Sunday, September 28, 2008

قصة داوود 1 من2




استغرقني الدخول إلى متحف غاليريا دلا أكاديميا, ساعة وأربعين دقيقة, في طابور طويل يضم جنسيات ولغات مختلفة, فقط لمشاهدة تمثال داوود الأصلي في فلورنسا, ويعتبر تمثال داوود, رائعة مايكل أنجلو, أكثر الأعمال الفنية كمالاً, من الناحية الفنية والجمالية, عبر كل تاريخ فن النحت.
ويظن معظم الناس, أن مايكل أنجلو قصد به النبي داوود, ولكن كان الهدف الحقيقي من هذا العمل كان سياسياً.
كان في الأصل كتلة ضخمة من الرخام الأبيض, تابعة لأوبرا دل دومو في فلورنسا, حفرت من الجبل لنحت داوود, وعرض العمل مبدئياً على النحات أوغستينو دي دوتشيو عام 1462م, ثم لاحقاً للنحات أنتونيو روسيلينو عام 1476م, لكن الاثنين تراجعا جزعاً, أمام هذه الكتلة الضخمة, التي تحتاج إلى تقنيات هائلة وجهود كبيرة, كانت كتلة الرخام غير صماء, بل كانت تحوي مسامات, وفوق ذلك كانت طويلة ونحيفة, تصلح لجسم نحيف من تماثيل العصر القوطي, أكثر منها لجسم عضلي والذي يمثل عصر النهضة.
وعرضت الكتلة على العبقري ليوناردو دا فنشي, فاعتذر لصعوبة التنفيذ, فظلت الكتلة منسية في باحة أوبرا دل دمومو الخلفية حتى عام 1501م, حيث كانت تلك السنوات حرجة على جمهورية فلورنسا, فقد نفيت أسرة المديتشي عام 1494م, ودعت المثقفين والفنانين والأدباء والمفكرين للوقوف مع حكومتها.
وأخبر مايكل أنجلو بواسطة صديق, عن كتلة الرخام, وفكرة التمثال وهي عودة فلورنسا وحكم المديتشي, فقبل أنجلو هذا التحدي, وخاصة أنه كان يريد قياس موهبته, أمام فناني جيله الأفذاذ, وخاصة الشباب الذين فشلوا بالتعامل مع هذه الكتلة, فقاموا ببتر أجزاء منها, ثم توقفوا, كل ذلك شكل تحد حقيقي لمايكل أنجلو.
وخول أنجلو رسمياً في 16 أغسطس 1501م, وبدأ المشروع فوراً, وفي بداية سبتمبر, بدأ الفنان باختبار صلابة ونوعية الكتلة, وفي أوكتوبر بني حاجزاً خشبياً حول الكتلة, وسقالة.
كان تقدمه في العمل سريعاً حتى 25 يناير 1504م, وبعد أكثر من أربع سنوات كان داوود, التمثال الضخم مكتمل عملياً, وحظى العمل بفضول وتقدير مواطنيه, أما لجنة الفنانين التي كانت تعرف كيف كانت الكتلة, وصفته وكأنه نهض من الموت.
لكن التمثال أثار غيرة وانتقادات منذ البداية, من قبل المتعصبين والمخربين.
ويذكر جيورجو فاساري, في كتابه الذي خصصه لمياكل أنجلو, في ظل الإطراء والتمجيد الذي حصل عليه أنجلو, أن بيير سوديريني أعاب على التمثال بأن قال أن أنفه كبير جداً, وتظاهر بأنه سيعدل هذا الأنف بأزميله, وصعد السقالة, وفي هذه اللحظة نثر أنجلو بعض غبار الرخام الذي كان يخفيه بيده, فابتعد سورديني عن التمثال, وهنا قال أنجلو:" والآن ما رأيك؟"
بعدها تم قبول العمل, وقدمت للفنان اربعمئة سكودو على هذا العمل الإستثنائي, ودارت نقاشات حول أفضل موقع له, ولم يكونوا يرغبون بوضع هذا العمل الرائع, أمام جدار, حتى وإن كان جدار الدمو, وتشكلت لجنة من أشهر فناني العصر, ولكن ليوناردو دا فنشي العجوز, اقترح وضع التمثال في ساحة لوجيا دلا سنيوريا, أمام جدار يطلى بلون داكن, لكي يبرز بياض الرخام, كانت هذه هي فكرة دا فنشي التي يطبقها على أعماله في الاستوديو الخاص به, لكنها لم تكن فكرة مايكل أنجلو, فداوود نابض بحياة, ولم يخلق ليوضع أمام جدار أسود, ككنيسة بائسة.
رغم أنه لم يتم إدخال أنجلو في اللجنة, إلا أن صوته وصل عبر الفلورنسيين الذين أطلقوا على داوود "العملاق", ووضع في ساحة دل سنيورياً, في القلب الحضاري لمدينة فلورنسا.
وفي المقال القادم سأذكر كيف تم نقل تمثال داوود الرائع, على مدى أيام والصعوبات التي واجهتهم.

Sunday, September 21, 2008

مشاهدات




كانت زيارة قرية سان جمنيانو ضمن مخططي, وهي قرية قديمة على قمة جبل بمنطقة تشانتي في مقاطعة توسكانيا الجميلة, وتطل على حقول عنب شاسعة, وقد اكتمل بناءها في القرن الحادي عشر, ومعمارها مازال على طراز القرون الوسطى, وقد كانت تعتبر معبراً تجارياً بين روما وفلورنسا في العصور الوسطى, ثم إلى سائر أوربا في السنوات اللاحقة.
سان جومنيانو قرية مليئة بالمفاجآت, ويمكن رؤية أبراجها العالية من بعيد, وكأنها منارة للمسافرين, وتحيط بالقرية أسوار عالية تجعلها تبدو كقلعة من قلاع الماضي, وعند الغروب تبدو كقلعة تحترق, وتبدو مثل قصص الخيال عندما يرتفع القمر بين ابراجها, وكل أزقتها الضيقة مرصوفة بالحجارة منذ ذلك الزمان, وتنتشر الحوانيت والمقاهي في هذه الأزقة, وأزقتها تفضي إلى ساحات صغيرة, يعرض الفلاحون فيها منتجاتهم المختلفة, التي يصنع بعضها يدويا, وبعضها بأدوات قديمة لكن ذكية, مثل عجينة المكرونا والحلويات وأنواع الأغذية المختلفة, إضافة إلى المشغولات اليدوية.
والقرية مكتظة طوال العام بالسائحين, ولكل فصل من فصول السنة فيها ميزته وجماله, مزدحمة لدرجة أنك قد لا تحصل على موقف لسيارتك في المواقف العامة بسهولة, لدرجة أن الأكتاف تتصادم في الأزقة, وتنتظر دورك للجلوس إلى مقاهيها التاريخية الجميلة.
وقد التقيت بسائحين إنجليز وأمريكان, درسوا تفاصيل القرية في بلدانهم قبل أن يزوروها, سواء في الإنترنت أو من خلال الكتب والفيديو, بل اكتشفت أن البعض يؤجر من خلال الإنترنت, دليلاً أو مرافقاً سياحياً يشرح لهم التفاصيل الجمالية والتاريخية, وهذا تكرر معي في معظم الأماكن التي زرتها, وأعجبت باهتمام السائح الأجنبي, وحبه للتعلم من الثقافات الأخرى, بينما لنا اهتمامات أخرى أبرزها التسوق, والاستهزاء بالشعوب الأخرى وعاداتهم.
هناك تفاصيل كثيرة في هذه القرية الصغيرة, وقد لا يكفي يوماً كاملاً لاكتشافها أو التعرف عليها, لكنها بحق تستحق اهتمام السائحين بها, وهي وسينا وتشيانتي في توسكانيا.
وزرت عدد من القرى والمدن الإيطالية, لكني وقعت في حب مدينة فيرونا, وهي مدينة صغيرة ساحرة في شمال إيطاليا, فيها عدد كبير من المعالم الأثرية والثقافية, فيها الأرينا arena, وهو عبارة عن مسرح روماني كبير, تعرض به الأوبرات المشهورة, مثل كارمن وعايدة, التي اضررت للتأجيل يومين في المدينة لحضورها, وقد كان عرضاً رائعاً, أخرج بطريقة فخمة, إذ من المعروف أن أوبرا عايدة تعتبر من أطول الأوبرات, قد تصل مع الاستراحات إلى أربع ساعات, وكنت محظوظاً بحصولي على كرسي في الصفوف الأمامية.
والسائحون يحجزون لحضور الأوبرا مسبقاً, وغالباً عن طريق الإنترنت, وبعض الأوربيين يأتون ليلة واحدة من بلدانهم وخاصة القريبة مثل سويسرا, لحضور هذه الأوبرات, خاصة إذا علمنا أن القيادة سهلة دون قيود حدودية, أو تعطيل.
والأرينا تقع في ساحة كبيرة جميلة, تنتشر بها مقاهي شهيرة ونوافير, ويتفرع من هذه الساحة عشرات الأزقة المليئة بالمقاهي الصغيرة.
ويزور المدينة ملايين السائحين من مختلف دول العالم, سواء لحضور عرض فني, أو لزيارة بيت جولييت وشرفتها الشهيرة, حيث يتزاحم العشاق للتصوير فيها أو تحتها, كما تزدحم حوائط المدخل بالكتابات من جميع اللغات, لكنني لم أجد كتابة عربية, مع أن العرب "حبيبة", لكني يبدو أن الزواج ينهي الحب عندهم, كان هناك أزواج من مختلف الشعوب كبار بالسن, يبدو حبهم كبيراً لبعضهم.
وقد لا يعلم البعض أن قصة روميو وجولييت, قصة الحب المأساوية, كتبت كرواية على يد ماثيو باندللو في القرن الرابع عشر, لكن عبقرية شكسبير الذي كتبها بين العام 1595 و1596, ونشرت عام 1597م هي ما جعلها عملاً خالداً.
في فيرونا تفاصيل جميلة, قلاع وحدائق وأزقة, وفن على ناصية كل الطرقات والساحات.


Sunday, September 14, 2008

رحلة التعلم




في إجازاتي أحاول دائماً التعلم, فالسفر فرصة مميزة للتعلم والاكتشاف, ولذا أختار إيطاليا كمحطة لأنها بلد تتسم بالثراء الثقافي وكما يقال أنها بلد غني فقير, وبلداننا فقيرة غنية, لذا تستقطب إيطاليا ملايين السائحين على مدار العام, والذين يأتون من جميع أنحاء الأرض للاستمتاع بمخزونها الثقافي, ولو زارها الإنسان عشرات المرات فلن يوفيها حقها, هذا إذا كان يبحث عن الثقافة والفن, وليس التسوق.
كان لدي خطة أعددتها مسبقاً وبعناية, بعد بحث في الإنترنت عن القرى والمدن والمعالم والمتاحف وصالات الفنون التشكيلية وعروض الأوبرا وغيرها, لكني وجدت نفسي أخرج عن الخطة التي رسمتها لرحلتي, وذلك لمزيد من الاكتشاف والتعلم.
وما ساعدني على التعلم أكثر بضعة أمور, منها أنني قررت استئجار سيارة للتنقل بين المدن بدلاً من القطار, مما أتاح لي المرور ورؤية عشرات القرى والمدن الصغيرة والكبيرة, إضافة إلى المناظر الطبيعية, من جبال ووديان وأنهار وبحيرات وحقول, والحديث مع أكبر عدد من الإيطاليين الودودين والكرماء, ومقارنة سلوك الأوربيين بسلوك المهاجرين كالعرب والأفارقة, الذين يعملون في أحط المهن بما فيها القوادة والدعارة, أو عمال رخيصين في الفنادق والمطاعم, و يختص الأفارقة بالأعمال غير الشرعية, كبيع بضاعة مسروقة أو مغشوشة, وليس علينا أن نتساءل لماذا يكرهنا الغرب, ما دمنا نمثل أدنى الفئات وأدنى سلوك, لا يحق لنا القول بأنها مؤامرة على العروبة والإسلام, فنحن المتآمرين على أنفسنا.
لكن عندما يتعرف الإيطالي عليك جيداً, ويسمع منطقك, واشتراكك معه في الأخوية البشرية, يبدأ باحترامك, وقد فوجئت في أحد الأيام بهدية جميلة من مدير الفندق, تعبيراً عن الصداقة والاحترام, لكن مثله مثل بقية شعوب العالم, لديه فكرة مسبقة عن العربي والمسلم, والتي نكرسها بكل فخر وكل يوم في بلدان العالم.
وما ساعدني أيضاً على زيادة فرص التعلم, هو أنني اخترت الطرق الريفية والجبلية الضيقة بدلاً من الطرق السريعة, وهذا أتاح لي رؤية التاريخ ومظاهره, ورؤية الطبيعة, واختيار المحطات التي أتوقف بها, وأتعرف على سكانها, والاقتراب من الناس والثقافة, وبالنسبة لي كان ذلك من أجمل فرص التعلم.
وما ساعدني أيضاً جهاز GPS أو Navigator أو جهاز الملاحة, هذه التقنية التي كنت أجهلها, لكني تعلمتها واستفدت منها كثيراً, ولأن الجهاز يعمل على الأقمار الصناعية, وهناك تحديث سنوي للخرائط, عمل الجهاز بدقة متناهية, واستطاع إيصالي إلى الأزقة الضيقة التي يصعب اكتشافها على الخرائط العادية, ودلني على مطاعم صغيرة منزوية في الجبال لاتوجد على الخرائط, وقرى نائية سياحية وغير سياحية.
لكن في جميع الأماكن السياحية والساحات, هناك دائماً دوريات شرطة لحماية السائحين من عمليات النشل وغيرها, وتوجد أيضاً سيارات اسعاف ومسعفين, وما لاحظته أيضاً أن المكتبات تفتح حتى الثانية عشرة منتصف الليل وهي مكتظة دائماً بالناس, بينما المطاعم تغلق في أغلب الأحيان قبل هذا الوقت.
كما أن جميع المنتجات هي إيطالية التي تحرص على استقطاب السائحين والاستثمارات, لتحقيق رخاء الشعب, عكس بلادنا الطاردة للاستثمار ورؤوس الأموال والسياحة.
وأخيراً لو كانت لجنة الظواهر السلبية في إيطاليا, لاعتقلت جميع الإيطاليين وجميع السائحين من الدول المختلفة, ولأعادت أوربا إلى عصور الظلام.

Sunday, September 7, 2008

الخيميائي 5 من 5




قبل أن يصبح كلينتون رئيساً للولايات المتحدة, طلب من أحد المعالجين بالتنويم تعليمه كيفية مخاطبة الجماهير, والتأثير فيهم, وهذا ما حدث فقد كانت الدعاية الانتخابية مؤثرة وجاذبة للجماهير, فالسر يكمن دائماً بالبدايات.
ونذكر خطبة مارك أنتوني في رثاء يوليوس قيصر, بعد أن سمح له بروتس بها لكن بروتس لم يكن يعلم أن مارك انتوني, سيغير التاريخ في أربع كلمات فقط, إذ قال:" أيها الرومان, يا أبناء وطني, أسمعوني, أعيروني آذانكم", وفي هذه اللحظة دخل الجمهور في غشوة تنويمية, فالبدء بكلمة عاطفية أو بصوت تنويمي, كفيل بتنويم الناس والتأثير عليهم, وفي الواقع من يقرأ مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير, لا بد وأن تشده هذه الخطبة الذكية ذات الإيحاءات والمجازات المبهرة, التي أقامت حرباً أهلية أستمرت لسنوات, بين أنصار أوكتافيوس ومارك أنتوني وبين أنصار بروتس, كانت نتيجتها أن أصبح مارك أنتوني شخصية هامة في التاريخ, ويذكره الناس أكثر مما يذكرون النبيل بروتس, أو قيصر الذي قال:" vini vidi vichi "أتيت, ورأيت, وغزوت".
وفي علم التنويم والعلاج به, يعتبر الكلام أو الإيحاء والمجاز والصوت من أهم العوامل التي يرتكز عليها العلاج الناجح, فإذا استخدمنا الحكاية في التربية ستشكل شخصية الطفل حتى يكبر مثلما حدث مع بوشكين الذي كان يستمع إلى حكايات مربيته, فشكلت شخصيته وكل أشعاره, ومعروف أن الشاعر الروسي العظيم بوشكين غير اللغة الروسية القديمة إلى اللغة الحالية, كل ذلك سببه تأثير الإيحاء والمجاز.
نعلم جميعاً أن كليلة ودمنة كتبت في العصر العباسي الأول, والحوارات فيها على لسان الحيوانات, مما يعطي المجاز قوة أكبر, وحتى في العلم الحديث يقال أن أفضل معلم يجيب على أسئلتنا في عقولنا الباطنة, هو الشخصية الكرتونية أو حيوان أليف.
الخيميائي أو Alchemist هي رواية عالمية للكاتب البرازيلي بولو كوللو نشرت بالانجليزية عام 1993 وهذه الرواية التي بيعت بشكل واسع, بنيت أساساً على المجاز, أو الحكمة, وهي حكاية صبي راعي أغنام حلم بكنز قرب الأهرامات المصرية, وذهب بحثاً عنه, وأثناء رحلته قابل رجال حكماء, تعلم منهم الكثير عبر الحكمة والمجاز, تعلم منهم مهارات أو أسرار الكون من خلال الحكايات, هذه الرواية الآسرة عبارة عن نص تنويمي, حول كيف يسير الإنسان إلى مصيره أو هدفه بالحياة, وحول أهمية الإصرار لتحقيق الهدف, برسم الهدف في العقل الواعي وجعل العقل الباطن أو قوى الكون تحققه, وكيف أن العيش بحد ذاته هو تحقيق للهدف, وذلك بالتعلم فنحن نعيش لنتعلم, ونتعلم كيف نعيش.
الرواية مليئة من أولها إلى آخرها بالمجازات والحكايات والحكم, ولكني سأذكر مثالين منها, الأول أن الصبي الراعي قابل حكيم لكي يعلمه سر الحياة, وكان الرجل الحكيم يعيش في قصر جميل مليئ بالتحف والسجاد الثمين, فطلب من الصبي أن يمسك بملعقة بها نقطتين من الزيت وقال له تجول في القصر وشاهد التحف وعد لي بعد ساعتين ولكن حاذر على الزيت كي لا يندلق من الملعقة, وعندما عاد بعد ساعتين سأله الحكيم: ماذا شاهدت, أجاب الصبي كان كل همي المحافظة على الزيت, فلم أر شيئاً, قال له الحكيم إذهب مرة أخرى وشاهد كل تحفة وعد ثانية, ذهب الصبي وعندما عاد شرح للحكيم ما شاهده, فقال له الحكيم ولكن أين الزيت؟ سر الحياة أن تشاهد كل روائع العالم دون أن تدلق الزيت أو تنساها.
المجاز الثاني, أن الصبي ذهب إلى عراف وطلب منه معرفة مستقبله, فقال له العراف: لماذا تريد معرفة المستقبل؟ فإن كان مستقبلك جيداً فلن تعمل اليوم, وإن كان سيئاً فستظل قلقاً وحزيناً منذ اليوم, فقط عش يوماً بيوم.
أعلم أن موضوع الإيحاء في الأدب يحتاج إلى بحث كبير, والكثير من الكتابة, لكن للعلم لا توجد أي كتابات عربية أو أجنبية تناولت موضوع العلاقة بين الأدب والتنويم.

Sunday, August 31, 2008

شكسبير 4 من 5




يقول شكسبير على لسان هملت:" لايوجد شيء حسن أو شيء سيئ ولكن عقولنا تجعله كذلك", وهذا الإيحاء والمجاز يمكن استخدامهما للعلاج والتغير, وقد استخدمته كثيراً لمساعدة عملائي على التغير, ومن هنا تأتي قوة تأثير الأدب, فكل شيء يبدأ بفكرة تتحول إلى فعل يتحول إلى عادة تشكل نمط شخصية وإذا عرفنا نمط الشخصية نعرف مصير ومستقبل الشخص.
عندما كنت في الابتدائية حاول بعض الصبية ضربي, ففوراً بدأت باخبارهم بقصة خيالية, ولا أعرف كيف تفتق ذهني عنها فدخلوا في غشوة تنويمية, وتغير بؤبؤ العين وانشدوا بجمدة, ومن حدث لحدث ومن شخصية لأخرى, حتى رن الجرس فتوقفت عن الحكاية, فألحوا أن أكمل فقلت لهم غداً أكمل, وفي الغد أتوا في الاستراحة فأكملت لهم رغم أني لا أعرف ماذا أقول لكن شيء يجر شيء, فأدركت أن لدي سلطة ولا أحتاج للعضلات.
وفي العطلة الصيفية, كان والدي رحمه الله يجعلني مسؤولاً عن أخوتي بصفتي الأكبر, حتى لا يخرجوا في الحارة في الظهر, بينما يأخذ قيلولته, فكنت أجمعهم وأحكي لهم حكاية خيالية, تنتهي عندما يستيقظ والدي, وأكملها ظهر اليوم التالي, حكاية تبدأ في بداية العطلة الصيفية وتنتهي في نهايتها, وكان أخوتي ينشدون للأبطال والقراصنة والتنين, لدرجة أن أصغرنا تبول على نفسه, لأنه لا يريد تفويت كلمة, وهذا يذكرني بشهرزاد عندما كانت تحكي لشهريار فتؤجل إعدامها.
نعم للقص والأدب سطوة كبيرة على الفكر والمشاعر, وتسهم بفعالية بغيير النفس, ففي سينما حولي الصيفي بالستينيات كانت تعرض أفلام فريد شوقي, وفي نهاية كل فلم كان الصبيان يتعاركون نفس فريد شوقي, وفي العصور الوسطى خرج الناس من مسرحية في مظاهرات, لأن المسرحية كانت تنتقد قيام النبلاء بالنوم مع العروس في ليلتها الأولى وقبل زوجها.
شكسبير بين تأثير الإيحاء في رائعته "ماكبث", فعندما كان ماكبث شاباً مر بثلاث ساحرات أخبرنه أنه سيصبح ملكاً ومن يقتله لم تلده أمه, وأصبح ملكاً وفكر أي إنسان لم تلده أمه, كل البشر يولدون, إذاً لن أموت أبداً.
ويصف شكسبير كيف أصبح ماكبث مغروراً وجباراً لدرجة أن الممالك الأخرى تضررت منه ومن هجماته, كما أن زوجته انتحرت وألقت بنفسها من أسوار القلعة, وهربت جميع حاشيته, وترك وحيداً في قلعته.
وفي يوم قرر نبلاء الممالك أن يشكلوا جيوشاً مشتركة لهزيمة جيش ماكبث الجبار, وعندما علم ماكبث لبس درعه وجلس على عرشه ممسكاً بسيفه, ولما وصلت الجيوش وجدوا باب القلعة مفتوحاً, وخشوا من خديعة, فأرسلوا بعض الفرسان ليدخلوا داخل القلعة, فلما دخلوا وجدوا ماكبث الواثق أنه لن يموت, جالساً بهدوء ولما تقدموا قتلهم جميعاً بكل بساطة, ولما لم يخرج الفرسان أرسل النبلاء فرساناً أكثر, وتكرر ما حدث مع الدفعة الأولى, فظلوا حائرين ماذا يفعلون, وماذا يمكن أن يكون بالداخل, فخرج في هذا الوقت ماكبث وخاطب الجيوش قائلاً:" هل أنتم مجانين تأتون لتقتلوني, أنا ماكبث من يقتلني لم تلده أمه" وفجأة سمع صوتاً يقول:" استدر أيها الكلب أنا لم تلدني أمي, ولكن انتزعت من بطنها انتزاعا" (أي ولد قيصرياً), وما أن سمع ماكبث هذا القول حتى تداعت قوته, ولم يستطع أن يحمل سيفه, فصعد ماكدف الدرج بينما كان ماكبث يتراجع وقطع رأسه.
الإيحاء والفكرة جعلا ماكبث قوياً جباراً واثقاً من خلوده, والإيحاء قتله, وأدب شكسبير يزخر بالكثير من الإيحاءات والمجازات والأفكار التي تعلم البشرية منها الكثير من الحكم, وأيضاً يزخر الأدب الحديث بقوة التأثير والتغيير.

شمشون وعنترة 3 من 5




ما قيمة الأدب دون تأثيره على مشاعرنا وأفكارنا, وبالتالي سلوكنا؟ فالكلمة لها مفعول سحري على أذهاننا, فبرأيي السحر الحقيقي يكمن في الأفكار أما الكلمة فهي وعاء لهذه الأفكار, وقد مرت على البشرية حكايات كثيرة, ما صمد منها هو ماأثر بنا, حتى في حالة الشخصية والحدث الوهمي, مثل شخصية رستم في الشهنامة, فهو شخصية خيالية ابتدعها الفردوسي, لكي يكون لدى الفرس بطل كأخيلس, وبلغ تأثر الفرس وفخرهم برستم أنهم حفروا له قبراً في قمة جبل في شيراز, لكن في الواقع لم يكن هناك غير إيحاءه وتأثيره.
والملاحظ أن الشخصيات البطولية التي نسجت حولها أساطير, تتشابه في أوجه كثيرة, أو تكون عالمية مثل كلكامش وشمشون.
فشمشون كان يعتقد أن مصدر قوته الجبارة هو شعره, ولذا كان يبقيه طويلاً, وقد بلغ شمشون أو سامسن _كما يطلق عليه الغرب_ من القوة أنه حارب جيوش الملك بفك حمار, ولم يستطع الملك رغم كل المحاولات أن يعتقله, ففكر بأقوى سلاح يضعف الأبطال, وهو المرأة فأرسل دليلة التي جعلته يقع في حبها, وسقته نبيذاً حتى ثمل ثم قامت بقص شعر رأسه, وكان جنود الملك مختفين خلف الأشجار, فأشارت دليلة لهم, فقبضوا عليه, وعندما حاول المقاومة قالت له دليلة:" تلمس شعرك" وعندما فعل انهارت قوته, فقيد وأخذ إلى الملك الذي أمر بتسبيل عينيه, وربط بسلاسل على ساقية أو طاحونة, وظل لأشهر يدفع بالطاحونة وهو يبكي خيانة دليلة التي أحبها كثيراً, وبعد أشهر تلمس شمشون شعر رأسه بالصدفة فوجده قد طال كالسابق, فأحس بالقوة والثقة تعودان إليه, كسر قيده, وذهب مستنداً على الجدران يتبع الصوت, حتى وصل إلى القاعة الرئيسية, وقف بين عمودين وقال:"علي وعلى أعدائي يارب" ودفع العمودين وانهار المعبد على الجميع.
شعره الطويل يعطيه الإيحاء بالقوة, وهو فكرة يستخدمها الرياضيين تحت التنويم في المباريات الأولمبية, فمثلاً كلما صفق الجمهور ازدادت سرعة اللاعب, أو كلما عزف بوق عزفاً معيناً ازداد حماس اللاعبين, أي يقوم المنوم بخلق رابط شرطي.
أما في حالة عنترة بن شداد, فإن تأثيره الإيحائي على الآخرين يأتي من اسمه وهيئته وصوته, فمن المعروف أن لعنترة صرخة حرب مميزة وقوية, ويقال أنه يجعل الخيول تجفل في المعارك بهذه الصرخة, وعندما أطلق عليه الأسد الرهيض سهماً وهو في العراق, كما اعتاد مع اسرته وحاشيته بعد أن أصبح أميراً, في تلك اللحظة لم يتألم عنترة بل قال شعراً, فظن الأسد الرهيض أنه لم يصبه فشهق ومات وهرب عبده, وبعد أيام طلب عنترة من أخيه شيبوب وزوجته عبلة أن ينقل إلى أرض الشربة والعلم السعدي, وهي منازل عبس, فوضعوه على محفة مغطاة, وركبت عبلة كوكبة حصانه وساروا به, وفي الصحراء هجم عليهم قطاع طرق من البدو, فخافوا ولكن عنترة رفع ستارة المحفة وصرخ صرخته المعروفة, فخاف البدو وهربوا.
عندها اقترح عنترة أن يضعوه على حصانه ويذهبوا بسرعة إلى قبيلة عبس كي يأتوا ويحملوه, واستند على رمحه الطويل وهو على حصانه فوق تلة, فإذا مر البدو وشاهدوه يخشون الاقتراب منه أو من عبس, فظل على هذه الحال ليومين, فاحتار البدو هل هو ميت أم يقول الشعر, فأرسلوا مهرة صغيرة أمام كوكبة فتحرك الحصان إلى الأمام وسقط عنترة على ظهره, فقال البدو:"لقد حميت أهلك حياً وميتاً".
وعندما كان في المعارك يضرب الضعيف ضربة يرتاع لها قلب الشجاع, في الواقع كان يبث الخوف بهذا الإيحاء, فقد كان اسمه وهيئته وصوته إيحاءً إلى الآخرين.
هناك تفصيلات كثيرة لإيحاءات في هذه الحكاية, وفي الأساطير بشكل عام, إلا أن المساحة لا تحتمل, وفي المقال القادم سنتطرق إلى أبي الأدباء شكسبير, وهي مرحلة تاريخية أخرى, لكن شكسبير أعطى قوة للإيحاء بفهم واع للنفس البشرية في كثير من أعماله.

الحكايات والأساطير 2 من 5




منذ فجر التاريخ, استخدم الإنسان القصص والحكايات بحثاً عن المثالية, ولتغيير حياته وحل مشكلاته, والبحث عن إجابات لأسئلته, ولوضع قوانين تنظم سلوكه ورغباته, ولوضع أطر وقواعد طموحاً في حياة سعيدة منتجة, تقوده للتحضر والأنسنة.
واستخدم الإنسان خياله وإمكاناته العقلية, لخلق حياة بديلة لا توجد فيها مآس أو ألم, بمحاولة منه لخلق عبر ومواعظ, بالتأثير على عقول ومشاعر المستمعين والقراء لا حقاً, وأدرك منذ البدء أهمية الفكرة والإيحاء للتغيير, سواء لمشاعر إيجابية وذلك لارتباط الفكر والشعور بعلاقة جدلية, أو للتعليم والتربية, فقد ثبت في العلم الحديث أن العقل يقبل التغير أما بوجود خيارات أمامه وإما بواسطة الحكاية, لكنه يقاوم التوجيه والوعظ المباشرين.
كما أن الأدب والفن يرفعان من المستوى الشعوري الإنساني, ويزيدان من مستوى تهذيبه وتحضره, لذا تستخدم الموسيقى كثيراً في التهدئة والاسترخاء, أو تهذيب دواخلنا, والمعروف أن الإنسان كلما استخدم خياله, كلما زادت آفاق معرفته واتسعت حدود الاعتقاد لديه.
ما يهمنا هنا الإيحاء ضمن الأدب نفسه وتأثيره على الشخوص الاسطورية, ففي الإلياذة يذكر هوميروس أن ثيتيس أم أخيلس أمسكته من كعبه عندما كان صغيراً, وغطسته في نهر مقدس, كي لا تؤثر به الأسلحة, فغمر الماء كل جسده ما عدا كعبه.
وعاش أخيلس حياته كلها شجاعاً بطلاً تاريخياً, لا يهاب الموت لعلمه أن الماء المقدس شكل لجسده درعاً يمنع السيوف والرماح والسهام من اختراقه, كما أنه قال لصديقه الحميم بتروكيلس:" اقهر الخوف تقهر الموت", وفي طروادة قاتل لعشر سنوات وقتل الكثير من الأبطال, بمن فيهم هكتور بطل طروادة, ودخل أخيلس طروادة مع من دخلوا في خدعة الحصان, ولكن باريس الذي بدأ هذه الحرب بسبب سرقتة للجميلة هيلين, رماه بسهم فأصاب كعبه الذي لم يمسه الماء المقدس, ولأنه يعرف أن السهم أصاب منطقة غير محمية في جسده, وقع فانهالت عليه السهام فمات.
يقينه وقناعته أن لا سلاح يضره, جعله يدخل المعارك بقلب قوي, وقناعته أن منطقة ضعفه هي كعبه, اضعفته, ومن هناك جاء مثل "كعب أخيلس" كتعبير عن نقطة الضعف.
والأساطير والحكايات مليئة بالإيحاءات, والإيحاء فكرة مرئية أو مسموعة أو ملموسة, مثل صرخة عنترة بن شداد, أو اسمه أو هيأته التي سنأتي على ذكرها في المقال القادم, وهذا الإيحاء يشكل مع الوقت قناعة أو يغير القناعة الموجودة أصلاً ويستبدلها بأخرى, وهذا ما يستخدمه علم التنويم, ويستخدمه أيضاً من يعمل بالشعوذة.
وهذا ما يجعل الأدب الصادق مؤثراً على المشاعر والقناعات, بينما الأدب المصطنع لا يترك أي أثر عند المتلقي, كالنفاق والمجاملة الزائفين أو كالذهب المزيف.
في المقال القادم سوف أتناول الإيحاء في أسطورة شمشون وقصة موت عنترة بن شداد, ونحن كمتلقين تأثرنا بإيحاءات الحكايتين, وشخوص الحكايتين تأثرا وأثرا على الآخرين كذلك.