هناك مشروع قديم وكبير في جامعة جون هوبكنز, أسمه "مشروع التهذيب", أو civility project, وأحد مؤسسيه هو الدكتور فورني, مؤلف كتاب "اختيار التهذيب" أو choosing civility, الذائع الصيت, والذي يدرس بجامعات العالم.
والكلمة civility تعني اضافة إلى التهذيب, التحضر, الاحترام, تقدير الآخرين, وقائمة طويلة, مبنية على الأخلاقيات, كما يقول المؤلف الذي قضى سنوات طويلة مع زملاء له, لنشر وترسيخ مبدأ التحضر لدى طلبة وطالبات الجامعات, ولدى عامة الناس.
ويشرح فورني بتفصيل القواعد الأخلاقية, التي تقود إلى التحضر, إذ لا يمكن لشخص عالي الأخلاق إلا أن يكون متحضراً, وعلى استعداد للتعلم لمزيد من التهذيب والتحضر, بينما الفظاظة ورفض التحضر هي سمة البدائية والتخلف.
ومن السمات الأخلاقية للتهذيب والتحضر, الصدق والأمانة واحترام رأي الآخرين والاهتمام بفن الاستماع أكثر من الاهتمام بفن الكلام, وعدم علو الصوت, واحترام الوعود والمواعيد, والولاء الوطني أو المواطنة الصالحة, الاعتراض بأدب, عدم التصنع والمبالغة, الوقوف احتراماً للضيف ولكبير السن وللمرأة, واحترام الطريق وآداب القيادة, واحترام الأولوية في الطوابير, والحفاظ على نظافة المكان والممتلكات العامة, وكذلك النظافة الشخصية, احترام القوانين وعدم خرقها عمداً, الحفاظ على مشاعر الآخرين, واحترام شعائرهم الدينية, والتعايش بسلم وتقدير مع الأديان الأخرى, الاستئذان وأخذ مواعيد مسبقة للزيارات الشخصية والرسمية, واستخدام العقل بديلاً عن العاطفة, وتقدير الفن والأدب والثقافة, وقائمة طويلة من السلوكات الإنسانية, التي تشير إلى تحضره وأخلاقه وتهذيبه, إضافة إلى الملامح الودودة, ولغة الجسد.
فمثلاً إشارة اليد التي تعني "تفضل" متحضرة, بينما إشارة اليد التي تعني "طوف خلصنا", فظة وبدائية ومتخلفة, كما أن المزاحمة والتسابق على أخذ مكان في الزحام, هي من السلوك المتخلف, وأتذكر هنا نكتة خليجية في الستينيات تقول, أن الكويتيين مهذبين لدرجة أنهم يعطون إشارة ضوئية قبل الانعطاف حتى لو كان الشارع خالياً تماماً.
وفي المقابل, وعكس التحضر, فإن الفظاظة وإثبات الذات بالصوت العالي, والتدافع والحيلة والكذب والتشطر أو التذاكي للحصول على المنفعة, كلها سلوكات غير متحضرة, وتقترب من سلوك الحيوانات, فللحيوان ردود أفعال, بينما يستخدم الإنسان الفكر وفن الحوار, والاحترام مع المختلفين أو المخالفين له ولآرائه.
الإنسان غير المتحضر, متعصب عرقياً ودينياً ومذهبياً, بينما ولاء المهذب والمتحضر لوطنه, حريص على ثرواته ونظافته وسمعته, وغير المتحضر يكره الآخرين, ويحقد عليهم, ويغار منهم, ويشوه سمعتهم, بينما المتحضر يشيد بأعدائه قبل أصدقائه, ويتصف بالوفاء لأصدقائه وزملائه, وغير المتحضر يفخر بعضلاته وفرض آرائه على الآخرين, وبمخالفته للسلطة الأعلى, سواء كانت سلطة الوالدين أم سلطة القانون والدولة.
ويضفي المؤلف أهمية كبيرة وجوهرية على التحضر, بصفته خالق السلام بين الشعوب, لذا جاب في جولات عالمية, وقدم محاضرات في جامعات ومحافل كثيرة, حول أهمية التحضر والتهذيب, والتي لا تعني الإتيكيت بشكل خاص, ولكنها تعني نمط الحياة الإنساني, الذي يجب أن يسود في كل أرجاء الكرة الأرضية.
ومن هنا يجعلنا الكاتب نفكر في مجتمعنا, وسلوك وأفكار أفراده, هل هو من النوع المتحضر المهذب, أم من النوع الثاني الفظ والبدائي والمتخلف؟ ولنتذكر السلوك من أسلوب قيادة السيارة, إلى المعاملات الوزارية, إلى لغة التهديد والصوت العالي, إلى التعصب الأعمى, وعدم احترام خصوصيات الآخرين وعقائدهم, إلى الرشوة والحيلة والتذاكي, ومخالفة القوانين, وعدم احترام السلطة, والانتقاص من هيبتها.
أليس حرياً بنا تربية أبنائنا على التحضر والتهذيب, بما أنه الطريق إلى التقدم والرخاء والسلام؟ أليس من باب أولى أن نحسن اختيار من يمثلنا في مجلس الأمة, نختار النائب المهذب المتحضر في سلوكه وأقواله, ليقودنا إلى طريق التنمية والتقدم؟
كتاب رائع يستحق القراءة, والتعلم منه, وأتمنى لو يكون ضمن مناهجنا الدراسية, مادة عن ضرورة التحضر والتهذيب, فهل نختار التحضر؟