى يصل إلى أقصى مكان ممكن, كما لعبت القبب دوراً في إيصال صوت خطيب المسجد, وتردد صداه, خاصة بعدما كبرت المساجد, وقبل أن يكتشف المايكروفون, وهناك كنائس تحولت إلى مساجد, مثل مسجد أيا صوفيا باسطنبول, ومسجد في الأندلس تحول إلى كنيسة بعد احتلال اسبانيا.
نحن البشر من يضفى الأهمية على الرموز, فعلم البلاد عبارة عن قطعة قماش, ولكننا مستعدين للموت من أجلها, وعلم اسرائيل أيضاً قطعة قماش, ولكنه يثير فينا مشاعر سلبية.
وقد كانت للقبائل العربية رايات ترمز لها, ورغم أن اللون الأسود يرمز للحزن والموت عند الحضارات البشرية, إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم, اختاره لراية الجيوش الإسلامية, وأصبح رمزاً لها, وكما أن اللون الأبيض معروف عند الحضارات برمزه للفرح والعرس, فإن اللون الأحمر عند الصينيين هو رمز الفرح, كما أن الهلال ليس له علاقة بالإسلام, ولكن وضعته الدولة العثمانية كشعار ورمز لها, بل أنه أقدم كرمز عند الحضارات القديمة في الجزيرة العربية, أيضاً الصليب ليس له علاقة بالديانة المسيحية, واستخدم بعد المسيح بفترة طويلة, بيد أننا نرى كيف يستخدم كقوة للشفاء, وكقوة ضد الشر والشياطين.
نحن من يمنح القوة والدلالة للرموز, ولا تحمل هي قوة في ذاتها, ولا قدسية في وجودها في حياتنا, ولكن الغريب كلما فتحت هذا الموضوع مع أحد الأخوة, يتعامل معي وكأني أسأت إلى الإسلام, وبدأت بالتجديف
.

Saturday, December 5, 2009

مسألة التنوير




يقول الفيلسوف أوجست كانت, "أن التوصل إلى التنوير يعني خروج الإنسان عن حالة القصور العقلي التي يجد نفسه فيها, والتي هو وحده مسؤول عنها, فإن تكون قاصراً عقلياً يعني أن تكون غير قادر على استخدام عقلك بدون وصاية شخص آخر وتوجيهه, فالإنسان مسؤول عن هذه الحالة, إذا لم يكن سببها نقصاً في عقله وإنما نقص في شجاعته وجرأته على اتخاذ القرار بمفرده".
من المعروف علمياً, أن القدرات الكامنة في عقل الإنسان مطلقة وغير محدودة, ولكنه لا يستخدم من هذه القدرات أكثر من 3%, كما أن الفروق بين البشر في قدراتهم العقلية, لا تكمن فقط بالتعلم والحصول على شهادات عليا, ولا فقط بالمهارات التي يكتسبها في مسيرة حياته, على الرغم من أهميتهما, ولكنها تكمن في استخدام العقل أو عدم استخدامه في التحليل والتفسير, وفهم العالم.
وحسب ويكيبيديا, فتنوير مصطلح يشير إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية, تقوم بالدفاع عن العقلانية ومبادئها, كوسيلة لتأسيس نظام للأخلاق والمعرفة, ففي أوربا القرنين 18 و19 نادى العلماء والفلاسفة بقوة عقل الإنسان وقدرته على فهم العالم وإدراك قوانين حركته وتطوره, واعتمدوا على التجربة العلمية والنتائج المادية, بديلاً عن الخرافة والخيال.
ويؤكد كانت أسباب حالة القصور العقلي في سببين, الكسل والجبن, فتكاسل الناس في التفكير, أدى من جهة إلى تخلفهم, ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم, وذلك بسبب عامل الخوف فيهم, ويرى أن تغيير اتجاه العقول يكون بالتربية العقلية والنقدية, وهذا يشترط الحرية بوصفها ضرورة للتنوير.
ورغم أن رجال الدين المتشددين من غير العلماء, سواء في أوربا أم في العالم العربي, قد حاربوا أي حركة تنويرية, إلا أن العقلانيين فيهم هم من نشر مبادئ التنوير, ومنهم في العالم العربي محمد عبده والأفغاني والكواكبي ورفاعة الطهطاوي وجرجي زيدان, وفي الكويت الشيخ يوسف بن عيسى القناعي والشيخ عبدالعزيز الرشيد وغيرهم.
وهؤلاء الرجال الذين لم يصبحوا تياراً مؤثراً تاريخياً, بمعنى التغيير في بنية الفكر العربي, جاءت آرائهم كردة فعل على الاستعمار والتبعية, رغم أنها نظرت إلى التراث نظرة نقدية, بمعنى إعادة قراءته, ولم ينجح التنويريون الذين أتوا لاحقاً, مثل طه حسين وسلامة موسى, بتشكيل تيار مؤثر في المجتمع, يرتكز على إنتاج المعرفة الجديدة.
وبعد هزيمة 1967م, بدأت حركة الانعزال والانسلاخ والغربة التي مارسها المثقف, مما ترك فراغاً وجدانياً جماهيرياً, أعطى الفرصة لانقضاض الاسلام السياسي على المكتسبات الحضارية, واستفحلت هذه الحركات لدرجة أنها هددت مواقع السلطة في مصر وغيرها من الدول الإسلامية, بل وبدأت السلطات تزايد على الخطاب الإسلامي السياسي الماضوي, خوفاً على مواقعها واستجابة للتهديد الذي مارسه أعداء التنوير, فتخلت عن بناء المجتمعات الحديثة.
فاغتيال المفكر فرج فوده عام 1992م مثلاً, أيده الشيخ محمد الغزالي مؤكداً:"أن مثل هذا الشخص يستحق عقوبة الإعدام التي يتوجب على الدولة تنفيذها, وعندما لا تقوم الدولة بتنفيذ العقوبة, ويقوم أحد المواطنين بأداء هذه المهمة, فلا يوجد في الإسلام عقوبة على هذا الفعل" (الوطن السعودية)., وعندما أهدر دم الكاتب السعودي تركي الحمد, لم تحرك الحكومة السعودية ساكناً لمعاقبة رجل الدين الذي أهدر دمه, وهذا يثبت أن التنوير وتنمية الإنسان ليسا في أجندة الأنظمة العربية, فهي تتبنى ما يوافق ويثبت مواقعها كسلطة, حتى وان كان ذلك ضد مصالح شعوبها في التنمية والتقدم.
لكن يخطئ من يعول على الزمن فقط في التغيير, فالتنوير لا يأتي كمنحة تاريخية, فالبشرية ومن خلال عمرها القصير خاضت معارك من أجل التنوير, وفي كل المجتمعات, حتى في المجتمع الإسلامي القديم, فامتعاض المثقف من الواقع وتذمره وترفعه عن المبادرة, وخشيته من بلل ثوبه, لا يساهم إلا في ترسيخ التخلف وتدمير عقل الإنسان.
فسلوك المثقف سلوك تبريري, ولسان حاله يقول إذا سألت فسأجيب, بينما قوى التخلف لا تعتمد على الخطاب النظري فقط, ولكنها تسعى وبشكل عملي على حبس القدرات العقلية للجماهير, وحرف اهتماماتها, وتخريب عقولها, بكل ما يتاح لها من أدوات شرعية وغير شرعية, بما فيها استخدام منجزات التقدم مثل الدموقراطية والتكنولوجيا.
ولعل أحد أسباب اخفاق وضعف حركة التنوير في عالمنا العربي والإسلامي, هو اشتراكها مع حركة التخلف في التعصب الفكري والعرقي والفئوي, وهي حدود تقيد التفكير العقلاني, والشجاعة في نقد الذات, وهي أساس من دونها لا يمكن الحديث عن التنوير.

Saturday, November 28, 2009

حروب التخلف العربي



في الستينيات, عندما كان تلفزيون الكويت بالأسود والأبيض, كان هناك برنامج فكاهي اجتماعي توعوي, بعنوان "عائلة بوجسوم", يعالج أحياناً بعض السلبيات في المجتمع ويلقي الضوء على بعض الظواهر السلبية, ومن هذه الظواهر التعصب في الرياضة, وفي احدى الحلقات وبعد مباراة مفترضة بين ناديي القادسية والعربي, يلتقي مرزوق سعيد لاعب العربي بالعصفور لاعب القادسية, وكان رويشد الابن الأصغر في العائلة يعتقد أن المباراة هي رياضة عدائية, ويعتقد أيضاً أنه حالما يلتقي هذان اللاعبان سيتعاركان ويتضاربان, بينما كان أخوه جسوم يحاول افهامه أن ما يحدث هو رياضة ودية, وبالفعل يقف اللاعبان ويتعانقان بعد المباراة, ويندهش رويشد من غبائه.
في تلك الفترة كانت هناك أغاني وبرامج عربية توعي جمهور المشجعين, التوعية الرياضية الصحيحة, مثل أغنية مها صبري "بين الأهلي والزمالك محتارة والله", وهذه التوعية العربية لشعوبها, كانت نزعة للتحضر والتقدم بعد التخلص من براثن الاستعمار, والتعصب المتخلف للرياضة, ففي أيام الجاهلية دارت حرب شعواء دامت أربعين عاماً بين قبيلتي عبس وذبيان, بسبب رياضة سباق خيل, بين حصان اسمه داحس وفرس اسمها الغبراء, وأرخت باسم "حرب داحس والغبراء", حرب راحت فيها كثير من النفوس, وسالت خلالها كثير من الدماء.
ولأني مقتنع تماماً, بأن هناك تراجعاً حضارياً عند الشعوب العربية, ومنذ ثلاثين عاماً تقريباً, لأسباب ناقشتها كثيراً, أفرز هذا التراجع الكثير من مظاهر وسلوك التخلف لديها, فكان من المنطقي عودة شريعة الغاب, والتعصب العرقي والطائفي والقبلي والديني, فمع التحضر يسمو الإنسان بسلوكه ويرقى, ومع التخلف ينحط سلوكه حتى يقترب من السلوك الحيواني.
توقف الأنظمة العربية عن مشاريع التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية, وانشغالها وانحيازها لمشاريع النهب والفساد, أتاح الفرصة لسيادة أفكار وسلوكات الفساد والتخلف, مع تضافر عوامل أخرى, مما ترك أثراً على ثقافة المجتمعات العربية, فتوارت قيم مثل التضامن العربي والإخاء بين الشعوب العربية, وغيرها من قيم الوطنية الحقيقية النبيلة, وبرزت أفكار وسلوكات التعصب الجاهلي, كل ذلك في ظل غياب قوى المجتمعات الحية, والتي تركت فراغاً سياسياً, وأخلت الساحة لقوى التخلف.
فالجزائر, البلد الذي قدم مليون شهيد, اثناء مقاومته للاستعمار الفرنسي, وانتزع حريته بمساعدة الدول العربية ومنها الكويت, البلد الذي انطلق بعدها بمشاريع التنمية والتقدم, فرخ خلايا إرهابية أزهقت من أرواح مواطنيها, وأعادت الجزائر إلى ما قبل الثورة وما قبل الاستعمار, ومصر بلد التنوير ورأس حربة الدول العربية, والتي ساهمت بنهضة هذه الدول, ونهل الكثير من أبناء العرب من علمها, فرخت فئات تكفيرية إرهابية, متعطشة للدماء, حتى لم يعد الإنسان يتعرف على ملامح قاهرة المعز, وأرض المفكرين, والكويت التي كانت منارة للثقافة والتسامح الديني, وملجأ للمثقفين العرب الباحثين عن الحرية, فرخت فئات وأفكار وسلوكات غريبة على أهلها وتاريخها التنويري.
كل تلك الهشاشة الحضارية, كشفتها مباراة لكرة القدم بين مصر والجزائر, تحولت إلى حرب استخدمت فيها السكاكين والسواطير, ونقلاً عن طلبة كويتيين في القاهرة, أن فتيات جزائريات تعرضن لمحاولات اغتصاب, ومنع أساتذة الجامعات بما فيهم الخاصة في مصر, طلبة وطالبات من الجزائر دخول الامتحانات, أكرر من قبل أساتذة جامعة, وخرج مذيع مصري على فضائية يشتم بأقذع الألفاظ الجزائر والشعوب العربية, قائلاً:" احنا اللي علمنا الشعوب العربية ازاي تمشي وتاكل, واحنا مستعدين نبقى ولاد كلب نكذب ونلفق في سبيل مصر", وغيرها من ألفاظ لا يصدقها عقل, ولم يكن بعض الجزائريين أقل تخلفاً ووحشية, فإضافة إلى العنف ضد المصريين, قال أحدهم في سبيل الجزائر نحن على استعداد أن نصبح حيوانات, كل ذلك يمكن متابعته على اليوتيوب والإنترنت, وماذا عن موقف زعيمي الدولتين العربيتين؟ لقد كانا مؤيدين لسلوك المشجعين من الطرفين للأسف الشديد.
وفي الكويت بلد عبدالله السالم, بلد الدستور والدموقراطية, وتحت قبة أسمى صرح كويتي, تنحط لغة ممثلي الشعب إلى أدنى من السوقية, وتعلو الشتائم والألفاظ البذيئة, التي يخشى المواطن من أن يسمعها أبناؤه, كان انحطاطاً مخجلاً للإنسان والمواطن الكويتي, حري بأن يجعله غريباً في بلده.
لكن مع ذلك مازلنا نلوم الاستعمار والاستكبار والصهيونية, ونلوم الموسيقى والفلسفة والتفكير والتقدم العلميين, ونعزو تعاستنا لمؤامرات ضد الإسلام والعروبة.

Saturday, November 21, 2009

عندما شاخت المدينة




يصدف في كثير من الأحيان، أن أجلس أمام شاشة اللاب توب، ولا أعرف عماذا أكتب، رغم رغبتي بالكتابة، وأحياناً حاجتي لها، ولم اعرف حتى الآن كيف أحلل هذا الشعور، وهذا الموقف، وكأن هذه الحاجة للكتابة لم تترجم إلى كلمات في عقلي، ولكنها حتماً موجودة، وتحتاج أما إلى بحث أو تلقائية بالتعامل مع الصفحة البيضاء وأزرار الأحرف.
أنا موجود في بيروت، وهي تحوي غنى في الموضوعات، يرجع إلى غنى في الثقافة، لكني قررت أن أحتك بالناس العاديين، وأتداول معهم في شئون حياتهم اليومية، وقد كان أبرز ما لمست عند جميع اللبنانيين باختلاف طوائفهم وتوجهاتهم السياسية، هو الاستقرار النفسي بعد تشكيل الحكومة الجديدة، برئاسة الحريري الأبن، وهذا الاستقرار النفسي جعلهم يلتفتون إلى الأمور التي افتقدوها، مثل الحديث عن جمال مدينة بيروت، وقد أخذني سائق تاكسي محدود التعليم إلى نصب تذكاري عبارة عن كتب متراكمة على بعضها، وقال لي كلما مررت بهذا النصب أتذكر بيروت القديمة التي أعرفها، قبل أن يغزوها التخلف، كان السائق مسلماً، وقال سأريك مظهراً لم يكن يوجد في بيروت في سنوات الستينيات والسبعينيات، وبعد قليل أشار لي على إمرأة منقبة، يغطيها السواد إلى أخمص قدميها، ولأننا تحدثنا عن بيروت قبل ثلاثة عقود، سألني: هل كنت ترى هذا المظهر في الزمانات؟
وأكمل: لم أعد أعرف بيروت التي ألفتها، صمت متفكراً، وكلمت نفسي قائلاً بالفعل هذه مظاهر جديدة على مدينة النور، وتذكرت أنني قبل ثلاثة أسابيع كنت في القاهرة، ورأيت مظاهر جديدة على مدينة التنوير والأزهر الشريف، كان لباس الرجال لباساً على الطريقة الوهابية، أي دشداشة قصيرة ولحية طويلة، وكانت النساء يلبسن نقاباً وملابساً تشبه الملابس الأفغانية، وقد كان بالفعل مظهراً يدعو إلى الاستغراب والدهشة، كيف؟!! هل يعقل أن تتحول عاصمة التنوير العربي إلى الفكر الطالباني؟ والمظهر الموغل في اللا تحضر.
لكنني انتبهت إلى حقيقة مفادها أن جميع بلداننا التي خرجت بجدارة من قبضة الاستعمار، وقادت شعوبها إلى التحرر، والسير باتجاه المدنية، كل هذه البلدان ساد فيها التجهيل والتخلف، ولعب قادتها دوراً حاسماً في انكفائها، كما لعبت قوى التحرر الوطني لدينا دوراً متخاذلاً، وابتعدت عن آمال شعوبها في التقدم والسير على طرق التنمية.
هل نحكي عن مظاهر ضد المدنية؟ لنتكلم عن مساجد الصفيح بالكويت، لنتكلم عن فئة لا تؤمن بالدموقراطية، لكنها تستخدمها لتدمير المدنية والتحضر، لنتكلم عن السلوك المتخلف، وسرقة الشعب الكويتي ومحاولة تقييد حرياته باسم الدين، لنتكلم عن استهداف مشروع التحضر داخلياً وخارجياً.
هل شاخت مدينة بيروت؟ وهل شاخت الكويت؟ هل شاخت كلمة أمير الكويت الأسبق الشيخ عبدالله السالم؟ وهو يقود بلاده على خطوات العالم المتقدم، هل شاخت روح الشخصية الكويتية، روح البحار المنفتح على ثقافات العالم؟ بالتأكيد لا، لكني متيقن أن هناك مؤامرة على الشخصية الكويتية المتحضرة، مؤامرة تريد أن تنشر الفساد والتخلف، تريد امتصاص دم الكويتيين، وتريد حرمانه حتى من الموسيقى، وهي اللغة الأولية للبشرية.
الآن عرفت لم لم أعرف ماذا أكتب، أعرف جيداً أنني غاضب جداً على ما يحدث في بلدي، غاضب على سلب أبنائي وأحفادي حقهم بالفرح والسعادة، على أملهم ببناء وطن سعيد، غاضب على الجميع حكومة ومجلس وقوى وطنية، على سلبنا حقنا بالحرية والسعادة، على سلبنا فخرنا بكوننا شعب مميز، غاضب على التخلف والغباء والتفاهة، غاضب على عقود الفرص الضائعة.
السؤال الذي لم أجبه هو سؤال سائق التاكسي عندما قال، "وين الكويتيين اللي كنا نشوفهم بالزمانات"؟

Friday, November 20, 2009

الإسلام السياسي والرأسمال العالمي

عند التساؤل ما هو التناقض بين الإسلام السياسي والرأسمال العالمي، نجد أن الإجابة البسيطة أنه لا تناقض على الإطلاق بينهما، وخصوصا أن الأخيرة تعتاش على ريع الأولى، وما تنتجه أدوات الإنتاج الرأسمالية، فالإسلام السياسي غير منتج اقتصادياً، ولكنه يدور في فلك الرأسمال العالمي، ويعتاش من وجودها، وقد يكون التناقض الوحيد بينهما هو التناقض الثقافي أو الحضاري، وهو تناقض هامشي وغير رئيسي، بينما تتلاقى وتنطبق مصالحهما الاقتصادية، ليس بصفتهما شركاء في الانتاج، ولكن بصفتهما منتج ومستفيد طفيلي، أو بصفتهما شركاء في استغلال الجماهير.وبالطبع لا يملك الإسلام السياسي مصانعاً وشركات انتاج سلعية ضخمة وعالمية، ولكنه يملك بنوكاً وشركات استثمارية وعقارية ريعية، فلا تناقض طبقي بين الإسلام السياسي والرأسمال العالمي، سواء كان دولاً إسلامية أم أحزاب سياسية.تتكون الأحزاب لتمثل طبقات اجتماعية لها مصالح اقتصادية، بعضها اصلاحي وبعضها يسعى للانقضاض على السلطة، من خلال برامج وأجندات. من خلال العمل الداخلي المشروع مثل البرلمانات ومؤسسات المجتمع، أو من خلال عمل سري تآمري أو حركات تمرد مسلحة، لكن في النهاية لن تكون الغاية هي نشر العدالة الاجتماعية والمساواة بين أفراد المجتمع، بل السيطرة على المقدرات الاقتصادية للدولة، بشعارات قد تبدو ظاهرياً نبيلة وإنسانية.في بدايات تكوينها، ضمت الأحزاب الإسلامية فئات فقيرة وكادحة في مجتمعاتها، واستقطبت الفلاحين وابناء البادية في المجتمعات المختلفة، تلك الفئات لها مصلحة تتناقض مع الرأسمال العالمي، ولكنها نشأت في البداية على أموال الدول الاستعمارية، مثل حركة الاخوان المسلمين في مصر، التي تبرعت لها هيئة قناة السويس البريطانية بمبلغ خمسين جنيها، ومثل حركة طالبان التي قدمت لها الولايات المتحدة الأميركية ملايين الدولارات من ميزانية الكونغرس، إضافة إلى الأسلحة لمقاومة دخول الاتحاد السوفياتي إلى أفغانستان، وقد لا يكون الدعم المادي من الولايات المتحدة مباشرة، بل من حليفاتها من الدول الإسلامية، إلا أنها وبعد عقود تحولت هذه الأحزاب الإسلامية إلى مؤسسات مالية ضخمة، تدعم مثيلاتها في الدول المختلفة.وقد ينخدع البعض بالعنف الموجه من قبل هذه الأحزاب، للدول الاستعمارية التي رعته بالأساس، لكن هذا العنف في جزئيته تحررياً، لكن في استراتيجيته سعياً للسيطرة على البلدان وثرواتها، بشعارات أخلاقية ووطنية، لكن بطرق لا أخلاقية في كثير من الأحيان.فمشروعها الأيدلوجي لا يتناقض مع المشروع الرأسمالي العالمي، بل يتقاطع معه جزئياً، فأميركا مثلاً أطلقت على الإسلاميين في أفغانستان صفة المحاربين من أجل الحرية، لكن هؤلاء المحاربين ظنوا وهماً بأن الفضل يرجع لهم في الانتصار، فتناقضوا جزئياً مع أميركا، لكن يبقى الصراع غير رئيسي.كما أن معارك الإسلام السياسي في مجتمعاته، ليست معارك من أجل الأخلاق كما يبدو على السطح، ولكنها معارك من أجل الحصول على حصة من الثروة، ومن ثم السيطرة عليها، وهذا ما دمج العديد من فئات الإسلام السياسي بطبقة الرأسمالية الكبيرة، وتلاقت معها بغض النظر عن شعاراتها المطروحة.وبعدما كانت الأحزاب الإسلامية تعتاش على مساعدات بعض الدول، أصبحت تسير وتنمو بقوة الدفع الذاتي، بقوة أموالها واستثماراتها، التي ما كانت لتنمو لولا التحالف مع الرأسمال العالمي، والسير في فلكه، إذ لا يوجد ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي خارج سياق النظام الرأسمالي القائم على الربح والعمل المأجور.وعندما يطالب النواب الإسلاميين في مجلس الأمة الكويتي، مطالب شعبية، مثل اسقاط القروض عن المواطنين، هي لا تفكر في مصلحة الشعب، التي لا تكمن في هدر المال العام، ولكنها تفكر في التكسب السياسي، الذي سيدر عليها في النهاية ملايين الدنانير، من خلال المناقصات والفساد الإداري، دون أن تضطر للإنتاج، فالاصلاح والتنمية تعني حرمانها من حصة أكبر من الثروة وبشكل أسرع.ففي مقابل دعواتها الظاهرية في الحفاظ على القيم وما يسمى بالثوابت، تجنح في سلوكها إلى استغلال الشعب وتكبيل حرياته، كما فعل الغرب الاستعماري، وتمارس سلوكاً لا أخلاقياً وبعيدا عن تعاليم الدين، في سبيل الربح وترسيخ النفوذ.

Saturday, November 7, 2009

التسلط الفكري الأبوي



عاشت البشرية عهوداً كثيرة, تحت ظل العلاقة الأبوية البطريركية التسلطية, سواء سلطة القبيلة أو النظام السياسي الاجتماعي, أو السلطة الدينية, وبلغ هذا التسلط أوجه في القرون الوسطى, على يد الكنيسة ورجال الدين في ذلك الوقت.
وشكل هذا التسلط, هو استلاب العقل وغربته عن حقيقتة تكوينه وعن إمكانياته اللامحدودة في التفكير والإبداع.
فقبل عصر التنوير الأوربي, كان السائد هو التفكير واتخاذ القرار بالنيابة, على اعتبار أن السلطة الأبوية هي الأعرف والأفهم والأدرى بالمصلحة, وفي هذا السياق منعت هذه السلطة سواء كانت سياسية أم دينية, أفراد الشعب من التفكير واختيار نمط حياتهم وقناعاتهم, وأطرت عقولهم وحددتها بالاتجاه الذي يناسبها هي كسلطة, وضمنت بذلك سيطرتها وهيمنتها وولائها.
وتعاملت مع أفراد الشعب, معاملة الراعي والقطيع, ولم تسمح لأي فرد بالخروج من سياق مجموع هذا القطيع, فأي خروج سيكون عرضة للعقاب والتكفير والإرهاب, فمع الراعي يمنع التفكير الحر, ويمنع الخروج عن السلطة البطريركية.
هذه السياسة كانت واضحة في إجراءات منع الكتب واحتجازها في معرض الكتاب الأخير, فلا يجب علينا كشعب أن نقرأ ما نريد, وليس علينا أن نتعلم, "فمن تعلم فقد تزندق", فهناك سلطة أبوية سياسية ودينية, تفرض عليك ما تقرأ, وتحجر عليك ما تراه ينمي تفكيرك, وتسلبك حريتك في اختيار طريق المعرفة.
ولأن هناك علاقة جدلية بين الحرية والتقدم, نجد أن الدول العربية والإسلامية في ذيل الركب الحضاري العالمي, ومن جميع النواحي العلمية والتكنولوجية والاجتماعية والسياسية, وهذا لا يختلف عليه اثنان.
لكن منع حرية القراءة والمعرفة في الكويت, لم تبلغ هذه الدرجة من التسلط, إلا بعد تنامي نفوذ جماعات الإسلام السياسي, فهذه الجماعات لم تكن قط قادرة على المجادلة والحوار وإعمال الفكر, ولكنها دائماً استخدمت مع الآخر سياسة التسلط والفرض والترهيب والتكفير والإقصاء, كانت وما زالت تخشى من العقل البشري ومن التفكير, ونظرة سريعة وعابرة على التاريخ, نجد التنكيل والقتل لمن يتجرأ ويفكر, ولمن يخرج عن القطيع, خاصة على يد النفوذ الديني.
وتشكل على مر العقود والقرون, ما يسمى في علم النفس "الخوف من الحرية", أو "قطها براس عالم, واطلع منها سالم", وهي احدى المشكلات النفسية الواضحة عند الشعب العراقي, الذي لم يعتد الحرية لسنوات طويلة, فأصبح هذا الخوف عادة, ويحتاج إلى سنوات طويلة كي يتعافى منها.
وحتى الناشرين المشاركين بمعرض الكتاب, اعتادوا هذا التسلط السنوي, وتعاملوا مع الكويت على أنها المحطة الأكثر تخلفاً, فأرسلوا الكتب الممنوعة في الكويت إلى معرض الشارقة الذي يلي هذا المعرض, حيث نسائم الحرية, وحيث أن اختيار الإنسان الإماراتي مطلق فيما يريد أن يقرأ, وهذا ينطبق على معظم دول الخليج, التي رأت في الانفتاح على الكتاب, ضمانة للاستقرار النفسي النسبي لشعوبها, وأنه مع التقدم التكنولوجي, فسيكون من السخافة منع كتاب.
التسلط الأبوي هو إرث اجتماعي تأصل أكثر في الثلاثة عقود المنصرمة, بعد أن كان معرض الكتاب في الكويت, ثاني أكبر وأقدم معرض كتاب في الدول العربية, عندما كانت الكويت واحة للحرية, ووطناً طموحاً للتقدم.
أصبح التسلط الأبوي إرثاً متأصلاً عند جميع فئات وطبقات المجتمع, بما فيها القوى الوطنية الحية, فقد ظلت القوى الوطنية ولعقود طويلة, مرتبطة برموزها بهذه العلاقة الأبوية, واي تمرد عليها هو تمرد على مقدسات, وانتقلت هذه العدوى إلى القوى الطلابية الشبابية, فكثيراً ما نشبت خلافات بل معارك في صفوف الحركة الطلابية الوطنية, مدفوعة بهذه النزعة الأبوية المتسلطة, لكنها مع الأسف وبدلاً من نقدها لذاتها آثرت "الطمطمة" والتكتم على خلافاتها, وهذا يضعفها تنظيمياً, ويفقدها مصداقيتها وجديتها ونضجها.
ومع إيماني الكامل بالقوى الشبابية, وقدرتها على تجديد دماء الحركة الوطنية, ومع الآمال التي أعلقها على أفكارهم الجديدة, وعلى عزيمتهم ونشاطهم وحبهم للوطن, إلا أن الإنجاز لا يمكن تحقيقه, دون نقد علمي متجرد للذات, دون الاعتراف بالنواقص الفكرية والسلوكية, ودون التخلص من التربية السياسية القديمة والإرث الاجتماعي المتخلف.

Sunday, November 1, 2009

المرض والعرض



يلجأ الكثير من الأطباء لمعالجة الأعراض وليس الأمراض التي سببتها, والسبب عادة هو قلة الدراية في العلم, والبساطة في التحليل, والاستعجال في التشخيص, فإذا أتى مريض يشكو من صداع مثلاً, يصف له الطبيب "بنادول", وإن أتي مريض يشكو من ألم بالمعدة, يصف له الطبيب "زنتاك", دون دراسة السبب في الصداع الذي يمكن أن يكون بسبب النظر أو الضغط النفسي, أو غيره من مئات الأسباب, وكذا الأمراض الأخرى.
وكذلك فيما يسمى بالأولويات, أو الاستراتيجة والتكتيك, سواء بإدارة الأعمال والاستثمار, أو في العمل السياسي, أو حتى بإدارة الحياة الشخصية, كلها تعني وضوح الرؤية والخطوات, التي من دونها ستختلط الأولويات وستتخبط المنظمات والأفراد, وستضيع الخطوات مما يؤخر التقدم والإنجاز في هذه المجالات.
ولهذا الغرض يجب وجود إطار نظري يستند إليه, مثل دراسة إدارة الأعمال أكاديمياً, أو في حال المنظمات السياسية نظرية متفق عليها, تحدد القضية الرئيسية والثانوية, فمثلاً في لبنان هناك جدل بين بعض المثقفين حول العدو الرئيسي والعدو الثانوي, هل هي هو العدو الصهيوني, أم القضية الطائفية بالنسبة للشعب اللبناني, وأيها كانت السبب وأيها كانت النتيجة.
وما يحدد هذا الأمر هو الوعي والإدراك لنقطة الإنطلاق في طريق التقدم, سواء على المستوى الشخصي أم على مستوى المؤسسات التجارية, أم على مستوى المنظمات السياسية, هل يجب التفكير بالربح الكبير السريع, أم بالكسب القليل الثابت والدائم, هل نفكر بالانتصارات الدون كيخوتية الكبيرة, أم بسياسة اكسب وطالب.
إذاً الوضوح الفكري, مقابل ردة الفعل العاطفية, ماذا نحارب السبب أم النتيجة؟ ماذا نعالج المرض أم العرض؟ فالقراءة الصحيحة للواقع تضمن تحليلاً سياسياً واضحاً, وخطوة عملية ثابتة وواقعية, وتشخيصاً علمياً يضمن علاجاً ناجعاً.
والوضوح الفكري يعني وضوحاً في رؤية الأولويات, والنهج الواجب اتباعه للإنجاز أياً كان مجاله, والتكتيك المناسب للظرف والمرحلة, ظمن الإطار النظري والاستراتيجية أو الهدف.
في الكويت من منا لا يعرف دور مجلس الأمة في تعطيل التنمية واستمرار الفساد, ومن منا لا يعرف ضعف الحكومة ورضوخها للأصوات العالية, وغض النظر عن الفساد, لكن هل تدارسنا معركتنا ضد من وضد ماذا؟ من هو أو ما هو العدو الرئيسي للشعب الكويتي؟ هل تدارسنا ما هي أسباب التراجع الذي منيت به الكويت؟ هل السبب هو الحكومة أم المجلس أم الدمقراطية؟ ومن أين يأتي التضليل واستنزاف وتشتت القوى؟ وماذا أصبح مآل مكتسبات الشعب المدنية والحضارية؟ الذي ناضل طويلاً لاكتسابها, ربما لقرن كامل.
ما هي قضيتنا الراهنة كشعب؟ هل هي وزير الداخلية؟ أم وزير الصحة أم وزير المالية؟ أم هي استعادة هيبة الدستور والقوانين ودولة المؤسسات العصرية؟ وهل يقوم وزراؤنا الوطنيون بدورهم كرجال دولة, بطرح وتنفيذ مشاريع تنموية والدفاع عنها؟ وهل يقوم نوابنا ونائباتنا بدورهم بالتصدي لمحاولات إفراغ الدمقراطية من محتواها, وحرفها عن مسارها مثلما يرمي الفساد والتخلف؟
ومن يقود من في هذا الأمر, الشعب أم قواه الوطنية؟ ومن أين يجب أن تأتي المبادرة؟ وما هي الحلول للمرحلة المقبلة؟ وأين يجب توجيه الطاقات؟
إذا كنت طبيباً وجاءك رجل متعدد الأمراض, فماذا تعالج أولاً وثانياً, حتى يعود الرجل إلى عافيته؟ وعلى ماذا تستند في قرارك؟ على حدسك أو على ردة فعلك أم على العلم؟

Monday, October 26, 2009

شارع الحمرا






عندما تسير في شارع الحمرا في بيروت، لا تستطيع كبح شعور «النوستالجيا» والحنين لماضي هذا الشارع العريق، حنين الى اكتظاظ المقاهي والكافيهات، بالمفردات الثقافية بنغمات عربية مختلفة، والمفعمة بالآراء الحداثية والثورية في سبعينات القرن الماضي، وقبيل الحرب تحديداً، كافيهات مثل الومبي والمودكا وكافيه دوباري، وغيرها من الأماكن التي كانت تشكل «الرانديفو» الثقافي أو مكان اللقاء الذي لا يمكن تضييع بوصلته عند أي مثقف عربي.ضم هذا الشارع اللاجئين السياسيين العرب، والهاربين من جحيم أنظمتهم الدكتاتورية، حينما كان الرأي المخالف جريمة يتعرض صاحبها الى التعذيب الوحشي في الزنازين العربية، والاعدام أحياناً، كانت بيروت هي الجدار الأخير للمثقف العربي، من كل جهات الفكر اليساري، ومن كل مدارس الشعر الحداثي، كانت تلك الكافيهات هي مصنع العصف الفكري، الذي صاغ المفردات العربية التي كانت ترمي الى تقدم أوطانها.لم يبق من ذلك غير الهم الواحد والمأزق الواحد في الأوطان، ولم يعد الشارع العربي معبدا «كهاي وي»، بعد الصدمات والمؤامرات التي تعرض لها المشروع الحضاري العربي، المؤامرات التي أتت من الداخل، وعلى أيدي الأنظمة وعلى أيدي المثقفين ذاتهم، مؤامرات أربكت الأفكار والمواقف، وبدلاً من الــــوقفة الجادة والنقد الذاتي، علقت أسباب الانتكاسات على مشجب الامبريالية والاستعمار كما هي العادة، وهذا ليس الخطأ كله ولا الحقيقة كلها، وانتقلت مواقع المثقفين من صف الجبهة والمبادرة الايجابية، الى مواقع خلف المتاريس، مواقع الدفاع والتباكي والمكابرة.ورغم خصوصيات الشوارع العربية، الا أن كل الاشارات ومنذ ثلاثين عاماً، كانت تشي بان الهم سيكون واحداً والمأزق سيكون واحداً، لأن الميراث الثقافي العربي القومي كان ما يزال في البنية الذهنية للمثقفين، واستنزف المشروع القومي طاقات المثقفين، ولم يجددوا عاداتهم وأنماط تفكيرهم وسلوكهم، فأصبح غزو دولة عربية لأخرى حدثا ثوريا، لأنه ببساطة أو بخفة موجه ضد الامبريالية، وكل من يقف ضد أمريكا نقف معه، كما قال أحد القادة الثائرين العرب عام 1990، واختلف العدو واختلفت الأولويات، ولم يضع المثقف أي اعتبار لمواجهة التخلف، والشخصانية التي قادته الى المأزق، والضعف النظري الفكري الذي قاده للتيه.ان الاختلال الذي أصاب الشارع الكويتي وأصاب قواه الحية، أصاب كل الشوارع الثقافية العربية، والذي بدأت اشاراته قبل ثلاثة عقود، هذا الاختلال أعمى كثيرا من المثقفين عن رؤية الخطر الذي يستهدف مشروعه الحضاري المدني، يستهدف مؤسسات المجتمع المدني التي كانت إحدى المكتسبات التاريخية، ولم يعد الأمر مراكز وأطرافا ثقافية، لأن كل الشوارع العربية أصبحت أطرافاً في النسق الثقافي العالمي.من يجرؤ على فرض رؤاه الخارجية على قضايا شعب، أو اطلاق الأحكام دون مسؤولية، لكني أزعم أن القوى العربية الثقافية الحية، تخلت عن الفكر الثقيل من أجل السياسي الآني الخفيف والزائل، واستنزفت طاقاتها في السياسة اليومية، وارتفع شأن الصحيفة اليومية على حساب الكتاب الفكري العميق.ورغم أن الطاقات الشبابية الجديدة، تعيش نوستالجيا وحنينا للمجد السابق، الا أن حركتها هي تعبير عن رفض واحتجاج للثقافة الشائخة، فلديها أفكارها وأساليبها الجديدة والمبتكرة ومحاولاتها للخروج من المأزق، وهي محاولات يجب أن تحترم، دون ضغط وخنق، ودون تركها لتضخم ذواتها حد الانفجار، فهي الدليل على حيوية الشعوب وافرازاتها المتجددة.في شارع الحمرا اكتشفت مقاه وكافيهات جديدة، بعضها قديم متجدد وبعضها شبابي بحت، مثل كافيه أبو ايلي، الذي تغطي جدرانه صور الثوار والفنانين، وكافيه تاء مربوطة وفرقته الموسيقية «نشاز»، والتي تذكر بالرفض الهيبي والتمرد الشبابي على الواقع، وكافيه سمبلي رد الذي يضم مكتبة ومعارض تشكيلية وفوتوغرافية، وكذلك كافيه وليمة وفرقته «شحاذين يا بلدنا» التي تضم أساتذة في معهد الكونسرفتوار وتهتم بالموسيقى العربية النوعية.ثلاثين عاماً ليست طويلة في أعمار الشعوب، وقد لا تكون كافية للنقد الذاتي والتقييم، والخروج من المأزق الثقافي، ولكنها بالتأكيد تعطي مسافة للنظر من بعيد، خارج دائرة السخونة العاطفية، وتغيير اتجاهات التفكير والخطاب الثقافي، واللحاق بالواقع المتغير بوتيرة سريعة، واعادة الاعتبار لدور المثقف في الريادة، وقيادة المجتمعات التي انتظرت طويلاً لتغليب الحكمة على التشنج والشخصانية والتباكي والمكابرة.* من بيروت


إبادة الكتب في التاريخ



عبر عصور التاريخ, كان الكتاب هو ألد أعداء أصحاب الفكر المنغلق, مثل بعض الملوك والأنظمة والطوائف والمذاهب الدينية والتحزبات السياسة والعرقية, فكل فكر جديد ومغاير, وكل رأي مختلف, يشكل خطراً على هذه الجماعات, ويجب أن يقصى ولو بالعنف, بل وصل الأمر في العصور الماضية والعصر الحاضر, أن استخدام العقل أمر محرم وممنوع ومحظور.
وكانت الحجج وما زالت, هي الحجج الممجوجة والضحلة, مثل الخطر التي تمثله الكتب على النظام والدين وثوابت المجتمع والوحدة الوطنية, واعتبر مؤلفيها زنادقة ومارقين ومخربين وخونة وفاسدين أخلاقياً وماجنين وخارجين عن القانون, ومعظم الكتب التي اعتبرت خطرة, هي التي استخدم فيها العقل أو الإبداع أو المختلفة عن المألوف.
وسلطة منع الكتب أو إبادتها, قد تكون سلطة الحكم السياسية, ويمكن أن تكون سلطة أخرى, مثل السلطة الدينية, التي كان لها الدور الأعظم في حرق وإبادة الكتب عبر التاريخ, وفي جميع الأديان, سماوية كانت أم غير سماوية, رغم أنه لا يوجد دين يمنع الحوار بين المختلفين, بل يشجعه, لكن من يمنع هي السلطة الدينية ومن يمثلها, أو من يعتبر نفسه ممثلاً للخالق على الأرض, مثل رجال الكنيسة في عصور الظلام الأوربية, والمتشددين الأصوليين الإسلاميين واليهود وغيرهم, الذين يعتقدون أن من صلاحياتهم الوصاية على ما يقرأ الناس ويفكروا به.
ويعرف التاريخ الإسلامي العربي, أمثلة على حرق الكتب, وقتل مؤلفيها, فمثلاً الخليفة العباسي المهدي, اتهم المانويين بالزندقة والإلحاد, فأحرق كتبهم وقتلهم, وأتهم ابن سينا وأبو حيان التوحيدي والماوردي بالزندقة, كما أحرق المسلمون مكتبة الإسكندرية وصنعوا نعولاً من جلود المخطوطات القيمة والنادرة, كما ارتكب هولاكو إبادة لكثير من الكتب القيمة في بغداد وغيرها, وفي الصين أحرق الامبراطور كين, مؤسس الصين الموحدة, والذي أمر ببناء سور الصين, جميع الكتب التاريخية والعلمية الصينية, وكان عددها مئة ألف, ولما احتج 400 من العلماء, دفنهم أحياء, كما أحرق يوليوس قيصر الامبراطور الروماني مكتبة الاسكندرية عام 48 ق.م, كما تم تدمير مكتبات أوربية تحوي مخطوطات ومراجع نادرة لا يمكن تعويضها, على يد نابليون, وكذلك أثناء الحربين العالميتين.
وأشهر محارق الكتب, هي محرقة غرناطة, بعد مرور خمسة قرون على الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس, عام 1492م, في ساحة الرمبلة, في محاولة لمسح التاريخ وإلغاء الذاكرة, على يد الكاردينال سيسنيروس وبأمر من الملكة الاسبانية إزابيلا والملك فيرديناد, ويقدر عدد الكتب التي أحرقت بمليوني وخمسة وعشرين ألف كتاب, ومن الكتب القيمة التي أحرقت كتاب ابن حزم "طوق الحمامة" وكتاب ابن رشد "في الفلسفة" و أبو زهر الاشبيلي "في الطب" ودواوين الشاعر ابن زيدون, وغيرهم المئات من العلماء.
وفي أوربا الظلامية, أحرقت كتب قيمة لمارتن لوثر, وكتب الشاعر جون ميلتون, والأسقف مار كانتون دومينين, وغيرهم الكثير, كما أحرق هتلر كل الكتب الليبرالية والماركسية وأعمال فرويد النفسية وأعمال توماس مان, وكل ما أعتبر مخالفاً "للفكر النازي والروح الألمانية", كما أحرق البرلمان المصري في سبعينيات القرن الماضي, كتاب ألف ليلة وليلة.
هذه أمثلة بسيطة على ظاهرة معروفة في التاريخ, ظاهرة العداء للانفتاح واستخدام العقل في التفكير, وأتساءل لو لم تحرق هذه الكتب والعلوم, هل سيتغير وجه التاريخ؟ حتماً لأن الأمر لا يتعلق بمتن الكتاب فقط, لكنه يتعلق أكثر بأسلوب تفكير الناس, وبنائهم المعرفي العلمي التراكمي, واتساع مداركهم وطرق حواراتهم, بيد أن إحراق الكتب ساهم في تحديد الفكر, أي وضع حدود وأطر, وأسهم في التلقين وقبول المتلقي دون مناقشة وإلا تعرض للعقاب.
الآن بالطبع لا يمكن حجر فكر, مهما تعسفت سلطات المنع, بسبب التطور التكنولوجي, ولم تختفي من الوجود كل تلك الكتب التي أحرقت عبر العصور, فقد تم تهريب بعضها على يد الوراقين الناسخين, وهذا وضع سلطات المنع والإبادة في وضع ضعيف وسخيف, لكن جرائم الإبادة والإقصاء استمرتا عبر التاريخ, وسيأتي يوم لا يمكن فيه منع فكرة أو رأي, وخاصة أن الفكر الإنساني في إبداع وولادة دائمين.
وأتساءل مرة أخرى مع اقتراب معرض الكتاب العربي في الكويت, ألا تعتبر الرقابة ومنع الكتب, أياً كانت السلطة سياسية أم دينية, ألا تعتبر استمراراً تاريخياً لإبادة الكتب؟

ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين




هذا عنوان كتاب للشيخ عبد الجليل عيسى, عميد كليتي اللغة العربية وأصول الدين, وعضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف, "1888م – 1984م", وهو كتاب عقلاني يبحث في نقاط الخلاف وأصولها بين المذاهب الإسلامية المختلفة, والكتاب متاح لمن يريد قراءته, أو تحميله من الانترنت.
ويقول الشيخ عبد الجليل في مقدمة الكتاب:"كان بعضهم يفهم الآية أو الحديث فهماً, ويفهم غيره فهماً آخر, فيناقش كل صاحبه بالتي هي أحسن, فإن كانت النتيجة اتفاقاً حمدا الله تعالى, وإن كانت الأخرى عذر كل صاحبه, وانصرفا صديقين متحابين, ثم خلف من بعدهم خلق قدسوا هذه الآراء, وبالغوا في التعصب لها, والطعن فيما سواها, فتشعبت بهم الطرق, وتعرجت المسالك, وأبعدتهم عن الأصل (الكتاب والسنة), وتعادوا كما يتخاصم ويتعادى أتباع الديانات المختلفة". انتهى الاقتباس.
ويذكر عبد الجليل عيسى العديد من نقاط الخلاف الثانوية بين المسلمين, والتي لا تحتاج إلا إلى استخدام العقل والمنطق, مثل جواز تخليل اللحية أثناء الوضوء, والتسمية عند الوضوء, وحلق اللحية, ووصل الأمر إلى التشكيك بإيمان المذاهب لبعضها وتكفيرها, ففي فصل "بعض آثار هذه الخلافات المحزنة", يذكر المؤلف أن أحد رجال الدين أفتى عندما سأل:"هل يجوز للحنفي الزواج من إمرأة شافعية؟", فأفتى:"يجوز للحنفي أن يتزوج الشافعية لا على أنها مؤمنة, بل بقياسها على الكتابية (اليهودية أو النصرانية), التي تجوز للمسلم بالاتفاق" ص 71.
وللعلم أن للشيخ عبد الجليل عدة مؤلفات منها "المصحف الميسر", وهو تفسير رائع وعقلاني للقرآن الكريم, لا يتمسك فيه بظواهر اللفظ, ويقرب الإنسان من دينه, ويبسطه له, ولكنك إن بحثت عنه في المكتبات الإسلامية (في شارع بن خلدون) لن تجده, وكأنه كتاب محرم, كما أن له أيضاً كتاب بعنوان "اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم", وهو منوه عنه في الانترنت, والمفترض أنه متاح للقراءة, ولكني زرت بعض المواقع, من أجل تحميل هذا الكتاب, فوجدت الملحوظة التالية باللغة الإنجليزية, "أزيل الكتاب نظراً لمحتواه", وهنا أعود للتذكير بأن المؤلف كان عميد كليتي اللغة العربية وأصول الدين, وعضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف.
ومثل هذا الكتاب, هناك كتب كثيرة في التفسير وغيره من الشؤون الدينية الإسلامية, تكاد تكون ممنوعة في بعض البلدان الإسلامية, رغم رصانتها العلمية, أو على الأقل مغيبة وغير متاحة للقارئ, بيد أن هذا التغييب يأتي من النفوذ الديني للجماعات المتشددة, والتي تؤثر حتى في قرارات وقوانين الحكومات, مثل منع بعض الكتب الدينية وغيرها, والتي تخالف آرائها من البيع في معارض الكتب.
وللمتتبع للكتاب الإسلاميين في الصحافة هذه الأيام, لا يجد مثلاً استشهادات بآراء الشيخ محمد عبده, وخاصة في موضوع شرعية الحجاب والنقاب, حيث قال أن "لا نص في الإسلام يوجب النقاب والحجاب (المجلدات-دار الشروق), أنما هي عادة اجتماعية عرضت عليهم من مخالطة الأمم فأخذوا فيها وبالغوا وألبسوها لباس الدين, كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين منها براء..وتغطية الوجه هي من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده" انتهى.
وواضح تماماً أنه صراع بين العلماء العقلانيين والمتشددين والأكثر تشدداً في الدين, كما هو حاصل دائماً, ففي النصف قرن الماضي وربما أبعد قليلاً, أصبح هناك نزوع أكثر نحو الانغلاق والغلو في الدين, واستبعاد كل ما هو عقلاني, وهناك حرب ضارية ضد مظاهر التسامح الديني والفرح وحتى البشاشة والابتسامة, والإخاء بين الشعوب والأديان.
فالكويتيين السنة الذين نزحوا من نجد وأرجاء الجزيرة العربية منذ مئات السنين كان معظمهم يتبع المذهب المالكي, وهو مذهب متسامح نسبياً, وأصبح هذا المذهب لاحقاً مذهب الدولة, لكن من نزح في بدايات القرن الماضي أو قبلها بقليل, كان كثير منهم يتبع المذهب الحنبلي, وهو مذهب الشيخ محمد عبد الوهاب, والذي يعتبر مذهباً متشدداً كما هو معروف, يرى أنه الأصح بالاتباع, وانتشر هذا الاتجاه المتشدد في الدول الإسلامية لظروف تاريخية موضوعية وذاتية معينة.
لكن عند قراءة متأنية للتاريخ الإسلامي, نجد أن هذا التشدد ليس أبدياً, ولن يكتب له النجاح كنمط حياة للمسلمين, بل هو حقبة تمر على الأمة الإسلامية, مثلما مرت من قبل, ثم يعود الإنسان إلى فطرته وطبيعته, فدماغ البشر موجود, والعقل في إتساع بسبب تراكم المعرفة, وما التناحر بين الفرق الإسلامية, الدامي أحياناً, وما الخسارة التي يمنى بها الغلو في كل يوم, إلا دليلاً على رسوخ أصل الأديان وتعاليمها الإنسانية والأخلاقية في ضمائر البشر.

Saturday, October 3, 2009

ما مشكلتنا؟




في الأسابيع الماضية, تم افتتاح مشروعين تنمويين ضخمين, المشروع الأول هو افتتاح مترو دبي, والمشروع الثاني هو افتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية, وهما من المشاريع الخليجية التي نفخر بها.
وهذان المشروعان, يعمقان من ناحية أخرى, الخيبة الكبيرة التي تسكن الشعب الكويتي منذ ثلاثين عاماً, الذي اغتصب الفساد آماله ببناء دولة حضارية حديثة, وأجهض سراق المال العام أحلامه, في تأمين مستقبل آمن لأبنائه.
في دبي هناك شجاعة ومبادرة, وفي المملكة العربية السعودية, هناك رجل آمن بضرورة العلم والانفتاح على العالم, في دبي قال الشيخ محمد بن راشد ذات مرة: "أريد أن تكون دبي الرقم واحد, ولن أرضى بغير المركز الأول", وهو رجل يقول ويفعل, ولا يخشى المشاركة في السباق العالمي من أجل الأفضل لشعبه, لديه روح تنافسية عالية, ويحب أن يرى الفرح بعيون أبناء شعبه, وفي الشارقة هناك رجل آمن بالثقافة, وقدرتها على خلق مواطن مهذب النفس, فالثقافة تترك تأثيراً جوهرياً على تحضر الشعب وانفتاحه على المدى البعيد, هو آمن بالإنسان كثروة أساسية للتقدم والبناء.
وفي المملكة العربية السعودية, يضرب خادم الحرمين الشريفين مثالاً للقوة وبعد النظر, فالجامعة التي افتتحت في جده, هي صرح علمي دولي, يضاهي أحدث ما وصل إليه البحث العلمي في العالم, وإضافة جادة لمراكز البحث العلمية في الكرة الأرضية, ولأن الرجل يدرك بحكمته, أنه لا يستقيم التقدم العلمي, مع التخلف الاجتماعي, وأنه لا تعارض بين العلم والدين, فقد اتخذ قراراً شجاعاً بضررة اختلاط المرأة بالرجل, وعدم السماح لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدخول الحرم الجامعي, وبذلك يقول لا سلطة فوق سلطة القانون, ولا سطوة فوق سطوة العلم والتقدم, ليبق الدين لله والوطن للجميع, ولتلج المملكة العربية السعودية للقرن الواحد والعشرين, ولو بتأني.
قد تبدو النظرة مثالية, والآمال أكبر مما يحتمله الواقع ومعطيات التاريخ والتحول الاجتماعي والسياسي في هذه الدول الخليجية الشقيقة, لكن الغريق يتعلق بقشة, فكل ثقب يدخل منه علينا هواءً في زنزانة التخلف التي نعيش فيها, ينعشنا ويطيل أمد بقائنا, وآمالنا بعدوى التغيير, أو الغيرة الإيجابية.
الكويت, البلد الدمقراطي الأول في الخليج, والنموذج الذي كان يحتذى, أصبح أكثر النماذج تدهوراً في مشاريع التنمية, وبناء الإنسان, فقد نشرت القبس في عدد يوم الجمعة 25 سبتمبر 2009م, تقريراً لمنظمة الشفافية العالمي, يشير أن الكويت قد تراجعت 5 درجات في مؤشرات مدركات الفساد, وبذلك يصبح ترتيبها الخامس بين دول الخليج, والمخجل في التقرير أنه يذكر أن "البرلمان الكويتي يأتي على رأس المؤسسات التي استشرى فيها الفساد", كما أن رئيس الوزراء الأسبق توني بلير, يشير في تقريره عن تردي المستوى التعليمي في الكويت, إلى دون المعايير الدولية في التعليم, والأسباب التي ذكرها يعرفها جميع الكويتيين, وكتب حولها الكثير في الصحافة الكويتية.
ورغم كل هذه التقارير المخجلة بحق الكويت, وغيرها مما يعرفه الشعب الكويتي, ما زال بعض النواب يطالبون بتبديد الأموال لدغدغة مشاعر المواطنين, دون الالتفات لمستقبل الوطن وأجيالنا القادمة, وأصبح بعض الفاسدين من عديمي الضمير, أشبه بالجراد الذي يحط على حقل أخضر, ويغادره صحراء قاحلة.
ما زلت الدولة تضاعف نفقات التعليم الجامعي, بسبب من قانون متخلف يمنع الاختلاط في الجامعات والمعاهد, وتغيرت ملامح الساحة الكويتية, وتضاعفت أعداد العمالة الهامشية, بسبب تجار البشر, وتطول وبشكل يومي قوائم التردي والفساد والتخلف, ولا فرسان في الساحة يستجيبون لنداء الكويت.
وهنا نكرر بأننا لا نستثني أحداً, ولا نستثني سلطة أو مؤسسة, فالجميع مدان أما بالمشاركة في الفساد, وأما بالضعف والتخاذل, وغياب القرار الجرئ.

Saturday, September 26, 2009

رحلة بالداسار ونهاية العالم



رحلة بالداسار, هي الرواية الثامنة للأديب المبدع, اللبناني الأصل أمين معلوف, كتبت في الأصل باللغة الفرنسية, وصدرت باللغة العربية عن دار الفارابي عام 2001م.
وبالداسار هو تاجر تحف وكتب ومخطوطات أثرية, من عائلة أمبرياتشي الجنوية العريقة, والتي استوطنت منطقة جبيل بلبنان من أيام الحروب الصليبية على الشرق, وفي الرواية يحصل بالداسار على كتاب "الاسم المئة", الذي يفترض وجود اسم أوصفة لله غير معروف, إضافة إلى الأسماء التسعة والتسعين, و المؤلف هو المازنداري, حصل عليه من رجل عجوز سرعان ما مات, دون أن يتمكن بالداسار من دفع ثمن الكتاب, ثم يشتريه موفد البلاط الفرنسي مارمونتيل, ويصطحبه معه في رحلة بحرية إلى القسطنطينية, ويكتشف بالداسار أهمية الكتاب الذي يبحث عنه الجميع, بل ويمنع في بعض ولايات الدولة العثمانية الحديث عنه, أو الاحتفظ بنسخة منه.
والكتاب يتنبأ بسنة نهاية العالم, وهي سنة 1666م, التي سميت بسنة الوحش, ومن سينجو من هذه النهاية, فقط من يقرأ الكتاب ويعرف بالتالي الاسم المائة لله, كما يفترض مؤلف الكتاب, ومن هنا اكتسب هذا الكتاب ومحتواه كل هذه الأهمية, لدى معتنقي الديانات السماية الثلاث, الإسلام والمسيحية واليهودية, وآمن كثير من الناس بتاريخ نهاية العالم.
وتبدأ رحلة بالداسار للبحث عن الكتاب في أغسطس 1665م, وهي رحلة مليئة بالمغامرات انتقل فيها بالداسار وابني أخته وخادمه وسيدة تبحث عن زوجها الذي هجرها, وقيل أنه مات, من جبيل إلى القسطنطينية إلى أزمير, ثم جزيرة شيو اليونانية, فجنوا ثم لندن, ليعود مرة أخرى إلى جنوا مروراً بباريس وبعض المدن الفرنسية, ملاحقاً في هذه الرحلة أثر الكتاب من مدينة لأخرى, حتى يعثر عليه عند قس مسيحي في لندن, مسجلاً أثناء الرحلة مشاهداته وانطباعاته في أربعة دفاتر يضيع ثلاثة منها.
ورحلة بالداسار, هي رحلة البحث عن الذات, رحلة القلق الوجودي الدائم الذي يرافق الإنسان في كل العصور, الرحلة تمثل السؤال الفلسفي والديني عن الحياة والآخرة, أو مصير البشرية, ولكن سنة 1666م مرت, والسنة التي تلتها مرت دون أن ينتهي العالم, لكن العقل البشري فسر الأحداث التي يمكن أن تكون طبيعية, قد تحدث في أي سنة أخرى, على أنها إشارات أو علامات لنهاية العالم, مثل حريق لندن الكبير, وظهور حاخام يهودي يدعي أنه المسيح الدجال.
عكست هذه الرواية, مهارة معلوف في دراسة التاريخ وتقصي تفاصيل المراحل والحقب, وتطويعها فنياً, كذلك عكست الحس الصحفي للمؤلف, فجاءت تفاصيل الأحداث التي سجلها في الدفاتر, كتحقيق صحفي أو سيرة ذاتية أو أدب رحلات, وهي رواية ممتعة تستحق القراءة.
هذه الرواية وأسئلتها حول الوجود, تذكرنا بالنبوءات التاريخية لنهاية الكون, وعلاماتها, فقد تنبأ البعض أن نهاية الكون ستكون في نهاية الألفية الأولى لميلاد المسيح, ثم الألفية الثانية, لكن ذلك لم يحدث, رغم جزع العديد من الناس, الذين انتحر بعضهم, وهجر بعضهم أعماله, انتظاراً لهذه النهاية.
كما أن نوسترا داموس العالم الفلكي الفرنسي المشهور بتنبؤاته, والتي ما تزال تثير جدلاً عند كثير من الناس, كان قد تنبأ في عام 1890م, بأن نهاية العالم ستكون عام 2012م, وتنبأ كذلك الصينيون واليابانيون بأن نهاية العالم ستكون عام 2012م, وقبلهم تنبؤات شعب المايا في أمريكا الجنوبية, التي تؤكد بأن نهاية العالم ستكون أيضاً في عام 2012م, حسب تقويم المايا, الذي وضعوا له جداول رياضية محكمة, تتنبأ بالكوارث والأحداث الفلكية.
وهناك كذلك تنبؤات شعبية, ليس لها سند ديني أو علمي, مثل أن من علامات الساعة, هي أن الحديد يطير ويتكلم, وقد ناقش علماء في الدين هذا الأمر ودحضوه, خاصة وأن العلم في تقدم دائم, فالحديد فعلياً طار وتكلم, ومثاله الطيارة والمذياع, بل وصل العلم إلى آفاق لا يمكن لعقل بشري, عاش قبل قرنين فقط من تخيلها.
لا يوجد بشر حتى الآن, يستطيعون تحديد نهاية العالم, سواءً استناداً إلى المعطيات العلمية أو الدينية, وما زال هذا الأمر في علم الغيب, وبعيد عن ذهنية الإنسان.

Tuesday, September 22, 2009

الغيرة المرضية



بعد حادثة حريق الجهراء, وردتني أسئلة كثيرة, بعضها من وسائل الإعلام, وبعضها من أشخاص, سواء من داخل أو من خارج الكويت, تتركز الأسئلة حول دوافع المتسببة بهذا الحريق, وهل هي سوية من الناحية النفسية, أم تعاني من مرض نفسي, جعلها فاقدة للإدراك, ولعدم تقديرها لنتائج عملها.
وبالطبع فإن الأمر مازال تحت تحقيق الأجهزة الأمنية, وللقضاء الكلمة الفيصل في إدانتها أو تبرأتها, ثانياً يجب أن تخضع المرأة لفحص وتشخيص نفسيين, من قبل اختصاصيين مهنيين محترفين, كي يقرروا حالتها النفسية العامة, وحالتها قبيل وأثناء الحادثة, وهم من يقيم حالتها النفسية, بعيداً عن التكهنات والتحليلات المبنية على تصريحات الصحافة.
لكن ماذا يمكن أن يدفع هذه المرأة لفعل ما فعلت, إن تمت إدانتها؟ وهل يمكن أن تدفع الغيرة بإنسان لارتكاب مثل هذا العمل؟
وجواباً على ذلك نقول نعم, إذا كان هذا الإنسان يعاني من الغيرة المرضية pathological jealousy, والشك المرضي doubting mania, فإنه من الوارد أن يرتكب حماقات أوحتى جرائم, دون تفكير منطقي.
فالغيرة المرضية كما يقول المختصين, هي من العواطف المرضية المركبة, التي تشتمل على فقدان احترام الذات وعدم الثقة بالنفس, مع الخوف والبغض والتقلب العاطفي, والكراهية والاكتئاب والتوتر, والشك المرضي هو ضلالات راسخة و يؤمن بها الشخص إيماناً مطلقاً, ولا يمكن مناقشته بها وإقناعه من الناحية المنطقية, حتى لو لم توجد لديه أدلة لشكه, فيترائى له الخيال واقعاً, ويتحول الأمر إلى وسواس قهري بهذا الاتجاه, ويظل في بحث دائم عن دليل خيانة للزوج أو الزوجة, مستخدماً كل أنواع المراقبة والتفتيش, يصاحبهما عنف في الكلام وعصبية, وعدم القدرة على النوم, أو أرق, ويصاحبه أحياناً شك في نوايا الشريك في التخطيط لقتله أو تسميمه.
ويقول استشاري الطب النفسي د. محمد الحسن خالد, أن المريض بالغيرة والشك, شديد الحساسية لانتقاد الآخرين له, ومفرط الحساسية لما يعتقد أنه تجريح له, رغم أنه يبدو سوياً للآخرين إلا فيما يخص موضوع الشك, ولديه حقد مستديم وعدم القدرة على الصفح والغفران لأي كان, كذلك لديه عدوانية غير مبررة مع الآخرين, كما أن لديه حالة إنكار لحالته, ويجمع وبشكل مستمر مؤيدين لفكرته مثل أبنائه الصغار وبعض أصحابه, بزرع الفكرة في أدمغتهم, ولديه عجز عن التوافق الاجتماعي, وتتميز ردود فعله بالتسرع والطيش وبعدم التفكير, وغالباً ما يلجأ للكذب.
تقول بعض الدراسات أن من بين 81 مريضاً بالغيرة والشك, 3 ارتكبوا جريمة قتل, وفي دراسة أخرى أجريت على 138 حالة, أن 25% منهم هددوا بالقتل أو الأذى مثل الفضائح, وتشويه سمعة الشريك, لكن المريض حسب الإحصائيات نادراً ما يقدم على الانتحار, بل وجدوا بعض حالات إنتحار للطرف الآخر, المشكوك به, وذلك لوضع حد لمعاناته, ولعدم قدرته على الاستمرار في تحمل غيرة وشكوك الشريك.
والغيرة المرضية قد تكون بين الأخ وأخيه, وبين الأم وزوجة ابنها, كل هؤلاء يمرون بنفس الأعراض, ويتخيلون أحداثاً ومؤامرات لم تقع بالفعل, ويصيغون سيناريو ذهني لهذه الأحداث غير الموجودة في الواقع, لكن أكثر الحالات الشائعة هي بين الزوج والزوجة, ووجد الباحثون أنها تصيب من نصف إلى 2 ونصف من المجتمع, ونسبتها أكثر عند الرجال الذين يعتبرون زوجاتهم ملكية خاصة, ويقومون برصد تصرفاتهن وتحليلها في ضوء الرغبة في السيطرة عليهن واخضاعهن.
وليس لهذا المرض علاقة بدرجة التعليم أو المكانة الاجتماعية, ويعزو بعض العلماء المرض إلى التركيب البيولوجي والوراثي والاجتماعي البيئي, أو التربية, وبعض العلماء يقولون أنه لا يوجد دليل وراثي, ولكن الجميع يتفق على عقدة النقص وفقدان الثقة بالنفس.
ولأن المريض لا يستجيب لنداء العقل ولا يمكن تصحيح سوء ظنه بالمنطق, يجب أن يخضع للعلاج الدوائي المضاد للذهان, ويمكن للعلاج المضاد للاكتئاب أن يخفف من حالته, ويجب أن يرافق العلاج الدوائي, علاج نفسي سلوكي قد يطول وقد يقصر على حسب الحالة, واعتراف المريض بمرضه, واستعداده للتغير, يساعدان على الشفاء.
تأثير هذا المرض ضار ومدمر للأسرة, وقد ينتقل بالاكتساب إلى الأبناء والبنات, لتتكرر مأساة التدمير الأسري, والجدير بالذكر, أن أعراض المرض قد تختفي بالانفصال بين الزوجين, ولكنها يمكن أن تعود أذا تزوج المريض مرة أخرى.

Saturday, September 12, 2009

عشق الدم



رغم أن شهر رمضان يدعو إلى الخير والمحبة, شهر يتنزه فيه الإنسان عن الكراهية والحقد ضد أخيه الإنسان, إلا أنني اندهشت من بعض شيوخ الدين الذين يدعون بالموت على اليهود والنصارى, ويدعون لترميل نساءهم, ولتيتم أولادهم, ويدعون عليهم بأقذع ما يمكن أن يسمعه الإنسان السوي.
وفي ظني أن هؤلاء المشايخ, منسجمين مع أنفسهم, على اعتبار أن أدعيتهم تستند إلى روح الدين الإسلامي, الذين يفهموه على طريقتهم, غير مراعين ليس فقط حرمة شهر رمضان المبارك, ولكن الأهم عقول الشباب التي ستلتقط دعوات العنف والكراهية من أفواه مشايخها, وتسعى إلى مرضاة الله كما تعلمتها من خلال القتل والدمار.
فللعنف أصول وجذور, قد لا تكون مباشرة, فمن خلال مقابلة تلفزيونية مع عضو الكونغرس الأمريكي أنتوني وينر ممثل ولاية نيويورك, عرض مناهج مدرسية سعودية, تدرس للصف الرابع والخامس, تدعو لقتل اليهود والنصارى, من خلال أحاديث لا أعلم مدى صحتها, ولكنها خطرة على العقول الصغيرة, فتلك المناهج ستشكل جزءً من تربيتهم ووعيهم, وستغرس فيهم ثقافية إقصائية تكفيرية, سلوكها العنف والقتل والدمار, حتى للمسلمين المخالفين للمذهب أو العقيدة.
ففي رسالة الجهاد لحسن البنا مؤسس حزب الأخوان المسلمين, يقول في خاتمتها:" أيها الأخوان, إن الأمة التي تحسن صناعة الموت, وتعرف كيف تموت الميتة الشريفة, يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة, وما الوهم الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت, فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم, واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة, رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله" إنتهى الاقتباس.
هذه التربية الابتدائية, وتعليمات أو تحريضات القيادات الإسلامية, هي جذور الإرهاب والعنف, الذي قد تعلم الحكومات الكويتية أو لا تعلم, بأنها رعته وكبرته وساهمت باتساعه, من خلال مناهج التعليم, والمدرسين المتعصبين دينياً, ومن خلال احتضان التيارات الإسلامية السياسية, وضخ الأموال لها عبر ترسية المناقصات لصالحها, حتى أصبح لديها بنوك وشركات استثمارية ضخمة, وجمعيات في جميع مناطق وأحياء الكويت, لجمع التبرعات التي لا أحد يعلم مصيرها.
وهذا الاحتضان والتبني الحكومي للتيار الإسلامي السياسي, بدأ بإغلاق نادي الاستقلال, الذي كان يضم القوى الوطنية, وإفساح المجال لجمعية الإصلاح الاجتماعي للتوسع وفتح فروعها في جميع مناطق الكويت, بدأ بالتضييق على القوى الوطنية الفاعلة, التي كانت تدافع عن حقوق الشعب, وتطرح مشروعات تنموية, واحتضان وتشجيع للقوى التي قادت الكويت إلى التخلف, والتراجع عن مشروع بناء الدولة الحديثة, وساهمت بالتضييق على حرياته.
نحن أمة تعشق الدماء والأشلاء, لأن جذورنا التربوية تمنع الفرح, وتدعو للعنف والكراهية والتكفير والإقصاء, جذورنا التربوية تحارب الموسيقى والفنون والثقافة, وتشجع على الانتحار وقتل البشر, ومثال جرائم المسلمين ضد المسلمين في العراق وأفغانستان وباكستان, هو مثال واضح لا لبس فيه.
إن إلقاء القبض على الخلية الإرهابية في الكويت, هو واجب أمني, ولكن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد, فهذا الفكر وهذه الجذور التربوية, ستنجب مزيداً من الإرهابيين المتعطشين للدماء, المتخفين بأردية الورع والتقوى.
إن القضاء على الإرهاب يكون بالقضاء على الجذور التربوية, التي تفرخه وتغذيه, وتعطيه صكوك الغفران والشهادة, ووعد بالحور العين إن هو قتل الآخر, سواء كان نصرانياً أم مسلماً.
شاهدت فلماً مروعاً في اليوتيوب, لأب باكستاني يدرب ابنته ذات الأربعة عشر ربيعاً, على كيفية نحر رقبة إنسان, وفي تصوير آخر تقوم هذه الطفلة بنحر رقبة رجل مسلم بعد تكبيرها, وتهليل الرجال والنساء والأطفال لفعلها الوحشي, والانترنت يزخر بمثل هذه المشاهد, التي لم يطالب الإسلاميون بمنع بثها.
رحم الله شيوخ الدين التنويريين الكويتيين, أمثال الشيخ عبدالعزيز الرشيد والشيخ يوسف بن عيسى القناعي والشيخ عبدالله خلف الدحيان والشيخ عبدالله النوري وغيرهم, الذين ساهموا بعلمهم وثقافتهم وسماحتهم في بناء الكويت الحديثة, الدولة المتسامحة التي احترمتها شعوب العالم لتسامحها مع الأديان.

Saturday, September 5, 2009

خلل في قمرة القيادة




في ظني أن الكويت تمر في هذه الفترة, بأسوأ مراحلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية, حتى أكثر من فترات حل مجلس الأمة وتعليق العمل بالدستور, فالعمل السياسي البرلماني والحكومي, يتدنى إلى مراحل بدائية غير مسبوقة, رغم وجود مجلس أمة ووجود حياة برلمانية, ولكن لا يمكننا كمواطنين الافتخار بدمقراطية تخالف القانون والدستور, ولا نعتد ببعض ممثلي الشعب, الذين يحاربون مصالحه, ويستغلون الدمقراطية لمصالحهم الخاصة, ولاستنزاف ثروات البلد وابتزاز الحكومة, والغلو في مخالفتها للحصول على امتيازات وحصص من ثروة الشعب الكويتي, سواء لمصلحة ذاتية أو قبلية أو طائفية أوحزبية, عن طريق الترسيات والترضيات, والتجوال بالملفات في أروقة الوزارات.
فكم نائب بالبرلمان وصل إلى الكرسي عن طريق الفرعيات المجرمة قانوناً؟ وكم نائب يملك شركات للاتجار بالبشر؟ أو شركات مشبوهة, وكم نائب لا يؤمن بالنهج الدمقراطي, ويؤمن بالحاكمية لله, استغل الدمقراطية من أجل إقامة الدولة الإسلامية؟ وكم نائب يدعم المنظمات والأعمال الإرهابية؟ وكم نائب يريد تفتيت الوحدة الوطنية بتعصبه الأعمى والجاهل؟ بل من من النواب قدم مشروعاً تنموياً؟
والعمل الحكومي لا يقل إنهياراً في المنظومة السياسية الكويتية, فضعفها وتخاذلها عرضا البلد للسرقة وللفساد الإداري ولتردي التعليم ومخرجاته, وتوقفت الحكومة مذعورة أمام خطوط حمراء وضعها نواب التخلف, فالقبيلة خط أحمر والحديث عن مزدوجي الجنسية والانتماء خط أحمر ورفع نسبة القبول في الجامعة خط أحمر وإزالة مساجد الصفيح خط أحمر ونقد ابن تيمية خط أحمر, حتى اختفت كل الخطوط الخضراء ومعها هيبة الحكومة, وأصبحنا نتساءل من يدير البلد؟!!
وازداد الفساد والبيروقراطية والبطالة المقنعة في الإدارات الحكومية, وأصبح الفراش الآسيوي مركز نفوذ, يستطيع استخراج أية معاملة تستعصي على المواطن, ويستطيع من تحت الطاولة مالا يستطيعه الموظف الكبير, الذي يقبض راتبه وهو في بيته.
وعلى المستوى الاجتماعي, إنغمس المجتمع في الخرافات, وكرست المسلسلات للسحر والحسد والعين, وتراجع المستوى التعليمي والثقافي للمواطن, وكثرت حالات الطلاق والغياب عن المنزل, وتضخمت سجلات المخافر من عمليات الخطف وهتك العرض والإدمان, وكثرت حالات الشباب المنتمي إلى منظمات إرهابية, وأصاب المجتمع إحباط كبير, وخوف من غياب الأمن الاجتماعي والاقتصادي.
وعلى المستوى الاقتصادي, فإنه ولأول مرة في تاريخ الكويت, تطرد مجموعة من الكويتيين من عملهم بشكل تعسفي, وتعاني شريحة متعلمة من الديون المتراكمة, ومن أقساط مدارس أبنائها, وتطالب قضائياً وتمنع من السفر, بسبب حرمانها من مصادر رزقها, كما تدنت القدرة الشرائية لدى المواطن, وارتفعت أسعار السلع والمواد الغذائية, وأصبحت المؤشرات تشير إلى منحنى متشائم, كل ذلك في ظل تعالي القوى الحية في المجتمع على أنين المواطن, وفي ظل غياب مبادرات جمعيات النفع العام صاحبة المصلحة في تطور المجتمع ورخاء أبنائه.
وتحولت دولة الكويت, التي كانت تسعى لبناء الدولة الحديثة في الستينيات, إلى دولة تعاني قصوراً في الرعاية الاجتماعية, وتدهوراً في الخدمات الصحية والتعليمية, وانحساراً في هيبة القانون, وفساداً مستشرياً في كل أوصال الدولة, وغياب المواطنة الصالحة, وغياب الرؤية لمستقبل البلد وأجيالنا القادمة.
إن قمرة القيادة في البلد, والتي يتقاسمها التشريع والتنفيذ, تعاني من خلل خطير, وأكرر خطير جداً, قد يودي بحياة الركاب, أو على الأقل يترك أثراً سيكلوجياً سلبياًً لسنوات طويلة.

Sunday, August 30, 2009

العيارين



ما زالت بعض التسميات والصفات في اللغة العربية, موجودة في لهجاتنا المحلية, وإن اختلفت مدلولاتها عن أصلها في التراث العربي, مثل العيار والشاطر والأزعر والفتوة والقبضاي والحرافيش وأيضاً اللوتي والشلايتي.
كلها تدل على أشخاص أو حتى مجتمع من طبقة اجتماعية واقتصادية متدنية, احترفوا بسبب الفقر والجوع شتى أنواع السرقة والتحايل, واحتقرهم أصحاب النفوذ ووصفوهم بأقذع الألفاظ مثل الغوغاء من السفلة والأوباش والحثالة العامية والسراق وأهل السجون, وعاشوا منبوذين من الدولة والطبقات العليا, وخارجين عن القانون.
ويحفل التراث العربي بحكايات ونوادر وأدب الشطار والعيارين, وفي ظني أن أهم الدراسات الحديثة التي صدرت في هذا الموضوع, هو كتاب "الشطار والعيارين" للدكتور محمد رجب النجار, ضمن سلسلة عالم المعرفة العدد 45, والتي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت, صدر العدد في سبتمبر 1981م, بل أزعم أنها قد تكون الدراسة العلمية الأولى في هذا المجال, ولكن حكايات هؤلاء ذكرت في التراث العربي عند الجاحظ والمسعودي والطبري وغيرهم.
ولا تقتصر ظاهرة العيارة والشطارة على المجتمعات العربية, ولكنها موجودة في التراث الهندي والبابلي والفرعوني والفارسي والأوربي, ونموذج البطل الشعبي البريطاني روبن هود, هو نموذج العيار, إذ أنهم جيمعاً ظهروا في فترات الانحطاط والفساد السياسي والحضاري في بلدانهم, وتمردوا على مجتمعاتهم ودخلوا في صراع مع المجتمع الذي احتقرهم, "لينالوا باسلوب غير شرعي, ما يتصورون بأنه حق شرعي لهم"
[1], كما أنهم أخذوا من الأغنياء وأعطوا الفقراء, ولهم مبادئ لا يحيدون عنها, مثل عدم سرقة الفقير والمرأة, وعدم سرقة من يخرج الزكاة, كما أنهم يهبون لنجدة ومساعد المظلوم, ويتحلون بصفات الشهامة والكرم والإنسانية والشجاعة, ولذا فقد حضوا بإعجاب العامة, فتعاطفوا وتستروا عليهم.
وحمل التراث العربي معه, الكثير من القصص الشعبية التي تم تناقلها شفاهة, مما جعلها أقرب إلى الملحمية, مثل ملحمة "علي الزيبق", التي اختلطت فيها الحقيقة بالخيال, ولكن شخصيات هذه القصص لم تأت من خيال, فهناك شخصيات من العيارين عرفها التاريخ, مثل دليلة المحتالة وأحمد الدنف, الذين كان لهما دور مهم في أحداث التاريخ, فالخليفة العباسي استنجد بعلي الزيبق لاخماد الفتنة التي حدثت في بغداد عام 443ه, بين السنة والشيعة.
ومن الطبيعي أن تلقى تلك الفئة مقاومة عنيفة من قبل السلطات, ليس فقط لأنها جماعة مشاغبة, ولكن لأنها تشكل إدانة للعصر وللمستأثرين بالسلطة والثروات, لكن الخلفاء استعانوا بهم ضد خصومهم عند ظهور القلاقل السياسية, فوقفوا دائماً مع الحق, وواجهوا الجيوش المسلحة والمنظمة, بالعصي والمقاليع, وقدموا العديد من الضحايا في دفاعهم عن شعوبهم.
وكان العيارون والشطار والحرافيش والقبضايات, جزءً من الثورات الشعبية العربية, فأظهروا أنهم أصحاب قضية, وليسوا رعاعاً, فقد تزعموا حركة المقاومة الشعبية في العواصم العربية, مثل بغداد ودمشق والقاهرة, ضد الغزاة والمحتلين, بينما كانت الأنظمة السياسية تنهار, وكانت الطبقات العليا من التجار وأصحاب المصالح الاقتصادية, تهادن المحتل خوفاً على مصالحها.
وحتى إلى تاريخ قريب, كانت هذه الفئة من القبضايات والفتوات, هي ذراع الخير الذي ينصف المظلوم, ويقاوم ظلم تسلط أصحاب النفوذ على أبناء الشعب من البسطاء, ويسهم بشجاعة في الدفاع عن بلاده.
وإذا رجعنا إلى مدلولات لهجاتنا المحلية عند وصف العيارين, نجد أنها إدانة محببة, فعندما نقول:" يا عيار", لا نعني بها سبة, مثلما نصف الطفل بأنه "شيطان", فالعيار بالنسبة لنا, لا يمكن أن يكون مجرماً أو إنساناً سيئاً, بل قد يكون محبباً قريباً من القلب.




[1] رجب النجار "الشطار والعيارين"

Sunday, August 23, 2009

التوجيه الأسري



حسناً فعلت الجهات المختصة في الكويت, بسن تشريع يجبر المقدمين على الزواج على الفحص الطبي, فذلك من شأنه وقاية الأسرة من الأمراض الوراثية والأمراض الجنسية.
فالأسرة كيان أساسي في المجتمع, وصحة أبنائها إحدى واجبات هذه الأسرة, وقد أثبتت الاحصائيات العالمية أن عدد الأطفال الذين يولدون بمرض الإيدز في تزايد, بسبب من حمل أحد الأبوين لهذا الفايروس, كما أن نسبة الإعاقة الفكرية, خاصة في دول الشرق, واضحة بسبب من زواج الأقارب والإصرار عليه.
لكن موضوع الفحص الطبي, يحتاج إلى حملات توعية, في المدارس والجامعات, ووسائل الإعلام, وكذلك جعل ورقة الفحص الطبي للزوجين, وثيقة مرادفة لوثيقة الزواج, وإجبار من يعقد القران "المأذون", على عدم إتمام العقد من دون ورقة الفحص.
لكن الفحص الطبي, ليس هو الضرورة الوحيدة لإتمام الزواج, بل يجب على من ينوي الزواج التوجه إلى مكتب للتوجيه الأسري, أو لعيادات الاستشارات النفسية والاجتماعية, للتأكد من الاستعداد النفسي للزوجين, وخلوهم من المخاوف والأفكار الخاطئة تجاه الزواج والعلاقة الزوجية.
فمن المعروف, خاصة في دولنا وفي المجتمعات المتخلفة, غياب التربية والثقافة الجنسية, وأن مصادر التعلم أما معدومة, وأما لا يعول عليها علمياً, مثل الأهل والأصدقاء والانترنت.
فمن المشكلات الشائعة عند الفتيات حديثات الزواج, هو ما يسمى بالتشنج المهبلي اللاإرادي أو Vaginismus, وهو إنقباض عضلات المهبل عند الإيلاج, أو بمجرد التفكير بالمعاشرة الزوجية, وعند الشباب ما يسمى بضعف الانتصاب النفسي, وسبب هذه المشكلات هو التربية الخاطئة, التي تركز على العيب والخطأ والحرام, دون توضيح علمي متسامح, أو دون تخويف مبالغ به, كما ينشأ خوف لدى الفتاة من آلام المعاشرة الجنسية والولادة, وعادة في هذه الحالة تتم إزالة غشاء البكارة بواسطة الطبيب, وحتى إن تم الإيلاج فالمرأة لا تستمتع ولا تصل إلى قمة اللذة طوال حياتها, بل لا تعرف ما هي, وهذا من شأنه أن يسبب مشكلات نفسية خطيرة, وكثير من الفتيات يخشين التعرف على مناطقهن الحساسة, لكن هناك تمرينات خاصة لإرخاء منطقة الوسط والتخلص من المشكلة بواسطة مكاتب التوجيه الأسري أو الاستشارات النفسية والاجتماعية, لكن معظم الأسر تتجه إلى المشعوذين, الذين يشخصون هذه الحالة, على أنها ربط جنسي, بواسطة السحر والجان.
وهناك مشكلات لا تقل أهمية, وهي فهم ماهية العلاقة الزوجية, فاستبدل كثير من الأزواج والزوجات الاحترام والتقدير بمحاولة السيطرة والتملك والعنف والغيرة المرضية, التي يمكن أن تتحول إلى مرض الشك والوهم القاتل أو delusion disorder, المبني على سينايوهات ذهنية خادعة, مثلما حدث مع المطلقة التي أحرقت خيمة العرس في الجهراء, فالغيرة المرضية يمكن أن تؤدي إلى أعمال إجرامية.
ومن المشكلات النفسية البحث عن التطابق, وهو لايمكن أن يوجد, فالزوج والزوجة يأتيان من بيئتين مختلفتين, ويتم التفاهم بينهما على الأمور المشتركة, أو تقديم التنازلات وتفهم اختلاف الآخر, وتقبله بإيجابياته وسلبياته, أو يظل الزوجان يبحثان عن الهالة الوردية, التي كانت موجودة في بدايات الزواج, لكن هذه الهالة تختفي عادة ليحل محلها الاحترام, وحب آخر أجمل من الانجذاب الأول.
ومن أهم المشكلات هو اختلاف المستويات التعليمية, والزواج بسن مبكر, فزواج القاصرات في السعودية وباكستان وافغانستان, يسبب كوارث نفسية, بل وجريمة بحق الطفولة تشبه التحرش الجنسي بالأطفال, وكلاهما يسبب ندوباً نفسية, يواجهها علماء النفس بصعوبة وتسمى trauma, أي الصدمة النفسية الشديدة التي تترك أثرها بقية الحياة.
يصعب في هذه المقالة حصر كل المشكلات النفسية والاجتماعية, التي يجب التقصي عنها قبل الزواج, والتي سببها الجهل في الثقافة الجنسية, وطريقة التربية الاجتماعية الخاطئة, أضف إليها النظرة الخاطئة لمن يزور مكاتب التوجيه الأسري, وعيادات الاستشارات النفسية والاجتماعية.
لا يمر أسبوع إلا ويزورني زوجان حديثا الزواج, يعانيان من مشكلات مثل التي ذكرتها سابقاً, وبعضها يقود إلى الطلاق, فتكون التربية الخاطئة هي قبر الزوجية.

Saturday, August 15, 2009

تشي 3 من 3



أرسلت الحكومة البوليفية فرقة مكونة من 1500 جندي, تساندهم عناصر من وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA, للقبض على 16 فرداً يقودهم تشي غيفارا, ودارت معركة طويلة استمرت ست ساعات, قتل خلالها جميع رفاق تشي, وأصيب هو في ساقه, لكنه ظل يقاتل حتى تحطمت بندقيته أم-2 وضاع مخزن مسدسه, فقبض عليه حياً.
وتم اقتياده إلى إحدى القرى, وضرب وعذب, وظل 24 ساعة على قيد الحياة, ثم أمرت القيادة البوليفية بتعليمات من ال CIA, بإعدامه رميا بالرصاص, ودخل عليه المكلف بقتله, ولكنه تردد لهيبة شخصية غيفارا, فقال له غيفارا:" أطلق الرصاص, لا تخف, أنا مجرد رجل", لكن الضابط خرج دون أن يطلق الرصاص, فعنفه قادته وطلبوا منه أن لا يوجه الرصاص إلى رأسه أو قلبه, حتى يطول احتضاره وعذابه, فعاد وظل يطلق النار على جسد غيفارا, ولكن رقيب مخمور دخل وأطلق النار على جانب غيفارا الأيسر فأصاب قلبه, فمات.
ودفن غيفارا سراً في مكان مجهول, حتى لا يصبح مزاراً للثوار, وقطعت يده لأخذ بصماته, ولكن في عام 1997, أعيد هيكله العظمي إلى كوبا, بعد حملة عالمية طالبت بالكشف عن قبره, ودفن في ضريح كبير في سانتا كلارا, تلك التي حررها غيفارا مع رفاقه, وشارك كاسترو في الجنازة الرسمية.
الآن, وبعد أكثر من أربعة عقود, مازال اسم الثائر أرنستو تشي غيفارا يتردد صداه, هذا النبيل صاحب المبادئ الإنسانية, والذي قتل على يد مخمور, ظل في ذاكرة وضمير كل الشعوب, رغم أنه اثار جدلاً واسعاً لتبنيه الفكر الماوي, المرتكز على فكرة البؤر الثورية, وحرق المراحل, ورغم نصيحة جمال عبد الناصر له, بأنه لا بد من نضوج الظرفين الذاتي والموضوعي لنجاح الثورة, إلا أنه استمر بتنفيذ مبادئه والتزم بها حتى النهاية, قائلاً:" لا يهمني متى وأين سأموت, لكن يهمني أن يبقى الثوار منتصبين, يملأون الأرض ضجيجاً".
هذا المناضل الخالد, سواء اتفقت مع فلسفته النضالية أم اختلفت, لا تملك إلا أن تحترمه, وحتى بعض المواقع الإسلامية, طرحت موضوع "هل يجوز الإعجاب بغيفارا الملحد", لأنه شكل نموذجاً يحتذى به بين الشباب, بمن فيهم بعض الإسلاميين الذين احترموا إلتزامه الأخلاقي بمبادئه, وهذه إحدى السمات التي تجعل الشخصية الكارزماتية تؤثر عبر مرور السنوات, الشخصية التي يجتمع حولها المختلفين.
غيفارا كان مثقفاً, شاعراً, عازفاً للغيتار, مصوراً, ومن هواياته اصطياد الفراشات, وهذه الهوايات التي تبدو للغير أنها هوايات الضعفاء, هي ما يمنحه القوة الكبيرة والصلابة, فالمناضل الذي لا يقدر الفنون والآداب, يسقط سريعاً, وينتهي من ذاكرة الشعب, لأن البوصلة النضالية للمناضل هي الحب الكبير, وأظن أنه هو من قال:" رغم خوفي من أن أبدو مثيراً للسخرية, لكن دعني أقول أن الثوري الحقيقي يهتدي بمشاعر حب عظيمة".
وحتى صورته الشهيرة, التي صورها المصور "كوردا", بشعره الطويل ولحيته والبريه الشهير الذي يميزه, حتى هذه الصورة أصبحت رمزاً وكأنها علامة تجارية للاحتجاج والرفض, واستغلتها الكثير من الشركات, التي كانت ترفض فكره, فوضعتها على القمصان والقبعات, وعلى الساعات والملصقات, فلا تكاد تخلو غرفة شاب أو سيارته من هذه الصورة.
وتعكس هذه الصورة وجه غيفارا, وكأنه قديس بعينيه الحزينتين, الغارقتين بالغموض الساحر, وقد تكون أشهر صورة لأي ثائر أو مناضل على مر التاريخ, كما أن طريقة موته الأسطوري, جعلت منه شهيداً للمبادئ النبيلة, التي يؤمن بها جميع البشر.
كان غيفارا روبن هود عصري, أثار قرائح الشعراء من جميع الجنسيات ليكتبوا عنه قصائد ومراثي, ومنهم شعراء عرب, مثل أحمد فؤاد نجم في قصيدته المشهورة "غيفارا مات", والشاعر عبد الرحمن يوسف وقصيدته "على بعد خلد ونصف", والشاعر عبد الوهاب البياتي وقصيدته "عن موت طائر البحر".
مات غيفارا وترك خلفه دروساً وعبر للمناضلين والوطنيين, منها ضرورة التثقيف, والصدق والنزاهة والأخلاق النبيلة في حياتهم اليومية, البعد عن الذاتية والشخصانية, الروح الفنية والإبداعية, لا الجمود العاطفي والفكري هو ما يصنع المناضل الحقيقي, فالصلابة لا تتبدى بالقسوة وموت المشاعر, ولكنها تتبدى بالحب.
أليست الحياة مثيرة للسخرية, أن يتكرر الأمر بشكل دائم, ويموت الحر على يد مخمور؟!! يموت الفارس على يد لص وضيع؟!!

Saturday, August 8, 2009

تشي 2 من 3




بعد نجاح الثورة الكوبية, عين تشي غيفارا رئيس المصرف الوطني, وأعطي الجنسية الكوبية, ثم عين وزيراً للصناعة من عام 1961 إلى عام 1965م, وبسبب التهديدات الأمريكية لحكومة الثورة الكوبية, وعدائها الصريح للتوجه السياسي لهذه الجزيرة الصغيرة, وبسبب اسقاط حليفها الدكتاتور باتيستا, قرر غيفارا تأميم جميع مصالح الدولة ضد التدخلات الأمريكية, وهذا ما جعل أمريكا تقدم على الهجوم العسكري الفاشل في خليج الخنازير.
وهنا تم الانحياز كلياً إلى معسكر الاتحاد السوفييتي, وأعلنت حكومة كوبا التوجه الشيوعي, لكن غيفارا كان ضد الاعتماد بشكل مطلق على الاتحاد السوفييتي, بل كان يؤكد على ضرورة التنمية الاقتصادية الداخلية.
واكتسب غيفارا سمعة جيدة لدى قادة حركات التحرر الوطني, والتقى به قادة مشهورين مثل الرئيس جمال عبد الناصر وأحمد بن بلا, واستقبل في الاتحاد السوفييتي وعلى أعلى المستويات, كقائد ثوري مرموق.
وكغياب الأبطال الأسطوريين, اختفى فجأة, واستغلت الاستخبارات الأمريكية هذا الأمر, وادعت أنه قتل على يد كاسترو بسبب خلافات على استراتيجيات الحكم, ودفن في مكان مجهول, وحتى يدحض هذه الإشاعة أرسل إلى كاسترو خطاباً كتبه بخط يده, يطلعه على سبب مغادرته لكوبا, وطلب في ذاك الخطاب اسقاط الجنسية الكوبية عنه مع اعتزازه للانتماء للشعب الكوبي وثورته, وطلب اعفاءه من جميع مناصبه, لأنه لا يدريد أن يتوقف عن كفاحه وثورته.
اتجه إلى الكونجو في أفريقيا, لمساندة الثوار,ولكنه لم ينجح بسبب عدم تعاون قائد الثورة لومومبا معه, لأنه لم يرد أن يكون الفضل في الثورة لغير أبناء الكونجو, وكذلك بسبب المناخ واللغة, لكن غيفارا الذي قال يوماً:"الثورة تتجمد والثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون على الكراسي, وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة في عروقي", وقال أيضاً:"أشعر على وجهي بكل صفعة توجه إلى الإنسان في أي مكان في العالم", فغيفارا لن يهدأ طالما هناك شعب ثائر, ولا يوجد شيء يحقق ذاته غير حمل السلاح, نصرة للمظلومين في أي بلد, قرر أن يذهب إلى بوليفيا للنضال وتوحيد صفوف الثوار ضد الدكتاتورية, دفاعاً عن الفقراء والفلاحين.
وقاتل تشي مع مجموعة قليلة من الثوار, في ظروف صعبة جداً, وعاش في غابات استوائية رطبة أنهكته بسبب مرض الربو الذي كان يعاني منه, ويبطئ حركته أحياناً, وكان تعاون فلاحي القرى أقل من المتوقع بسبب خوفهم من بطش رجال الجيش, كما للاستخبارات الأمريكية CIA, والذي تعتبره عدواً خطيراً لمصالحها, دوراً في ملاحقته, والقبض عليه.
وشى به الرسام البوليفي بوستس, والذي كان أحد مرافقيه في حرب العصابات, ويقال أنه رسم وجوههم ليتعرف عليهم الأمن, ولكن بوستس الذي يعيش بالسويد قال في الذكرى الثلاثين لإعدام غيفارا, أن غيفارا كان معروفاً لدى الجميع, لأنه ألقى خطابات كثيرة, ومنها في الأمم المتحدة, ولكن الذي وشى به هو المفكر الفرنسي روجيه دوبرييه.
وبوستوس الذي لم تقبل أي دولة في العالم استقباله بعد نفيه, عاش في السويد التي قبلت به لاجئاً سياسياً, وعمل بحمل النفايات, وعاش يحمل عاراً لم يغفره له العالم, وقرر أن يكتب مذكراته احقاقاً للحق.
وفي المقال القادم والجزء الثالث, سنتحدث عن شخصيته الأسطورية, سبب مكانته المتميزة عند شباب العالم.

Saturday, August 1, 2009

تشي 1 من 3




عرضت رابطة الشباب الوطني الدمقراطي, وهي لجنة شباب المنبر الدمقراطي الكويتي, عرضت يوم الثلاثاء الموافق 28 يوليو الماضي, فلماً وثائقياً يحمل عنوان "تشي", وذلك في مقر الجمعية الثقافية النسائية, والفلم يصور آخر 18 ساعة من حياة المناضل الثوري أرنستو تشي غيفارا, ولكن للأسف لم يتسنى لي مشاهدته لانشغالاتي, لكنني تذكرت قراءاتي أيام الشباب.
ولد غيفارا في الأرجنتين في 14 يونيو 1928م, ودرس الطب, وجال مع زميله بدراجته النارية أنحاء أمريكا اللاتينية, وقدم العون المجاني لمرضى الفلاحين والفقراء, في القرى النائية, رغم أنه كان في السنة النهائية من دراسته, لكن هذه الرحلة التي وثقها بكتابه "مذكرات دراجة", عمقت نزعته الإنسانية, واهتمامه بالإنسان المستغل (بفتح الغين), وقادته لدراسة النظريات الثورية المتنوعة, واستقر على النظرية الماركسية اللينينية, كمنهج ثوري يتبناه, وساعده على هذا الاختيار زوجته الأولى هيلدا, ومع ذلك كانت نزعته الإنسانية هي الطاغية في سلوكه وتفكيره الثوري الرومانسي, وجولته تلك في بلدان أمريكا اللاتينية, خلقت لديه قناعة بأن ظروف هذه البلدان متشابهه, لأن ظروف القمع الدكتاتوري فيها متشابه.
وظل يحلم بتحرير جميع الشعوب المضطهدة في الكرة الأرضية, وإحدى مقولاته الشهيرة:" لا أعرف حدوداً, فالعالم بأسره وطني, أينما وجد الظلم فذاك هو وطني", وظل يلتقي بمختلف المناضلين الثوريين, حتى إلتقى بفيدل كاسترو بعد خروجه من السجن, وطلب منه الأخير الانضمام إلى مجموعته الثورية التي كانت تناضل ضد حكم باتيستا الفاسد في كوبا, والذي كان مدعوماً من الولايات المتحدة الأمريكية, وجهاز الاستخبارات المركزية CIA, وكانت كوبا مرتعاً لعصابات المافيا الأمريكية, بينما كان الشعب الكوبي يعيش تحت الظلم, في فقر مدقع.
وافق كاسترو على انضمام غيفارا لمجموعته الثورية, فقد كان يحتاج إلى طبيب, ولكن غيفارا أثبت أنه مقاتل شرس وسريع البديهة, يحسن التصرف في الأزمات, ورجل المهمات الصعبة, فاتكل عليه كاسترو وقلده لاحقاً رتبة عقيد, وكان غيفارا من الحنكة والذكاء, بأنه أشرف على استراتيجية المعارك وخطط التكتيكات لها, فكانت رؤيته الثورية واضحة, بعكس المقاتلين الآخرين بمن فيهم كاسترو نفسه, وهذا أثبت أهمية التثقيف النظري, الذي حرص غيفارا على تعليمه للثوار الذين كان يقودهم, وقوم من سلوكهم ونظرتهم للإنسان, وهذا ما أثار في النهاية إعجابهم به, واستعدادهم لخوض المعارك تحت قيادته.
وأسقطت مجموعة قليلة من الثوار حكم باتيستا عام 1959م, وكان لحنكة غيفارا, ورؤيته الثورية فضل كبير في نجاح الثورة الكوبية, رغم كل ثقل دعم وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لحكومة باتيستا, فقد كانت الثورة المسلحة المدعومة من الجماهير الكوبية خاطفة وسريعة نسبياً, وكان لتداعي حكومة باتيستا وضعفها, اثر في نجاح الثورة.
وقد حققت شخصية غيفارا شهرة عالمية, وخاصة بين الشباب, واثارت هذه الشخصية جدلاً فكرياً حول أسلوبه النضالي, وهذا ما سنتحدث عنه في مقالنا القادم, إضافة إلى قصة موته.

Saturday, July 25, 2009

عماد التنمية



لا أحد منا يختلف حول أهمية التعليم كأساس لبناء الأوطان, فالمواطن المتعلم تعليماً جيداً وحديثاً, هو الرأسمال الأساسي للتنمية والتقدم, أما الثروات الطبيعية, فهي إلى زوال حتمي, إذا لم نحسن استثمارها.
والتعليم بالذات, لا يجب أن لا يخضع للتسيس أو الشخصانية, بل يخضع للمقاييس التربوية والعلمية, التي تحقق مصلحة الشعب بمختلف فئاته, وهذا يحتاج إلى الصدق والنزاهة والنضج ومواكبة أحدث ما توصلت له نظريات وطرق التعليم في العالم, بما لا يناقض المصلحة الوطنية.
وفي الواقع بدأت دولة الكويت, في بداية بنائها الحديث, في وضع مناهج متقدمة, تخرج كوادر ذات أفق واسع, وثقافة عالية, وفكر متسامح ونقدي وتحليلي ومقارن, أساسه الاكتشاف وليس التلقين وحشو المعلومات, وكانت هناك كفاءات تعليمية مشهود لها, كويتية وعربية, لا تركز فقط على المنهج, ولكنها تهتم بالتربية أيضاً.
ففي تربية المدارس في الكويت المتقدمة سابقاً, كانت الأخلاق والمواطنة الصالحة, من أهم أسس التعليم, فيتخرج الطالب والطالبة ولديهما ثقل نظري, ومهارات ذهنية وسلوكية, لديه القدرة على التعبير عن نفسه وعن رأيه, قولاً وكتابة, ولديه معارف واسعة.
والمناهج الكويتية تلك, ساهمت أيضاً بتخريج كوادر خليجية, بنت الدولة الخليجية الحديثة, سواء أرسلت المناهج إليها, أو انتسب أبناء الدول الخليجية إلى مدارس الكويت, ناهيك عن الأخوان العرب الذين ولدوا وتربوا ودرسوا في المدارس الكويتية.
هذه الكوادر التي درست في خمسينيات وستينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي, ساهمت بفاعلية في بناء وإدارة مؤسسات المجتمع الحديث, بما فيها المؤسسات التعليمية, كانت كوادر واعية مثقفة, تساهم بفعالية ومسؤولية في الحدث المحلي, وكانت القراءة والمتابعة عادة اجتماعية لديها.
كنا نفخر بتعليمنا, حتى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات, عندما سيطر الإسلام السياسي على وزارة التربية, وفرض مناهج تقترب من أجندته السياسية, ونقل التثقيف الحزبي من الخلايا إلى كل أبناء وبنات الكويت, وسادت لعدة عقود حملة تجهيل, أخرجت طالباً شبه أمي, وهذا الطالب أصبح مدرساً ضعيفاً, يخرج طلبة أضعف منه, لا يفقهون من أمور العلم والحياة وحتى التربية شيئاً, وتم ترويع أبنائنا الصغار بعذاب القبر, وتحريم الفنون, وخلقوا منهم أبناء عاقين, دخلوا في صراع مع والديهم الذين تربو بانفتاح وتسامح مع الغير.
وانتشرت آفات كبيرة في المدارس, بسبب غياب التربية الصحيحة فيها, مثل انتشار المخدرات, والعنف ضد المدرسين وضد المنشآت المدرسية, وازدادت نسبة الاعتداء الجنسي على الطلبة والطالبات, وتضاعفت ظاهرة الدروس الخصوصية, وكثيراً ما حرض المدرس طلابه على الغياب, خاصة قبل وبعد العطل الرسمية, وانخفضت ساعات التدريس, لدرجة جعلت المنظمات التربوية العالمية, تحذر من خطورة قصر اليوم الدراسي في الكويت, ولكن مالا تعرفه هذه المنظمات, أن الموضوع لا يتعلق فقط بعدد الساعات الدراسية, بل بما تحويه هذه الساعات من علم ومعرفة وتربية.
وحتى طلبة البعثات والدراسات العليا, كانو يختارون بناءً على انتمائهم السياسي, فالقيادات في وزارة التربية في ذلك الوقت, كان شعارهم "تخرج وانفع ربعك", وعندما كنت في الولايات المتحدة للدراسات العليا, كنت أتابع هؤلاء الطلبة الذين كان كل همهم, هو التخرج بأي ثمن, فيدرسون في بعض الجامعات, التي يعمل فيها دكاترة عرب, يبيعون الشهادات, مثلما حدث مؤخراً في الجامعة البريطانية التي يديرها باكستانيون, والتي خرجت العديد من كوادرهم, دون حتى أن يتواجدوا فيها, ومعظمهم طلبة ينتمون إلى الإسلام السياسي, والمصيبة أنهم يدرسون في الجامعات والمعاهد الكويتية, ولا يعرفون إلا بضعة كلمات بالإنجليزية.
في منتصف الثمانينيات, كنت أعمل موجهاً للتدريب الميداني, لطلبة وطالبات قسم الخدمة الاجتماعية في جامعة الكويت, واندهشت كثيراً من تقاريرهم التي كانو يكتبونها باللهجة المحلية, وكان يصعب علي تفسير أو قراءة تقاريرهم.
أظن أنه آن الأوان, إذا كنا نهدف إلى عودة الكويت, إلى مركزها المالي والتجاري والثقافي, أن نعيد تأسيس مناهجنا الدراسية, لعل وعسى نستطيع خلق مواطن قادر على البناء والتنمية, بعد عقدين أو ثلاثة.

Sunday, July 19, 2009

الكوكب الغاضب


هناك برنامج علمي وثائقي بعنوان angry planet , أو الكوكب الغاضب, وهو برنامج يتابع ما تمر به الكرة الأرضية من كوارث طبيعية, مثل الزلازل والبراكين, والعواصف, والتغيرات المناخية غير الطبيعية.
وجرى الاهتمام عالمياً بما يسمى ظاهرة الاحتباس الحراري, وعلى مستوى الدول, وليس فقط على مستوى الجمعيات المهتمة بالبيئة, فهناك اهتمام جدي في الكونغرس الأمريكي, وهناك اجتماعات على مستوى رؤساء الدولة, لمناقشة ومعالجة هذا الأمر الذي يهدد بفناء الأرض ومن عليها في المستقبل.
وظاهرة الاحتباس الحراري حسب موسوعة وكيبيديا, هو ظاهرة ارتفاع درجة حرارة الأرض عن معدلها الطبيعي, وحسب اللجنة الدولية لتغير المناخ Ipcc, فإن أغلب الزيادة الملحوظة في معدل درجات الحرارة, بسبب زيادة غازات الاحتباس الحراري, تأتي من نشاطات وتصرفات البشر, فالولايات المتحدة, هي أكبر منتج لانبعاث ثاني أكسيد الكربون, الناتجة عن نشاط البشر, ويقصد به افرازات المصانع, وبعض المنتجات الملوثة.
وهذا سيسبب مزيدا من التصحر, لانخفاض هطول الأمطار, أو انهمار أمطار حمضية تهلك النباتات, وايضاً زيادة وشدة العواصف بما فيها المغبرة, وانتشار الأمراض المعدية, وانقراض العديد من الكائنات الحية والنباتات, وغرق بعض المدن الفقيرة بسبب ارتفاع منسوب المحيطات, نتيجة لذوبان جليد القطبين.
كل ذلك سببه تصرفات الإنسان, الذي ما زال مصراً على التجارب النووية والكيميائية, وقطع الأشجار, واستخدام القنابل والمتفجرات بأنواعها, وردم النفايات النووية, واستخدام المصانع والشركات لكل الوسائل من أجل الربح ومضاعفة الربح, حتى وإن كانت على حساب قصر عمر الأرض.
تعاملنا بروح تدميرية مع كرتنا الأرضية, ولم نتعامل بمحبة, فنحن سبب الخلل والتشويه اللذين طالا الأرض والمناخ, نحن سبب الاحتباس الحراري, فالأرض كانت منسجمة مع نفسها, وجئنا بصلفنا وقلة مسؤوليتنا وتحضرنا لنربك انسجامها.
والأوطان هي جزء من هذا الكوكب, بما فيها المدن والشوارع والمتنزهات, وكل عمل لا مسؤول تجاه الأراضي والبحار والأنهار والغابات, هو مشاركة في تدمير الأرض, كل تخريب للمباني ولجمال المدينة والشوارع, هو مساهمة في التلوث والتخريب.
نحن نذكر عندما كانت الكويت جميلة ببرها وبحرها وشوارعها, نذكر عندما كانت مقراً مؤقتاً لطيور الربيع, واحدى محطات الترانزيت لطيور البط, ونذكر عندما كان البر مخضراً وزهور النوير ممتدة على مد البصر, نذكر عندما كان لدينا فراشات, نذكر عندما كانت رمال الشواطئ ناعمة نظيفة, كانت بيضاء وعذراء, وكان البحر رائقاً, والأسماك وفيرة.
تحولت شواطئنا إلى مجمعات قمامة, ومخلفات بناء. واختفت بعض أنواع الأسماك وتضاعفت أسعار ما توفر منها بسبب ندرتها, هذا ونحن بلد بحري, وقتلت مرابي الأسماك, بسبب دفن البحر للتوسع العمراني, وتغيرت بيئة قاع الخليج, بسبب العبث بالشعب المرجانية, والصيد بطريقة "الكراف" أو الجرف أيا كان الكائن البحري, حتى تحولنا إلى مستوردين للأسماك ولمنتجات البحر.
تحولت الأراضي البرية إلى صحاري قاحلة, لا تستطيع حتى الزواحف العيش بها, واختفت الثعالب وكثير من الحيوانات المألوفة, واختفت الطيور بسبب الصيد العشوائي والعبثي, واقتلع العرفج بكميات كبيرة, لاستخدامه كأعلاف للماشية, واختار البط عبور أجواء الكويت ليلاً, خوفاً من المجزرة.
وتحولت المناطق السكنية إلى مبان ومساجد من التنك, وازداد التلوث نتيجة لتضاعف عدد السيارات, بسبب الفساد وبيع رخص القيادة لأي وافد, وامتلأت الجسور بالكتابات والألوان القبيحة, وتحولت الأرصفة والشوارع إلى قمامة.
والحل لا يكون إلا بإجراءات حكومية حازمة, لا يكون إلا بحملة وطنية تشترك بها قوى المجتمع الحية, لحماية ما تبقى من الكويت, فإنشاء المحميات أمر مهم, ولكنها ليست كل الكويت, والإجراء الحقيقي يبدأ بالإنسان.
بعد كل ذلك, إلا يحق لكوكب الأرض أن يغضب؟

Sunday, July 12, 2009

المعارضة الشريفة




يتردد هذه الأيام رأي سطحي ومتهافت, على أثر الاستجواب الذي قدمه بعض النواب الأفاضل لوزير الداخلية, هذا الرأي يقول بما معناه, إنتقلت المعارضة الوطنية من المناطق الداخلية إلى المناطق الخارجية, فمن يحمل لواء المعارضة الوطنية الآن هم أبناء القبائل, أما المعارضة الكويتية التقليدية فقد إنتهت, وإن الاستجواب الأخير أثبت بطولة معارضة أبناء القبائل.
وبالطبع, إضافة إلى أن هذا الرأي يسهم في تفتيت المجتمع, ويوسع من الشرخ الاجتماعي الخطير, والذي بدأت بوادره تتضح مؤخراً بحس لا مسؤول من البعض, إضافة إلى ذلك, فإن هذا الرأي ضحل فكرياً, وخطر على المتأثرين بالرأي الصحافي, ومثير للعصبية البغيضة.
فالمعارضة الوطنية الكويتية, والتي بدأت تتبلور في بداية عشرينيات القرن الماضي, واستمرت إلى ما بعد تحرير الكويت, كانت تضم كويتيين, ومن جميع الفئات الموجودة في ذلك الوقت, ولم تكن تفكر إلا بانتمائها الوطني, ومصالح الشعب والوطن, كانت معارضة شريفة ونزيهة, وتاريخها مسجل ومحفوظ, وأسماء رجالها معروفة ومحفورة في قلوب الكويتيين.
لم تكن معارضة الصراخ والهمجية والغوغائية, لم تكن معارضة مراهقين سياسيين, لم تكن معارضة موجهة ضد نظام أو أشخاص, ولكنها كانت معارضة من أجل أهداف وطنية نبيلة, ولم تكن تستخدم الوسائل الدنيئة للوصول إلى غاياتها, بل كانت تستخدم الحوار والإقناع, والاحتجاج المتحضر.
هي المعارضة الوطنية, التي طالبت مبكراً بالمشاركة السياسية, طالبت بالدموقراطية, وطالبت بالدستور, هي المعارضة التي طالبت بتأميم النفط, وتخليص ثروتنا الوطنية من براثن الشركات الإنجليزية, هي المعارضة التي جمعت الشعب الكويتي, من أجل عودة الحياة الدموقراطية أيام الأثنينات, وكانت إحدى اجتماعاتها في منطقة الجهراء, هي المعارضة التي انخرطت في المقاومة ضد الاحتلال, هي الصامدة على أرض الوطن, هي المناشير والمظاهرات والسلاح ضد المحتل, هي الأسرى والشهداء, ومن ضمنهم أبناء المناطق الخارجية, إذا إتفقنا على هذا المصطلح, هي التي جالت في الكرة الأرضية لشرح القضية الكويتية, وحشد الدعم والتأييد لقضية الكويت العادلة, هي التي وضعت يدها بيد الأسرة الحاكمة والنظام في مؤتمر جدة, هي التي أعادت بناء وبهاء الكويت بعد التحرير.
هذه المعارضة كانت نزيهة, لم تكن تتجسس على أسرار الوزارات والأشخاص من أجل استجواب وزير, لم تكن تلك أخلاقيات المعارضة الوطنية الكويتية, كانت تحترم القادة ورجال الدولة, كانت تطرح المشاريع الوطنية, وليس مشاريعها الخاصة أو مشاريع قبيلتها أو طائفتها, كانت تحترم القوانين ولا تكسرها, كانت تستقوي بالوطن لا بالقبيلة, كانت حفنة من تراب هذا الوطن لديها أغلى من القبيلة أو الأصل, كانت معارضة قول وفعل.
أي معارضة هذه التي تقدم استجواباً لمخالفة القوانين, وهي جاءت إلى المجلس بمخالفة مجرمة من القانون؟ فمقدمي الاستجواب لم تكن عيونهم على الكويت, ولا من ضمن اهتماماتها, كان الدافع انتقاماً شخصياً, كانت معارضة مصالح, وعندما تقدم مشروعاً فيجب أن يكون مشروع تدمير لا بناء, مشروع لاستنزاف أموال الشعب لا الحفاظ عليه, مشروع للاستحواذ على أملاك الدولة, مشروع لتنفيع أبناء العمومة, مشروع لمخالفة مبادئ الأمة وتفتيت المجتمع, هي معارضة حق يراد به باطل, وإذا لم تنفذ مشاريعها التدميرية تسعى للانتقام بحجة الدفاع عن المال العام, لكنها وعلى مدار تاريخها القصير لم تطرح مشروعاً تنموياً واحداً, بل إذا لم تنفذ معاملاتها غير القانونية, هي على استعداد حتى للاعتداء بالضرب على مسؤولي الدولة.
ليس لهذه المعارضة المزعومة بعد فكري, أو فلسفة سياسية ضمن أطر الدولة والنظام, ولا تملك أي مقوم من مقومات المعارضة السياسية, أو العمل السياسي في أبسط مبادئه, وليس لديها قضية.
هذه المجموعة استفادت من انكفاء الحركة الوطنية, وفقدانها للمبادرة, واستمرارها بالفكر والعمل التقليديين, النخبوي والموسمي, اللذان يثيران استياء شبابها وشاباتها, وموقفها من استجواب وزير الداخلية, دليل على عدم قدرتها على القراءة السياسية الذكية, وفكرت فقط بالخمسة ملايين, وهذا يحتاج إلى مقالة منفصلة.
وعلى مدى تاريخها, مرت المعارضة الوطنية الكويتية بهنات وإخفاقات, لكنها مطلقاً لم تكن خبيثة أو تعمل بنوايا سيئة, أو مقاصد دنيئة, ولن تموت كحركة وطنية, فالمعارضة الشريفة والانتقاد البناء هو من مكونات الضمير الكويتي منذ تأسيسها كدولة, وهذا ما تعرفه وتحترمه القيادة السياسية.

Sunday, July 5, 2009

الإعلام الثقافي



لا أظن أنه يوجد مثقف عربي أو غير عربي, لا يعرف مكانة الكويت الثقافية, خاصة في العقود السابقة من القرن المنصرم, حيث كنا نشهد ونتابع أحداثاً ثقافية نوعية, رغم أن سكان الكويت كانوا أقل عدداً, وعدد الصحف كان أقل, وعدد المبدعين كان أقل, ووسائل الاتصال والتكنولوجيا, كانت أقل تقدماً.
ولا يعود السبب لانحسار الاهتمام لدى الشباب بالشأن الثقافي, فعدد منتجي الفن والأدب في تزايد, لدرجة صعوبة المتابعة, وفي حديث عابر مع مسؤولي مكتبة فيرجن ميجا ستور, نجد أن الإقبال على القراءة والمتابعة كبير نسبياً, ونستطيع متابعة التعليق على الكتب الجديدة في المدونات الشبابية, لكن المكتبات المتفرقة في مناطق الكويت والمتباعدة, هي ما تعاني انحسار الإقبال عليها, فالناس تقبل على المجمعات الجامعة لكل شيء, الملابس والمقاهي ودور السينما والمكتبات.
لكن بالطبع لا يخالجنا وهم, بأن معدلات الإقبال على القراءة, أو متابعة الأنشطة الثقافية قد ازدادت, فما زالت النسبة متدنية مقارنة بالدول المتقدمة.
التراجع الذي نلمسه هذه الأيام, يأتي من متغيرات موضوعية, مثل انسحاب االمؤسسات الثقافية الرسمية, من دور المبادرة والريادة, إلى دور الواجب الروتيني, فبعدما كان الهم هو نشر الثقافة, وإبراز دور الكويت الثقافي, أصبح الدور هو تنفيذ المشروعات الموضوعة قبل سنوات, وعدم محاولة تجديدها, أو وضع مشروعات ثقافية جديدة, مما جعل الدور الثقافي الكويتي باهتاً ومكروراً دون إبداع.
والسبب الآخر الذي يجعلنا نلمس خفوت الاهتمام الثقافي, هو دور وسائل الإعلام من صحافة ومحطات فضائية, ففي الصحافة الثقافية الكويتية, لا نجد تسليطاً كافياً على الإبداع الكويتي, رغم أنه في السابق ومع قلة عدد الصحف اليومية, كان يعتبر نشر الكتاب حدثاً ثقافياً, ففي العامين الماضيين صدرت عدة روايات لأدباء كويتيين, لكن لم تعالج هذه الروايات والمجموعات القصصية والدراسات على هذه الصفحات الثقافية, ونادراً ما نجد قراءة لمتخصص لهذه الأعمال, بينما في السابق كان يكتب عن الإنتاج الأدبي والفكري أكثر من كاتب في الصحافة الثقافية, لكن الآن نجد هذه الصفحات تمتلئ بكل الأخبار الثقافية العربية والعالمية.
في بداية هذه السنة صدرت أكثر من خمس روايات كويتية, هذا فقط في بداية 2009 وهو عدد لم يكن مألوفاً في سنوات الازدهار الثقافي, إن جاز لنا التعبير, في السنوات التي كان يقاس فيها أهمية الصحيفة من مستوى صفحاتها الثقافية, ولكن الآن معظم كتاب الصفحات الثقافية, لا يعرفون أدباء ومثقفي الكويت, ويستسهلون المقابلات عبر الهاتف, ومعظم الصفحات الثقافية تحولت إلى أخبار الممثلات والمطربات.
الإعلام الثقافي يعني إبراز الحدث الثقافي, وتسليط الضوء عليه, فالخبر الثقافي ثقافة بحد ذاته, ولا يقل أهمية عن الخبر السياسي, والإعلام الثقافي يعكس مدى تقدم المجتمعات, واهتمامها بالحدث والنشاط الثقافي.
وهناك سبب جوهري آخر, ساهم في غياب المشهد الثقافي الكويتي, وهو الحراك الاجتماعي, وتغير أنماط السلوك والتفكير, إذ أن ذلك يعتبر من المكونات الأساسية لثقافة أي مجتمع, وهذا يجعل حدث إنتاج كتاب وإقامة مهرجان ثقافي, أو ندوة ثقافية, على هامش الأحداث, وينظر لها الناس نظرة اسخفاف ودونية, فالثقافة تعكس الفكر والسلوك ونمط الحياة والإعلام السائد.
والثقافة تعكس وعي طبقي وفئوي, وهذه معرضة للتغير المؤقت, ولذلك نجد أن هناك تمايزاً بين الثقافة السائدة, والتي قد لا تكون متقدمة, وبين الثقافات الأخرى في المجتمع نفسه, والانحسار والتقدم يكونان مرهونان بتقدم المجتمع.

Monday, June 29, 2009

الشغب




الشغب أو Riot باللغة الإنجليزية, تعني خروج مجاميع غير منظمة إلى الشوارع, تدفعها مشاعر غضب أو رغبة بالانتقام, أو ردة فعل أشبه بالعشوائية, وغالباً ما يصاحب أعمال الشغب, تخريب متعمد للممتلكات الخاصة والعامة, وكذلك السرقة والجريمة.
ومن أعمل الشغب المعروفة, تلك التي تكون نتيجة للتعصب الرياضي, أو ما يسمى بشغب الملاعب, وتلك التي تكون بسبب تعصب ديني أو عرقي أو طائفي أو قبلي.
وتختلف أعمال الشغب عن مطالبات الحقوق المدنية, التي كفلتها دساتير الدول المتقدمة, مثل حق التجمع والاعتصام والتظاهر السلمي, وهو حق أصيل للشعوب باعتبارها مصدر السلطات جميعاً, وباعتبار أن حقوقها العادلة هو ما يصيغ القوانين, فلا قانون يجب أن يكون ضد حقوق الناس, وهو ما يسمح للناس بمراقبة تطبيق هذه القوانين.
فتجمعات ومظاهرات المطالبة بالحقوق السياسية والمدنية, ليست مطالبات فئوية أو ضيقة أو خاصة بقبيلة أو طائفة, ولكنها مطالبات تنظمها مؤسسات المجتمع وقوى الضغط المدني, وتشمل كل أفراد المجتمع بفائدتها, وباختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية والطائفية, ومثل هذه المطالبات لا تلجأ إلى الشغب والتدمير لأنها منطلقة من دوافع وطنية, ولا تنطلق من عداءات مع فئات المجتمع الأخرى, وتحدث هذه المطالبات لأسباب لا حصر لها, مثل تحسين المستوى المعيشي, أو المطالبة بالحقوق السياسية, أو حتى التصدي للأطماع الخارجية.
لكن هذه المطالبات السلمية تزعج الأنظمة الدكتاتورية, والفاسدة, وتسميها أعمال شغب, وتلجأ لا إلى الاستماع إلى رأي الناس كما حدث مع حركة "نبيها خمس", بل تلجأ إلى قمع حركة الجماهير السلمية, وأحياناً بطريقة وحشية, وتستخدم كل وسائل الإعلام والدين, لكي تدين هذه المطالبات والتحركات, مثلما قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات, عن حركة يناير 1979م, "دي انتفاضة حرامية, مش انتفاضة شعبية", كما خرج وقتها الشيخ الشعراوي الذي كان وزيراً للأوقاف في ذلك الوقت على ما أظن, وأدان هذه الإنتفاضة.
وبالطبع تستغل هذه المطالبات السلمية, من بعض المستفيدين من الأزمات لإثارة الفوضى وحرف هدف الجماهير, وإعطاء صورة مشوهة لتحركها, كما أن من السلوكات المألوفة للأنظمة الفاسدة في مثل هذه الظروف, هو إرسال من يبث الفوضى ويمارس التخريب المتعمد بين هذه الجماهير, لإعطائها العذر لقمعها.
ومن صفات أعمال الشغب, أنها تنتهي بسرعة دون تأثير إيجابي, بينما أعمال المطالبة بالحقوق المدنية, فتأتي بثمارها ولو بعد حين, كما أن جماهير الشغب تتناقص مع الوقت, بينما جماهير المطالبة تتزايد مع الوقت, ولنا في تحرك أيام الأثنينات في الكويت خير مثال للمطالبة بالحقوق السياسية, ولنا في الشغب القبلي ضد رجال الأمن وضد المؤسسات الأمنية, مثال آخر لم نحصل على نتائجة النهائية بعد.
لكن هل الشغب يقتصر على مجموعات كثيرة من الناس فقط؟ بالطبع لا, فالطلبة المشاغبين عادة يكونون أعداد قليلة, ليس لهم تأثير في مسيرة التاريخ, كما أن أعضاء مجلس الأمة المشاغبين, يخسرون كل يوم مؤيدين لهم, ومثلما أن المشاغبين يخرجون إلى الشارع, مستغلين حقوق الشعوب بالتظاهر, يستغل أعضاء مجلس الأمة المشاغبين الحق الدستوري بالاستجواب, من أجل الانتقام وتحقيق التكسب بطريقة طفولية, لكن مثله مثل أي شغب لن يكون له تأثير إيجابي على مسيرة الشعب الكويتي.

Sunday, June 21, 2009

ثيمة الإصلاح




لعل ثيمة الإصلاح عند الأنظمة السياسية, هي الثيمة المشتركة على اختلاف هذه الأنظمة, بل استعملت في كثير من الأحيان كشعار فارغ, القصد منه الدعاية السياسية, وضرب الخصوم السياسيين, واللعب على عواطف الجماهير.
كل الأنظمة سواء كانت تقدمية أم رجعية أم دكتاتورية, تستخدم شعار الإصلاح لأغراض غالبها ليس له علاقة بالإصلاح, ولكن ألا يعني مفهوم الإصلاح هو اصلاح الخلل, أو تصحيح الأخطاء؟ أو تعديل المسار أو النهوض من العثرات؟
إذا من يرفض الإصلاح هو من يستفيد من استمرار الخطأ أو الفساد, أو المنخدع بالادعاءات والدعاية السياسية, أو المغرر به.
وفلسفة الإصلاح تعني الواقعية والشجاعة, والعمل من أجل اللحاق بمسيرة العالم, والاعتراف بتخلفنا عن القيم البشرية الكبرى والأساسية, مثل قيم الدمقراطية والحرية والمساواة, مثل الحقوق الأساسية للمواطن في الرعاية التعليمية المتطورة, والرعاية الاجتماعية والصحية, مثل المساواة بغض النظر عن العرق والجنس والديانة أو المذهب, فلسفة الإصلاح تعني دفع المجتمع باتجاه المدنية وتطبيق القانون بفاعلية أكبر.
لكن لأن شعار الإصلاح يمكن استخدامه من قبل أي تيار أو اتجاه, باتجاهاتها المختلفة, مما يوقع الإنسان العادي في تشوش وحيرة, فلا يستطيع التفريق بين المصالح الشخصية, والمصلحة العامة, إذ يستطيع أي نائب في البرلمان أن يهدد بالاستجواب بعذر الإصلاح, وتستطيع أي قوى سياسية أن تدعي أن انتقاص دور المرأة في المجتمع هو شكل من أشكال الإصلاح ودرء الفساد.
وقد تنجح هذه السلوكات المنحرفة عن مسيرة تقدم الشعوب ورخائها, لسنوات وعقود, لكنها يستحيل أن تنجح إلى الأبد, فانتصاراتها مؤقته, ولا تملك مقومات الصمود أمام منطق التاريخ, وأمام رغبة الإنسان بالعيش في سعادة وسلام, وأمام طموحه الدائم للأفضل.
لم تستطع الأنظمة الدكتاتورية الاستمرار إلى الأبد, فنظام صدام الدموي لم يستمر أكثر من ثلاثة عقود, رغم كل الوحشية التي مورست ضد الشعب العراقي, وقد يستمر غيره من الأنظمة أكثر من ثلاثة عقود, ولكن أيضاً ليس للأبد, وبعد سقوط نظام صدام بتدخل التحالف الدولي, وضح حجم رغبة الجماهير في هذا التغيير, رغم أن الآلة الدعائية كانت تبين عكس ذلك, بل كان التلفزيون يبين الأعداد الغفيرة التي كانت مؤيدة له.
والاستمرار للأبد في حرف مسيرة التاريخ, وقلب منطقه لم تكن فقط وهماً لدكتاتوريات الأنظمة, ولكنها أيضاً وهماً تعيش عليه جماعات الإسلام السياسي من كل المذاهب, فهي تنتشي لأن الجماهير تتبعها بسبب أمر لا يمكن نقاشه وهو الإسلام والدين, ولكن ماذا لو لم تحقق هذه الأحزاب حلم الجماهير البراجماتي بالسعادة والرخاء, بالتأكيد ستبدأ هذه الجماهير بالتذمر وكشف عجز هذه الأحزاب وكذبها في وعودها, ماذا لو أكتشف الناس أن أحوال المجتمع ساءت أكثر, مع وجود هذه الأنظمة والأحزاب, وتخلفت التنمية والتعليم, وتدهور الاقتصاد, وخرج المجتمع عن الانسجام الدولي في ظل ممارساتها؟
الذي يحدث عادة وعبر التاريخ, أن الشعب يأخذ زمام المبادرة ويقود حركة الإصلاح, فالشعوب لا ترفع شعارات فقط, ولكنها تفعل, ومهما بلغت هذه الأنظمة والأحزاب من غرور وثقة بالنفس, إلا أن التاريخ دائماً يفاجئها بمنطقه الذي لا يقبل الانحراف.
كانت نتيجة الانتخابات النيابية في الكويت, صدمة للقوى الإسلامية, التي كانت تظن أنها تستطيع سحب الشعب الكويتي إلى أجندتها وللأبد, كانت تظن أنها تملك الأغلبية الشعبية, وعندما اتضح أن الأغلبية هي الصامته على سخط ومضض, بدأت هذه الأحزاب تتحدث عن مؤامرة ضدها, وستبذل كل الوسائل اللاأخلاقية في تشويه هذه الرغبة الجماهيرية, وهذا ما حدث في لبنان أيضاً, وبتفاصيل مشابهة.
والمتابع للحملة الانتخابية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية, ثم نتائج هذه الانتخابات وما تمخض عنها من احتجاج جماهيري, يدرك أن هناك رغبة جادة في التغيير والإصلاح, بالطبع هذا أمر خاص بالشعب الإيراني, الذي نحترم خياراته أيا كانت, وأياً كان الفائز في إنتخابات الرئاسة, إلا أن الأمر لن يعود كما كان بالنسبة للشعب الإيراني الشقيق, وأن ما يحدث هو بداية لشيء ما, الشعب الإيراني وحده يقرره, ونتمنى له التوفيق في تحقيق آماله.
فقط نريد أن نقول, أن من يؤمن بمنطق التاريخ, يعرف بوصلة التقدم, التي لا يمكن تغييرها بأي قوة, ومهما طال الزمن.

Tuesday, June 16, 2009

العين والضغوط النفسية




تأتيني في العيادة بعض الحالات الكويتية أو من دول الخليج, ويكون تشخيص رجال الدين لهم, أو تشخيصهم الخاص, هو الإصابة بالعين أو بالجن, وبالتأكيد لا يمكنني أن أدعي أنني أفهم بالعين أو التلبس بالجن وطرق علاجهما.
ولكنني عادة أستمع جيداً لعملائي, وأتعرف على الأعراض, كي أستطيع تشخيصها علمياً, ومن ثم وضع العلاج اللازم لها, ولم يكن صعباً تشخيص هذه الحالات علمياً من خلال الأعراض التي يعاني منها العميل.
وحدث معي أن جاءتني حالات يدعي أهلها أنها متلبسة بالجن, وعندما أسألهم وكيف عرفتم ذلك, يقولون أن الشخص المصاب يسمع صوتاً داخلياً أو يرى اشخاصاً لا نراها ويتحدث إليها, وأحياناً يتحدث بأصوات مختلفة, وكأنها لأشخاص مختلفين, وفي الواقع هذه بعض حالات الفصام أو ما يسمى بمرض تعدد الشخصية M.P.D, وتعدد الشخصيات عند الإنسان المريض قد يصل إلى عشرات الشخصيات, وبعضها أنثوي ويتكلم بصوت أنثوي, وقد اكتشف العلم أنه إذا كانت الشخصية الأصلية مصابة بمرض السكر, قد لا تكون الشخصيات الأخرى مصابة به, وإذا كانت الشخصية الأصلية ضعيفة وخجولة, فإن الشخصية المكتسبة قد تكون عنيفة جداً, وإحدى الملاحظات أن الشخص المصاب يكتسب قوة جسمانية, لا يمكن السيطرة عليها, ذلك بسبب ارتفاع الأدرينالين والجلوكوز في الدم, وهي أمور تحدث مع الإنسان العادي في لحظات الغضب أو الخوف, فتزداد قوته الجسدية عند الغضب, ويصبح أسرع في الركض في حالة الخوف.
وقبل أيام كنت أشاهد فيديو وهو عبارة عن لقاء مع أحد مشايخ الدين في المملكة العربية السعودية, يشرح فيها أعراض الإصابة بالعين, ومن الأعراض التي ذكرها, الوهن والضعف وعدم التركيز, واضطراب النوم, وانعدام الشهية, والاكتئاب والرغبة في الانعزال عن الآخرين.
لكن هذه الأعراض, هي أعراض الضغوط النفسية المثبتة علمياً, فللضغط النفسي أعراض بدنية مثل, اضطراب أو آلام بالجهاز الهضمي, وصداع وآلام في الكتف والرقبة وأسفل الظهر, كذلك وهن الجسم والشعور بالإعياء, وهناك أعراض سلوكية تتعلق بالنوم والأكل, أما أن يصاب بأرق أو ينام كثيراً هرباً من المشكلة, وأما يفقد شهيته, وأما يأكل كثيراً ليعوض توتره, وهناك أعراض نفسية مثل الاكتئاب والتوتر وسرعة الغضب والرغبة بالعزلة, وهناك أعراض تتعلق بالتركيز والذاكرة, أي يقل التركيز ويصبح مشوشاً, وتضعف ذاكرته, وهناك مئات من الأعراض التي لا يجد لها الطب سبباً ملموساً, ولذا يظن الناس أن سببها أمور غيبية, لكن هذه الأعراض هي مجرد أعراض وليست أمراض, ويستطيع الإنسان بسهولة أن يتخلص منها, وبجلسة واحدة, بمجرد تفسير الحالة له, وتعليمه الاسترخاء, والذي يعتبر ضرورياً لحياتنا, ولا يمكن الاستغناء عنه حتى آخر يوم في حياتنا طالما لدينا جهاز عصبي, وهو ضروري ضرورة الأكل والشرب والنوم.
وهنا مرة أخرى, أنا لا أدعي معرفتي بأمور العين والحسد والتلبس بالجن, لكني أعرف أن الضغوط النفسية وتداعياتها مثل القلق والفوبيا, تحدث لكل البشر, وكثيراً ما زارني إمام مسجد يعاني من فوبيا اجتماعية, أو رجل دين يعاني قلق شديد أو خوف من الأماكن المفتوحة أو المغلقة, فطالما نحن بشر إذا لدينا جهاز عصبي يلتقط بشكل يومي, وكل شيء يعتبر ضغطاً نفسياً, ولكي نعيش براحة يجب أن نفرغ من جهازنا العصبي يومياً ثلاث مرات على الأقل, عن طريق الاسترخاء أو الطرق الأخرى.
لقد حل العلم اليوم, كل الأمور الغامضة, التي لا يجد لها الإنسان تفسيراً, وكلما تقدم العلم, كلما وضحت أمور حياتنا, وأصبحنا منتجين ومتفاعلين مع واقعنا أكثر.