Monday, October 26, 2009

شارع الحمرا






عندما تسير في شارع الحمرا في بيروت، لا تستطيع كبح شعور «النوستالجيا» والحنين لماضي هذا الشارع العريق، حنين الى اكتظاظ المقاهي والكافيهات، بالمفردات الثقافية بنغمات عربية مختلفة، والمفعمة بالآراء الحداثية والثورية في سبعينات القرن الماضي، وقبيل الحرب تحديداً، كافيهات مثل الومبي والمودكا وكافيه دوباري، وغيرها من الأماكن التي كانت تشكل «الرانديفو» الثقافي أو مكان اللقاء الذي لا يمكن تضييع بوصلته عند أي مثقف عربي.ضم هذا الشارع اللاجئين السياسيين العرب، والهاربين من جحيم أنظمتهم الدكتاتورية، حينما كان الرأي المخالف جريمة يتعرض صاحبها الى التعذيب الوحشي في الزنازين العربية، والاعدام أحياناً، كانت بيروت هي الجدار الأخير للمثقف العربي، من كل جهات الفكر اليساري، ومن كل مدارس الشعر الحداثي، كانت تلك الكافيهات هي مصنع العصف الفكري، الذي صاغ المفردات العربية التي كانت ترمي الى تقدم أوطانها.لم يبق من ذلك غير الهم الواحد والمأزق الواحد في الأوطان، ولم يعد الشارع العربي معبدا «كهاي وي»، بعد الصدمات والمؤامرات التي تعرض لها المشروع الحضاري العربي، المؤامرات التي أتت من الداخل، وعلى أيدي الأنظمة وعلى أيدي المثقفين ذاتهم، مؤامرات أربكت الأفكار والمواقف، وبدلاً من الــــوقفة الجادة والنقد الذاتي، علقت أسباب الانتكاسات على مشجب الامبريالية والاستعمار كما هي العادة، وهذا ليس الخطأ كله ولا الحقيقة كلها، وانتقلت مواقع المثقفين من صف الجبهة والمبادرة الايجابية، الى مواقع خلف المتاريس، مواقع الدفاع والتباكي والمكابرة.ورغم خصوصيات الشوارع العربية، الا أن كل الاشارات ومنذ ثلاثين عاماً، كانت تشي بان الهم سيكون واحداً والمأزق سيكون واحداً، لأن الميراث الثقافي العربي القومي كان ما يزال في البنية الذهنية للمثقفين، واستنزف المشروع القومي طاقات المثقفين، ولم يجددوا عاداتهم وأنماط تفكيرهم وسلوكهم، فأصبح غزو دولة عربية لأخرى حدثا ثوريا، لأنه ببساطة أو بخفة موجه ضد الامبريالية، وكل من يقف ضد أمريكا نقف معه، كما قال أحد القادة الثائرين العرب عام 1990، واختلف العدو واختلفت الأولويات، ولم يضع المثقف أي اعتبار لمواجهة التخلف، والشخصانية التي قادته الى المأزق، والضعف النظري الفكري الذي قاده للتيه.ان الاختلال الذي أصاب الشارع الكويتي وأصاب قواه الحية، أصاب كل الشوارع الثقافية العربية، والذي بدأت اشاراته قبل ثلاثة عقود، هذا الاختلال أعمى كثيرا من المثقفين عن رؤية الخطر الذي يستهدف مشروعه الحضاري المدني، يستهدف مؤسسات المجتمع المدني التي كانت إحدى المكتسبات التاريخية، ولم يعد الأمر مراكز وأطرافا ثقافية، لأن كل الشوارع العربية أصبحت أطرافاً في النسق الثقافي العالمي.من يجرؤ على فرض رؤاه الخارجية على قضايا شعب، أو اطلاق الأحكام دون مسؤولية، لكني أزعم أن القوى العربية الثقافية الحية، تخلت عن الفكر الثقيل من أجل السياسي الآني الخفيف والزائل، واستنزفت طاقاتها في السياسة اليومية، وارتفع شأن الصحيفة اليومية على حساب الكتاب الفكري العميق.ورغم أن الطاقات الشبابية الجديدة، تعيش نوستالجيا وحنينا للمجد السابق، الا أن حركتها هي تعبير عن رفض واحتجاج للثقافة الشائخة، فلديها أفكارها وأساليبها الجديدة والمبتكرة ومحاولاتها للخروج من المأزق، وهي محاولات يجب أن تحترم، دون ضغط وخنق، ودون تركها لتضخم ذواتها حد الانفجار، فهي الدليل على حيوية الشعوب وافرازاتها المتجددة.في شارع الحمرا اكتشفت مقاه وكافيهات جديدة، بعضها قديم متجدد وبعضها شبابي بحت، مثل كافيه أبو ايلي، الذي تغطي جدرانه صور الثوار والفنانين، وكافيه تاء مربوطة وفرقته الموسيقية «نشاز»، والتي تذكر بالرفض الهيبي والتمرد الشبابي على الواقع، وكافيه سمبلي رد الذي يضم مكتبة ومعارض تشكيلية وفوتوغرافية، وكذلك كافيه وليمة وفرقته «شحاذين يا بلدنا» التي تضم أساتذة في معهد الكونسرفتوار وتهتم بالموسيقى العربية النوعية.ثلاثين عاماً ليست طويلة في أعمار الشعوب، وقد لا تكون كافية للنقد الذاتي والتقييم، والخروج من المأزق الثقافي، ولكنها بالتأكيد تعطي مسافة للنظر من بعيد، خارج دائرة السخونة العاطفية، وتغيير اتجاهات التفكير والخطاب الثقافي، واللحاق بالواقع المتغير بوتيرة سريعة، واعادة الاعتبار لدور المثقف في الريادة، وقيادة المجتمعات التي انتظرت طويلاً لتغليب الحكمة على التشنج والشخصانية والتباكي والمكابرة.* من بيروت


No comments: