Sunday, December 30, 2007

خير الكويت الثقافي



في التسعينيات كنا نقيم أسبوعا ثقافياً خليجياً في العاصمة الصينية بكين, احتوت على العديد من النشاطات الثقافية, حيث اشتركت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية, من خلال اللجنة الثقافية المشتركة, بالندوات والمعارض التشكيلية, ومعارض الكتب والعروض الفنية, وقدمت فرقة تلفزيون الكويت عروضاً مدهشة أعجبت الجمهور الصيني, فازدحمت دار الأوبرا الصينية بآلاف المشاهدين على مدى عدة أيام, كان أسبوعاً ثقافياً ضخماً, ولعله كان آخر أسبوع ثقافي مشترك بين دول مجلس التعاون, كنت وقتها مديراً لإدارة الثقافة والفنون بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, وممثل الكويت في اللجنة الثقافية, ورئيس الوفد الكويتي.
وقد أتيحت لي في تلك المناسبة فرصة مميزة للالتقاء بمسئولين ثقافيين, ومثقفين, ودارسين للأدب العربي من الصينيين, وتحدثنا عن الثقافة في الكويت, وعلاقة الكويت كشعب ودولة بهذا الجانب, وأشادوا باهتمام الكويت بالثقافة على مدى عقود طويلة, وذكروا لي أن مكتبة بكين الوطنية تحوي كتباً ومؤلفات كويتية, سعدت كثيراً لهذا الخبر وطلبت زيارة المكتبة, وبالفعل تم ترتيب زيارة لي في اليوم التالي.
وقابلت المسئولة هناك, التي أخذتني بجولة دهشت خلالها من ضخامة المكتبة التي تعتبر من أكبر المكتبات بالعالم, بما تحويه من مخطوطات قيمة وكتب كثير منها نادر جداً, كما أن الأقسام المتخصصة سواء بالتاريخ أو الاقتصاد أو الأدب, لا يستطيع الإنسان إنهاؤها في يوم واحد, وكذلك خصص قسم للدول منها الدول العربية.
فطلبت الاطلاع على الكتب الكويتية, وبعد مروري على الكتب الكويتية أصبت بخيبة أمل, فقد كان عدد الكتب قليلاً جداً, وكانت العناوين قديمة, أذكر منها كتاب الدكتور عبد الله غلوم "الحركة العمالية في الكويت" إذا لم تخني الذاكرة في العنوان, فأخبرتهم برأيي وسألتهم عن السبب رغم أن هناك العديد من المؤلفات والدوريات الرسمية منها دوريات المجلس الوطني, إضافة إلى نتاج الأدباء, فحجم الإنتاج المطبوع في الكويت يفوق حجم سكانها!
أجابوا بأنهم يعتمدون في هذا الأمر على الملحقية الثقافية في الكويت لتزويدهم بالمطبوعات, ولا توجد مبادرات من الدولة أو المؤسسات الثقافية والإعلامية, رغم الزيارات المتكررة للملحق الثقافي في الكويت لها, شعرت وقتها بالإحباط, فنحن في الكويت نفاخر في كل مناسبة بمطبوعاتنا, ولدينا كم ضخم من الكتب المشجعة في المجلس الوطني ووزارة الإعلام, ويشتكي الأدباء من أن كتبهم تأكلها العثة والعفن في مخازن المجلس.
فاتفقت مع أمينة المكتبة, وهي عضو بارز في الدولة والحزب, بأن أسعى لإرسال ألف عنوان لمطبوعات كويتية مختلفة, على أن يخصص مكان بارز لدولة الكويت, كما وعدت بأن أطلب من الأمين العام للمجلس إرسال الدوريات بشكل منتظم إلى مكتبة بكين الوطنية, وهذا ما تم في ذلك الوقت.
وفي زيارة أخرى لمدينة شيراز الإيرانية, طلبت زيارة جامعة شيراز, والتي كان أسمها سابقاً على ما أظن جامعة بهلوي, وهناك قابلت أساتذة الجامعة وتحدثنا بأمور الثقافة والأدب في البلدين, وأهمية الترجمة والتواصل الثقافي, وأذكر أنني اقترحت على المسئول الثقافي لمنطقة فارس, إقامة أسبوع ثقافي كويتي في شيراز, وأثناء النقاش اشتكى الأساتذة المختصين باللغة العربية من قلة الكتب العربية في مكتبة الجامعة, فطلبت الإطلاع عليها وتعرفت على مسئول المكتبة الذي أخذني إلى القسم العربي, فهالني قدم المطبوعات العربية بشكل عام, فقد يكون الأحدث عباس العقاد وطه حسين, إضافة إلى جرائد تعود إلى العلاقة الإيرانية المصرية أيام حكم الملك فاروق, سألتهم هل توجد كتب كويتية؟ قالوا رأينا كتباً منها, وبحثنا لكننا لم نجد أي كتاب.
فاتفقت مع الأستاذ الدكتور مسئول المكتبة بأن نرسل له خمسمائة عنوان من دوريات المجلس الوطني, والكتب المشجعة على أن يتم الإرسال دورياً بشرط أن يخصص قسم خاص للمطبوعات الكويتية في جامعة شيراز, وهذا ما تم بالفعل رغم أن شحنة الكتب تأخرت كثيراً بسبب البيروقراطية في الدوائر الحكومية الإيرانية والرقابة وغيرها, إلا أنني تلقيت كتاباً يتضمن شكراً لدولة الكويت من الجامعة, ويفيد بوصول الكتب ووضعها بمكان بارز في المكتبة.
الجميع يعرف أن هناك كم ضخم من الكتب المشجعة في مخازن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, وما يخرج منها للمشاركات الخارجية والداخلية قليل جداً, بل أن تقرير الموظفين المسئولين في الاجتماعات الرسمية, يقول أن هذه الكتب تتعرض للتلف رغم المبالغ الكبيرة التي دفعت للمؤلفين كتشجيع واقتناء.
وفي نفس الوقت يعاني الأدباء من عدم توفر نسخ لديهم من هذه الكتب لإهداء ضيوف الكويت من المثقفين, كما يقترح الأدباء إرسال نسخ إلى جميع سفاراتنا في الخارج, لإهداء الشخصيات والمؤسسات الثقافية في تلك البلدان.


Monday, December 24, 2007

كنوز ضائعة




أذكر أنني عندما انتقلت إلى بيتي الحالي في منتصف التسعينيات, اتصلت بشركة لنقل الأثاث, وفوجئت عندما ذهبت إلى بيتي القديم للإشراف على نقل محتويات المنزل, بأن العمال كانوا يضعون كتبي في صرر كبيرة من ملاءات السرير ويربطونها على شكل "بقجة" ويجرجرونها على الأرض بكل إهمال, ثم يقذفون بها في الشاحنة دون رحمة, انفعلت وتجادلت مع المسئول ورفضت إتمام الأمر معهم, ففوجئت به يقول لي: "شدعوه..كلها كتب" ثم أردف: "مضيعين فلوسكم كلها على الكتب..كتبكم أكثر من أثاثكم", كان مستنكراً غضبي على طريقة تعامله مع كتبي وكأنها شئ بلا قيمة, ومستنكراً أكثر إنفاقي نقوداً لشرائها, وهذا جعلني أفكر بمصير مكتبتي الصغيرة بعدما أرحل من هذه الدنيا.
في الكويت هناك مكتبات خاصة ثمينة للغاية, بذل أصحابها كثيراً من الوقت والجهد والمال لجمعها, وربما قضوا معظم سنوات عمرهم في جمعها, وهذه المكتبات الشخصية لها قيمة معنوية عالية لدى أصحابها, لكنها في الكويت تحديداً تضيع برحيل أصحابها.
عبر تاريخ الكويت هناك شخصيات أدبية وفكرية وثقافية رحلت أو ما زالت على قيد الحياة, تملك كنوزاً من الكتب والمخطوطات لها قيم تاريخية وفكرية, وبعضها من النوادر التي تشكل ثروة لا تقدر بثمن, وبعضها طبعات قديمة, هذا عدا عن المخطوطات التراثية والملفات والملحوظات.
ووجود هذه المكتبات في بيوت بعض الأسر الكويتية, أتاح لبعض أبنائها الاهتمام بالثقافة والقراءة والاطلاع, لكنها في كثير من الأحيان لا تشكل أدنى قيمة لدى الأبناء خاصة بعد رحيل صاحبها, فأما أن تضيع وتتشتت, أو تتلف أو يستولي عليها أحد, لكن ذلك في المحصلة ضياع لجهد صاحب المكتبة وضياع لكنز من كنوز المجتمع والأجيال القادمة.
وهناك أمثلة لمبادرات لحفظ بعض المكتبات, مثل مكتبة أحمد البشر الرومي رحمه الله الذي تبرع بمكتبته للدولة, وبالفعل المكتبة الآن في مكتبة الكويت الوطنية التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, كذلك مكتبة الأستاذ عبد العزيز حسين ومكتبة الأستاذ عبد الرزاق البصير اللتان يحتفظ بهما المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في مركز عبد العزيز حسين الثقافي.
لكن تظل مشكلة المكتبات الخاصة في الطرفين, ورثة صاحب المكتبة وأجهزة الدولة المتخلفة ببيروقراطيتها وبطئها وعدم اهتمامها, فمثلاً بعد وفاة الأديب الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري, أقترح صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الصباح بأن يخصص مبنى في الشامية كمركز ثقافي لعبدلله زكريا تنقل إليه مكتبته الضخمة والقيمة, أو يعاد تأهيل مكتبة الشامية العامة والمقرات القديمة الملاصقة لها مثل مستوصف الشامية الذي بني بديل عنه, ومبنى البلدية, لكن ورغم أنها رغبة أميرية إلا أن أجهزة الدولة لم تخط خطوة باتجاه تنفيذها, مما يعرض هذه المكتبة القيمة للتلف أو الضياع مع مرور الزمن.
وهذا ينطبق على مكتبة المرحوم الأستاذ حمد الرجيب, التي تقبع الآن في كراتين, هذه المكتبة التي عاينتها شخصياً أثناء حياة الأستاذ حمد وبعد وفاته عام 1998م, تحوي كنوزاً من الكتب والتسجيلات النادرة, وكان قد أخبرني الأستاذ حمد أن بعضها لا يوجد له مثيل في العالم, إضافة إلى المخطوطات والنوت الموسيقية التي كتبها بيده, والتي قضى عمره كله في جمعها والحفاظ عليها حتى أثناء الاحتلال, وكان يقضي وقتاً ليس بالقليل في هذه المكتبة في سرداب بيته, يعزف ويلحن ويقرأ ويستمع إلى التراث الموسيقي الراقي.
بعد وفاة حمد الرجيب مباشرة خاطب المجلس الوطني عائلة حمد الرجيب بكتاب رسمي, طالباً الموافقة على جرد محتوياتها ونسخ التسجيلات الموسيقية, تمهيداً للاحتفاظ بها في مكتبة الكويت الوطنية, لكن هذا الأمر لم يتم لأسباب مختلفة.

وهذا ينطبق على مكتبات قيمة لشخصيات لعبت دوراً تاريخياً في الثقافة الكويتية, مثل مكتبة الفنان يوسف دوخي الموجودة في المعهد العالي للفنون الموسيقية, والتي تسرب منها بعض المقتنيات, ولا نعلم عن بقية مقتنياتها الثمينة, وكذلك مكتبة المؤرخ حمد الحاتم صاحب كتاب "من هنا بدأت الكويت", والتي حسب ظني ما زالت موجودة في بيته, إضافة الكثير من الوثائق والمخطوطات الموجودة في بيوت أهل الكويت, والمعرضة للتلف والضياع مع مرور الزمن.
ستظل هذه الكنوز ضائعة حتى تتخذ الدولة موقفاً جاداً تجاهها, وعندما أتحدث عن الدولة لا أتحدث عن الأجهزة البيروقراطية المتخلفة, فلا يمكن التعويل عليها لإنجاز هذا الهدف السامي, كما أن إصلاح هذه المؤسسات لا يبدو في الأفق هذا إن كان هناك جرأة على الإصلاح أو رغبة حقيقية به, أنا أعني هنا سلطة مجلس الوزراء مباشرة ومسئوليته في الحفاظ على الثروات الوطنية ومنها مكتبات الشخصيات الكويتية, يجب سن قوانين جادة لشراء هذه المكتبات ووضعها في مكان لائق لخدمة الأجيال القادمة وخدمة الثقافة في الكويت, لا أن يتم التعامل معها كحالات فردية, أو تترك لرغبة أو حتى حيرة أهل صاحب المكتبة في كيفية التصرف بها.


osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com

Saturday, December 15, 2007

الهيبز وسارتر




خلط صديقي بين حركة "الهيبز" وفلسفة سارتر, لا أعلم لماذا, ولكنه علل بخطأ آخر, إذا قال فلسفة سارتر تؤمن بعدم الوجود, أو كما قال "الوجود والعدم", وهذا خطأ شائع عند بعض المثقفين العرب, فالعدمية في فلسفة سارتر لا تعني عدم الوجود, ولكنها تعني العبثية.
أما حركة "الهيبز" hippies التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا, فقد كانت حركة احتجاجية ضد حرب فيتنام والخط اليميني الرجعي في أمريكا, وخاصة إجراءات مكارثي ومحاكماته ضد الأدباء والفنانين والمفكرين على اعتبار أنهم شيوعيين.
كانت فترة الستينيات مفصل في التغييرات السياسية والاجتماعية, ولعل أشهر الحركات الاحتجاجية حركة مارتن لوثر كنج ضد التفرقة العنصرية, وكذلك حركة الطلبة في فرنسا عام 1968م, والتي من قادتها ميشيل فوكو المفكر المعروف, وكذا الحركات النسائية احتجاجاً على التفرقة بين المرأة والرجل..الخ
حركة الهيبز حركة احتجاجية عشوائية, لم تكن ضمن الاستراتيجيات للأحزاب السياسية, لكن الأحزاب استغلت هذا النهوض لتصعيد عملها السياسي, مثلما حدث مع حركة "نبيها خمس" الشبابية في الكويت, بدأت كحركة شبابية ثم انضمت لها شخصيات وتنظيمات وطنية, وانضمت كذلك شخصيات انتهازية ومتسلقة.
لكن حركة الهيبز التي ساهمت بإثارة الرأي العام الأمريكي والعالمي للمطالبة بالسلام ووقف الحرب, خرجت في جزء منها عن الانضباط بسبب عدم تأطيرها بالعمل الحزبي المنظم, ولذا تحول الشعار الأساسي "اصنع الحب لا الحرب" إلى "مارس الحب لا الحرب" لأن make love تحتمل المعنيين, وهذا يشبه الوجودية والعدمية كما فهمه وترجمه بعض المثقفين العرب, وبناء على فهم عبارة make love not war وحيث أنها حركة احتجاجية ضد القيود والقديم والسياسة وسلطة الدولة, بالغ البعض بالسلوكات والأفكار, مثل الممارسات الجنسية العشوائية وتدخين الحشيش وتعاطي المخدرات, وإطالة الشعور واللحى, والنوم بالشوارع والحدائق.
قادنا هذا النقاش مع الصديق المثقف إلى السؤال التالي:"هل هذا يعني أن الأحزاب هي التي تصنع التغيير في المجتمع والجماهير تتبعها؟ أحياناً, ولكن الأساس هو حركة المجتمع والشعب, وتلعب الأحزاب والتنظيمات السياسية بخبرتها السياسية, دور ضابط الإيقاع خشية الانفلات أو الاستغلال.
لكن التنظيمات العربية تتعامل أحياناً مع جماهيرها وكأنها قطيع, وكأنها (التنظيمات) تمتلك الحقيقة كاملة, لكن الممارسة الحياتية وليست النظرية هي الحاسم بالأمر, فالممارسة العملية وحركة الناس تظل في ذاكرة الشعوب وتاريخها, ولذا تكرر وتقلد لنجاح تجربتها.
ففي العام الماضي افترش الشباب ساحة الإرادة مطالبين بالإصلاح السياسي, وقبل أسبوعين افترش المطالبين بإسقاط القروض نفس الساحة وبنفس الأسلوب, وحتى أنهم استخدموا الشموع التي استخدمتها حركة "مبدعون كويتيون", رغم أن الأولى كانت للمطالبة بالإصلاح والثانية كانت للمطالبة بتدمير اقتصاد البلد.
هناك من يعتقد أن الخبرة السياسية هي المنطق الوحيد للنضال والإصلاح والتغيير, لكن الخبرة السياسية وحدها تعني العيش في برج عاجي بعيداً عن نبض الجماهير, يجب أن تكون الخبرة السياسية على صلة وثيقة بما يحدث بالمجتمع والشارع, يجب أن تكون متنبهة كي تستطيع قيادة وتنظيم الاحتجاج بخبرتها, ولنتذكر أن التنظيمات السياسية العربية لا تثق بجماهيرها, وتتعامل معها بريبة وتشكك, أو "شوية يهال".
في انتفاضة 17 و18 يناير 1979م في القاهرة, والتي سماها الرئيس السادات "انتفاضة حراميه", كانت انتفاضة شعبية عشوائية لكن مطالبها شرعية, مثل مطالب الهيبز الشرعية, ولم تستطع الأحزاب المصرية بخبرتها العريقة أن تستشعر السخط المتنامي عند الجماهير بسبب المعاناة المعيشية, كانت الأحزاب مشغولة بقضايا أكبر وأهم من الجماهير وأبناء الشعب, ولذا قمعت بسهولة وبسرعة.
الآن اختفت ظاهرة الهيبز, لكن بقى جوهر التغيير, وبالمناسبة لا ألوم صديقي المثقف لخلطه بين حركة الهيبز والسارترية, لأني عندما بحثت عن معنى هيبي في القاموس وجدتها: الخنفوس, الهيبي, الوجودي.

osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com
www.osboha.blogspot.com

Saturday, December 8, 2007

رئيس الوزراء/ الأديب والفنان








سير ونستون تشرشل هو رئيس الوزراء البريطاني الأسبق, وأحد الرجال ذوي الكاريزما, الذين أثروا في التاريخ, خاصة وأنه قاد بريطانيا إلى النصر في أحلك الظروف التاريخية في الحرب العالمية الثانية, ولذا فالبريطانيين يعتبرونه بطلاً قومياً, وإحدى الشخصيات التاريخية الخالدة في عقولهم ووجدانهم.
وهناك عدد من المراكز المتخصصة باسمه في بريطانيا أو كمواقع إلكترونية, حول تاريخه وأعماله السياسية وخطبه, وهذه المراكز متاحة للدارسين والباحثين في الشئون السياسية والسوسيولوجية والثقافية, إضافة إلى مذكراته التي تعتبر مرجعاً قيماً لهذه الشخصية المميزة.
ولد تشرشل في 30 نوفمبر 1874م وتوفي في يناير 1965م, وقد كان رئيس وزراء لبريطانيا مرتين الأولى كانت من 1940 إلى 1945م, وخلال حياته العسكرية خدم في السودان وجنوب أفريقيا, ويعتبر مخططاً استراتيجياً من الدرجة الأولى, وكانت خطبه السياسية ملهمة لجيوش التحالف ضد هتلر, وعندما توفي كانت جنازته أكبر تظاهرة في التاريخ.
ويحفظ الشعب البريطاني مقولاته التي تعتبر حكماً ومجازات مهمة, حتى في العلاج النفسي, ومن مقولاته "أنا أحب أن أتعلم, لكن لا أحب أن يعلمني أحد", ومقولة أخرى "إذا كان لديك سيارة, فلا بد أن يكون لديك كابح", ويقال أنه كان في يوم ما متأخراً على اجتماع مهم, وكان سائقه يقود السيارة بسرعة فقال له تشرشل: "أرجوك خفف السرعة لأني مستعجل جداً", وفي مرة طلب منه ألقاء كلمة مدتها عشر دقائق, فقال أمهلوني أسبوعاً, فتعجب الجميع قالوا له كلمة لمدة دقائق تحتاج أسبوعاً, ماذا لو طلبنا منك كلمة مدتها ساعة؟! رد عليهم قائلاً: إذا كانت لمدة ساعة فأنا جاهز الآن", مما يبين صعوبة وأهمية تكثيف كلمة أو معنى.
وقد لا يعرف الجميع أن تشرشل كاتب من الطراز الأول, وقد حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1953م على كتاباته, كما أن لديه رواية جميلة باسم "سافرولا" savrola وقصص قصيرة متنوعة, كما قد لا يعرف الجميع أنه فنان تشكيلي, رسم أكثر من خمسمائة لوحة, أهدى آخرها إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان, وبيعت مؤخراً بملايين الدولارات.
وتشرشل ليس الرئيس الوحيد المبدع فنياً أو أدبياً, فرئيس الوزراء البريطاني الأسبق سير إدوارد هيث الذي توفي عام 2005م, كان عازفاً جيداً للبيانو وقائد فرقة موسيقية, وقد قاد فرقة أوركسترا لندن السمفونية عام 1971م, ومعروف كذلك أن الرئيس التشيكي هافل كاتب مسرحي مهم, وغيرهم الكثير من القادة عبر التاريخ.
وفي الكويت معروف أن معظم حكامها كانوا شعراء ورجال فكر وأدب وفن, فمثلاً يعتبر الشيخ أحمد الجابر شاعراً كويتياً مهماً وكذلك الشيخ عبدالله السالم, والشيخ صباح السالم, وقد أحاط حكام الكويت أنفسهم برجال الفكر والأدب, مثل الشيخ عبدالله السالم, كما عين الشيخ جابر الأحمد رجل الفكر والثقافة الأستاذ عبد العزيز حسين مستشاراً ثقافياً له في الديوان الأميري.
وبدراسة بسيطة للتاريخ, نجد أن الدول التي أهتم حكامها وقادتها بالثقافة والفنون ومارسوها, تقدمت كثيراً وحظيت بحرية وانفتاح ووعي أكبر, فالقائد المثقف لديه إمكانات أكثر وسعة أفق أكبر, ولنتذكر أن رجالات الدولة وبناة الكويت كانوا رجال أدب وفكر وفن.

Sunday, December 2, 2007

على هامش عصور الظلام 2 من 2



وردني السؤال التالي من القارئ مازن النجار حول مقالة عصور الظلام:
الأستاذ وليد
ذكرت في مقالك أن العرب تقدموا في عصورهم الذهبية في فترة عصور أوربا المظلمة, لأنهم فصلوا الدين عن الدولة, حبذا لو تذكر لنا ما الذي تم من خطوات تنفيذية في تلك الفترة أدت إلى فصل الدين عن الدولة أو السياسة؟ علماً بأني من دعاة الفصل هذا.
الإجابة:
الأخ العزيز مازن نجار
أشكرك على تفاعلك مع مقال عصور الظلام
أما موضوع فصل الدين عن الدولة فهو من الموضوعات التي لاقت الكثير من النقاشات بعضها متعصب وعنيف وبعضها عقلاني.
فصل الدين عن الدولة ضرورة لضمان احترام جميع المعتقدات الدينية والهوية الثقافية, واحترام دولة القانون الذي يجب أن يطبق على الجميع باعتبارهم مواطنين متساويين بالحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين والمذهب والاعتقاد أو العرق, كما أن المساواة بين المواطنين تكون بالواجبات والمسئوليات والحريات, فالقانون هو أولى مظاهر التحضر والعقلانية, فهو يحقق الوحدة بين الأفراد وهو فوق الأهواء والمصالح, ولذا فدولة القانون لا يحكم بها الأمام بشكل مطلق دون نقاش, ولا يمثل الله على الأرض كما حدث في التفويض الإلهي للبابا, ولكن الحكم للشعب عن طريق النظام المدني -أياً كان- الذي لا يفرق بين العقائد والانتماءات المذهبية, بل ويحترم الاختلاف. فالدين يعني علاقة الإنسان بربه ولا وسائط بين الإنسان وربه, وخاصة في الإسلام الذي لا كهنوت فيه ولا وصاية ,والقرآن الكريم جاء لتنظيم حياة الناس الاجتماعية ونقلهم من مجتمع الفوضى والبداوة إلى مجتمع منظم متحضر, ولم يأت القرآن كنظام أو منهج سياسي, فالقوانين الدينية يجب أن تكون قوانين أزلية, بينما السياسة آنية, وتسييس الدين إساءة له, وأسلمة القوانين تضييق لها وعرقلة لها عن مواكبة تقدم العصر.
ورغم أن الجماعات الإسلامية تستخدم القوانين الوضعية والنظام الديموقراطي التي ترفضها مبدئياً للسيطرة على الحكم, ورغم أنها رفضت التكنولوجيا فترات طويلة إلا أنها تستخدمها الآن لغايات الاستيلاء على الحكم والثراء المادي, فقد رفضت في السابق الراديو والمكيف والتلفزيون والانترنت ومعظم المكتشفات العلمية حتى مثل إمكانية معرفة جنس الجنين في بطن أمه, واعتبرتها حراماً وبدعاً وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار, لكنها الآن تستخدم هذه التكنولوجيا لمصالحها, وفي نفس الوقت حاربت استخدام العقل والمنطق والفلسفة.
وهذا بالضبط ما حصل من الكنيسة أبان عصور الظلام التي حظرت البحث العلمي وعاقبت صاحبه, وقيدت حرية التفكير والعبادات ونصبت نفسها وصية على فكر الإنسان.
يبدأ فك الارتباط بين الدين والدولة, عندما تقوم دولة مدنية لها دستور وقوانين تساوي بين المواطنين بالحقوق والواجبات, ولا تفرق بينهم بسبب دين أو أصل أو مذهب أو قبيلة أو عائلة, فيها سلطات تشريعية تستند على دستور البلاد وسلطة تنفيذية مثل الوزارات وأجهزة الدولة وسلطة قضائية مستقلة, يكون الحكم هو الدستور في تسيير أمور الدولة ورسم الخطط التنموية والسياسية والاقتصادية, هذه الدولة المدنية تحترم الإنسان وحرية تفكيره وإبداعه وتقدم له العلم المواكب لأحدث التطورات العالمية, تحترم الفن والأدب وترعاهما, ولا تسمح للسلطة الدينية بالتدخل في شئون الدولة أو المواطنين, لكنها تهتم بالجوانب الروحية وتعليم العبادات والمحافظة على قدسية الأديان بعيداً عن المصالح السياسية الآنية, فالدين لله والوطن للجميع.
وأول مظاهر فصل الدين عن سلطة الدولة في الإسلام, كان عندما بايع المسلمين معاوية على الخلافة بعد مقتل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه, وقالوا له كشرط للمبايعة نحن للأمة في أمور دينها, وأنت للأمة في أمور دنياها, كما أن معاوية توقف عن إمامة الصلاة ووضع إماماً يصلي بالناس بدلا عنه, لكن بلغ هذا الفصل مداه في الدولة العباسية حين عين الخليفة قضاة يحكمون في قضايا الناس, وتشكلت مؤسسات لتفسير الشريعة وأعطت الحرية للمواطنين في الاعتقاد وفي التفكير العلمي, ولذا تأسست الفلسفة في العصر العباسي, كما ساهم ذلك في انتعاش حركة الاجتهاد, وبروز الأئمة الأربعة, ابن حنبل, مالك, أبو حنيفة, والشافعي.
الخطوة العملية تبدأ برغبة الدول بفتح آفاق التقدم والتنمية وعدم الخشية من رجال الدين, وتأسيس دولهم على أسس مدنية, السيادة فيها للقانون الذي يعلو على المصالح الفئوية والخاصة, دولة يعيش فيها جميع المواطنين بأمان وحرية, دولة تعي منطق التاريخ وتستفيد من التجارب دون فقدان هويتها الثقافية والدينية.