Saturday, November 7, 2009

التسلط الفكري الأبوي



عاشت البشرية عهوداً كثيرة, تحت ظل العلاقة الأبوية البطريركية التسلطية, سواء سلطة القبيلة أو النظام السياسي الاجتماعي, أو السلطة الدينية, وبلغ هذا التسلط أوجه في القرون الوسطى, على يد الكنيسة ورجال الدين في ذلك الوقت.
وشكل هذا التسلط, هو استلاب العقل وغربته عن حقيقتة تكوينه وعن إمكانياته اللامحدودة في التفكير والإبداع.
فقبل عصر التنوير الأوربي, كان السائد هو التفكير واتخاذ القرار بالنيابة, على اعتبار أن السلطة الأبوية هي الأعرف والأفهم والأدرى بالمصلحة, وفي هذا السياق منعت هذه السلطة سواء كانت سياسية أم دينية, أفراد الشعب من التفكير واختيار نمط حياتهم وقناعاتهم, وأطرت عقولهم وحددتها بالاتجاه الذي يناسبها هي كسلطة, وضمنت بذلك سيطرتها وهيمنتها وولائها.
وتعاملت مع أفراد الشعب, معاملة الراعي والقطيع, ولم تسمح لأي فرد بالخروج من سياق مجموع هذا القطيع, فأي خروج سيكون عرضة للعقاب والتكفير والإرهاب, فمع الراعي يمنع التفكير الحر, ويمنع الخروج عن السلطة البطريركية.
هذه السياسة كانت واضحة في إجراءات منع الكتب واحتجازها في معرض الكتاب الأخير, فلا يجب علينا كشعب أن نقرأ ما نريد, وليس علينا أن نتعلم, "فمن تعلم فقد تزندق", فهناك سلطة أبوية سياسية ودينية, تفرض عليك ما تقرأ, وتحجر عليك ما تراه ينمي تفكيرك, وتسلبك حريتك في اختيار طريق المعرفة.
ولأن هناك علاقة جدلية بين الحرية والتقدم, نجد أن الدول العربية والإسلامية في ذيل الركب الحضاري العالمي, ومن جميع النواحي العلمية والتكنولوجية والاجتماعية والسياسية, وهذا لا يختلف عليه اثنان.
لكن منع حرية القراءة والمعرفة في الكويت, لم تبلغ هذه الدرجة من التسلط, إلا بعد تنامي نفوذ جماعات الإسلام السياسي, فهذه الجماعات لم تكن قط قادرة على المجادلة والحوار وإعمال الفكر, ولكنها دائماً استخدمت مع الآخر سياسة التسلط والفرض والترهيب والتكفير والإقصاء, كانت وما زالت تخشى من العقل البشري ومن التفكير, ونظرة سريعة وعابرة على التاريخ, نجد التنكيل والقتل لمن يتجرأ ويفكر, ولمن يخرج عن القطيع, خاصة على يد النفوذ الديني.
وتشكل على مر العقود والقرون, ما يسمى في علم النفس "الخوف من الحرية", أو "قطها براس عالم, واطلع منها سالم", وهي احدى المشكلات النفسية الواضحة عند الشعب العراقي, الذي لم يعتد الحرية لسنوات طويلة, فأصبح هذا الخوف عادة, ويحتاج إلى سنوات طويلة كي يتعافى منها.
وحتى الناشرين المشاركين بمعرض الكتاب, اعتادوا هذا التسلط السنوي, وتعاملوا مع الكويت على أنها المحطة الأكثر تخلفاً, فأرسلوا الكتب الممنوعة في الكويت إلى معرض الشارقة الذي يلي هذا المعرض, حيث نسائم الحرية, وحيث أن اختيار الإنسان الإماراتي مطلق فيما يريد أن يقرأ, وهذا ينطبق على معظم دول الخليج, التي رأت في الانفتاح على الكتاب, ضمانة للاستقرار النفسي النسبي لشعوبها, وأنه مع التقدم التكنولوجي, فسيكون من السخافة منع كتاب.
التسلط الأبوي هو إرث اجتماعي تأصل أكثر في الثلاثة عقود المنصرمة, بعد أن كان معرض الكتاب في الكويت, ثاني أكبر وأقدم معرض كتاب في الدول العربية, عندما كانت الكويت واحة للحرية, ووطناً طموحاً للتقدم.
أصبح التسلط الأبوي إرثاً متأصلاً عند جميع فئات وطبقات المجتمع, بما فيها القوى الوطنية الحية, فقد ظلت القوى الوطنية ولعقود طويلة, مرتبطة برموزها بهذه العلاقة الأبوية, واي تمرد عليها هو تمرد على مقدسات, وانتقلت هذه العدوى إلى القوى الطلابية الشبابية, فكثيراً ما نشبت خلافات بل معارك في صفوف الحركة الطلابية الوطنية, مدفوعة بهذه النزعة الأبوية المتسلطة, لكنها مع الأسف وبدلاً من نقدها لذاتها آثرت "الطمطمة" والتكتم على خلافاتها, وهذا يضعفها تنظيمياً, ويفقدها مصداقيتها وجديتها ونضجها.
ومع إيماني الكامل بالقوى الشبابية, وقدرتها على تجديد دماء الحركة الوطنية, ومع الآمال التي أعلقها على أفكارهم الجديدة, وعلى عزيمتهم ونشاطهم وحبهم للوطن, إلا أن الإنجاز لا يمكن تحقيقه, دون نقد علمي متجرد للذات, دون الاعتراف بالنواقص الفكرية والسلوكية, ودون التخلص من التربية السياسية القديمة والإرث الاجتماعي المتخلف.

No comments: