Saturday, November 28, 2009

حروب التخلف العربي



في الستينيات, عندما كان تلفزيون الكويت بالأسود والأبيض, كان هناك برنامج فكاهي اجتماعي توعوي, بعنوان "عائلة بوجسوم", يعالج أحياناً بعض السلبيات في المجتمع ويلقي الضوء على بعض الظواهر السلبية, ومن هذه الظواهر التعصب في الرياضة, وفي احدى الحلقات وبعد مباراة مفترضة بين ناديي القادسية والعربي, يلتقي مرزوق سعيد لاعب العربي بالعصفور لاعب القادسية, وكان رويشد الابن الأصغر في العائلة يعتقد أن المباراة هي رياضة عدائية, ويعتقد أيضاً أنه حالما يلتقي هذان اللاعبان سيتعاركان ويتضاربان, بينما كان أخوه جسوم يحاول افهامه أن ما يحدث هو رياضة ودية, وبالفعل يقف اللاعبان ويتعانقان بعد المباراة, ويندهش رويشد من غبائه.
في تلك الفترة كانت هناك أغاني وبرامج عربية توعي جمهور المشجعين, التوعية الرياضية الصحيحة, مثل أغنية مها صبري "بين الأهلي والزمالك محتارة والله", وهذه التوعية العربية لشعوبها, كانت نزعة للتحضر والتقدم بعد التخلص من براثن الاستعمار, والتعصب المتخلف للرياضة, ففي أيام الجاهلية دارت حرب شعواء دامت أربعين عاماً بين قبيلتي عبس وذبيان, بسبب رياضة سباق خيل, بين حصان اسمه داحس وفرس اسمها الغبراء, وأرخت باسم "حرب داحس والغبراء", حرب راحت فيها كثير من النفوس, وسالت خلالها كثير من الدماء.
ولأني مقتنع تماماً, بأن هناك تراجعاً حضارياً عند الشعوب العربية, ومنذ ثلاثين عاماً تقريباً, لأسباب ناقشتها كثيراً, أفرز هذا التراجع الكثير من مظاهر وسلوك التخلف لديها, فكان من المنطقي عودة شريعة الغاب, والتعصب العرقي والطائفي والقبلي والديني, فمع التحضر يسمو الإنسان بسلوكه ويرقى, ومع التخلف ينحط سلوكه حتى يقترب من السلوك الحيواني.
توقف الأنظمة العربية عن مشاريع التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية, وانشغالها وانحيازها لمشاريع النهب والفساد, أتاح الفرصة لسيادة أفكار وسلوكات الفساد والتخلف, مع تضافر عوامل أخرى, مما ترك أثراً على ثقافة المجتمعات العربية, فتوارت قيم مثل التضامن العربي والإخاء بين الشعوب العربية, وغيرها من قيم الوطنية الحقيقية النبيلة, وبرزت أفكار وسلوكات التعصب الجاهلي, كل ذلك في ظل غياب قوى المجتمعات الحية, والتي تركت فراغاً سياسياً, وأخلت الساحة لقوى التخلف.
فالجزائر, البلد الذي قدم مليون شهيد, اثناء مقاومته للاستعمار الفرنسي, وانتزع حريته بمساعدة الدول العربية ومنها الكويت, البلد الذي انطلق بعدها بمشاريع التنمية والتقدم, فرخ خلايا إرهابية أزهقت من أرواح مواطنيها, وأعادت الجزائر إلى ما قبل الثورة وما قبل الاستعمار, ومصر بلد التنوير ورأس حربة الدول العربية, والتي ساهمت بنهضة هذه الدول, ونهل الكثير من أبناء العرب من علمها, فرخت فئات تكفيرية إرهابية, متعطشة للدماء, حتى لم يعد الإنسان يتعرف على ملامح قاهرة المعز, وأرض المفكرين, والكويت التي كانت منارة للثقافة والتسامح الديني, وملجأ للمثقفين العرب الباحثين عن الحرية, فرخت فئات وأفكار وسلوكات غريبة على أهلها وتاريخها التنويري.
كل تلك الهشاشة الحضارية, كشفتها مباراة لكرة القدم بين مصر والجزائر, تحولت إلى حرب استخدمت فيها السكاكين والسواطير, ونقلاً عن طلبة كويتيين في القاهرة, أن فتيات جزائريات تعرضن لمحاولات اغتصاب, ومنع أساتذة الجامعات بما فيهم الخاصة في مصر, طلبة وطالبات من الجزائر دخول الامتحانات, أكرر من قبل أساتذة جامعة, وخرج مذيع مصري على فضائية يشتم بأقذع الألفاظ الجزائر والشعوب العربية, قائلاً:" احنا اللي علمنا الشعوب العربية ازاي تمشي وتاكل, واحنا مستعدين نبقى ولاد كلب نكذب ونلفق في سبيل مصر", وغيرها من ألفاظ لا يصدقها عقل, ولم يكن بعض الجزائريين أقل تخلفاً ووحشية, فإضافة إلى العنف ضد المصريين, قال أحدهم في سبيل الجزائر نحن على استعداد أن نصبح حيوانات, كل ذلك يمكن متابعته على اليوتيوب والإنترنت, وماذا عن موقف زعيمي الدولتين العربيتين؟ لقد كانا مؤيدين لسلوك المشجعين من الطرفين للأسف الشديد.
وفي الكويت بلد عبدالله السالم, بلد الدستور والدموقراطية, وتحت قبة أسمى صرح كويتي, تنحط لغة ممثلي الشعب إلى أدنى من السوقية, وتعلو الشتائم والألفاظ البذيئة, التي يخشى المواطن من أن يسمعها أبناؤه, كان انحطاطاً مخجلاً للإنسان والمواطن الكويتي, حري بأن يجعله غريباً في بلده.
لكن مع ذلك مازلنا نلوم الاستعمار والاستكبار والصهيونية, ونلوم الموسيقى والفلسفة والتفكير والتقدم العلميين, ونعزو تعاستنا لمؤامرات ضد الإسلام والعروبة.

Saturday, November 21, 2009

عندما شاخت المدينة




يصدف في كثير من الأحيان، أن أجلس أمام شاشة اللاب توب، ولا أعرف عماذا أكتب، رغم رغبتي بالكتابة، وأحياناً حاجتي لها، ولم اعرف حتى الآن كيف أحلل هذا الشعور، وهذا الموقف، وكأن هذه الحاجة للكتابة لم تترجم إلى كلمات في عقلي، ولكنها حتماً موجودة، وتحتاج أما إلى بحث أو تلقائية بالتعامل مع الصفحة البيضاء وأزرار الأحرف.
أنا موجود في بيروت، وهي تحوي غنى في الموضوعات، يرجع إلى غنى في الثقافة، لكني قررت أن أحتك بالناس العاديين، وأتداول معهم في شئون حياتهم اليومية، وقد كان أبرز ما لمست عند جميع اللبنانيين باختلاف طوائفهم وتوجهاتهم السياسية، هو الاستقرار النفسي بعد تشكيل الحكومة الجديدة، برئاسة الحريري الأبن، وهذا الاستقرار النفسي جعلهم يلتفتون إلى الأمور التي افتقدوها، مثل الحديث عن جمال مدينة بيروت، وقد أخذني سائق تاكسي محدود التعليم إلى نصب تذكاري عبارة عن كتب متراكمة على بعضها، وقال لي كلما مررت بهذا النصب أتذكر بيروت القديمة التي أعرفها، قبل أن يغزوها التخلف، كان السائق مسلماً، وقال سأريك مظهراً لم يكن يوجد في بيروت في سنوات الستينيات والسبعينيات، وبعد قليل أشار لي على إمرأة منقبة، يغطيها السواد إلى أخمص قدميها، ولأننا تحدثنا عن بيروت قبل ثلاثة عقود، سألني: هل كنت ترى هذا المظهر في الزمانات؟
وأكمل: لم أعد أعرف بيروت التي ألفتها، صمت متفكراً، وكلمت نفسي قائلاً بالفعل هذه مظاهر جديدة على مدينة النور، وتذكرت أنني قبل ثلاثة أسابيع كنت في القاهرة، ورأيت مظاهر جديدة على مدينة التنوير والأزهر الشريف، كان لباس الرجال لباساً على الطريقة الوهابية، أي دشداشة قصيرة ولحية طويلة، وكانت النساء يلبسن نقاباً وملابساً تشبه الملابس الأفغانية، وقد كان بالفعل مظهراً يدعو إلى الاستغراب والدهشة، كيف؟!! هل يعقل أن تتحول عاصمة التنوير العربي إلى الفكر الطالباني؟ والمظهر الموغل في اللا تحضر.
لكنني انتبهت إلى حقيقة مفادها أن جميع بلداننا التي خرجت بجدارة من قبضة الاستعمار، وقادت شعوبها إلى التحرر، والسير باتجاه المدنية، كل هذه البلدان ساد فيها التجهيل والتخلف، ولعب قادتها دوراً حاسماً في انكفائها، كما لعبت قوى التحرر الوطني لدينا دوراً متخاذلاً، وابتعدت عن آمال شعوبها في التقدم والسير على طرق التنمية.
هل نحكي عن مظاهر ضد المدنية؟ لنتكلم عن مساجد الصفيح بالكويت، لنتكلم عن فئة لا تؤمن بالدموقراطية، لكنها تستخدمها لتدمير المدنية والتحضر، لنتكلم عن السلوك المتخلف، وسرقة الشعب الكويتي ومحاولة تقييد حرياته باسم الدين، لنتكلم عن استهداف مشروع التحضر داخلياً وخارجياً.
هل شاخت مدينة بيروت؟ وهل شاخت الكويت؟ هل شاخت كلمة أمير الكويت الأسبق الشيخ عبدالله السالم؟ وهو يقود بلاده على خطوات العالم المتقدم، هل شاخت روح الشخصية الكويتية، روح البحار المنفتح على ثقافات العالم؟ بالتأكيد لا، لكني متيقن أن هناك مؤامرة على الشخصية الكويتية المتحضرة، مؤامرة تريد أن تنشر الفساد والتخلف، تريد امتصاص دم الكويتيين، وتريد حرمانه حتى من الموسيقى، وهي اللغة الأولية للبشرية.
الآن عرفت لم لم أعرف ماذا أكتب، أعرف جيداً أنني غاضب جداً على ما يحدث في بلدي، غاضب على سلب أبنائي وأحفادي حقهم بالفرح والسعادة، على أملهم ببناء وطن سعيد، غاضب على الجميع حكومة ومجلس وقوى وطنية، على سلبنا حقنا بالحرية والسعادة، على سلبنا فخرنا بكوننا شعب مميز، غاضب على التخلف والغباء والتفاهة، غاضب على عقود الفرص الضائعة.
السؤال الذي لم أجبه هو سؤال سائق التاكسي عندما قال، "وين الكويتيين اللي كنا نشوفهم بالزمانات"؟

Friday, November 20, 2009

الإسلام السياسي والرأسمال العالمي

عند التساؤل ما هو التناقض بين الإسلام السياسي والرأسمال العالمي، نجد أن الإجابة البسيطة أنه لا تناقض على الإطلاق بينهما، وخصوصا أن الأخيرة تعتاش على ريع الأولى، وما تنتجه أدوات الإنتاج الرأسمالية، فالإسلام السياسي غير منتج اقتصادياً، ولكنه يدور في فلك الرأسمال العالمي، ويعتاش من وجودها، وقد يكون التناقض الوحيد بينهما هو التناقض الثقافي أو الحضاري، وهو تناقض هامشي وغير رئيسي، بينما تتلاقى وتنطبق مصالحهما الاقتصادية، ليس بصفتهما شركاء في الانتاج، ولكن بصفتهما منتج ومستفيد طفيلي، أو بصفتهما شركاء في استغلال الجماهير.وبالطبع لا يملك الإسلام السياسي مصانعاً وشركات انتاج سلعية ضخمة وعالمية، ولكنه يملك بنوكاً وشركات استثمارية وعقارية ريعية، فلا تناقض طبقي بين الإسلام السياسي والرأسمال العالمي، سواء كان دولاً إسلامية أم أحزاب سياسية.تتكون الأحزاب لتمثل طبقات اجتماعية لها مصالح اقتصادية، بعضها اصلاحي وبعضها يسعى للانقضاض على السلطة، من خلال برامج وأجندات. من خلال العمل الداخلي المشروع مثل البرلمانات ومؤسسات المجتمع، أو من خلال عمل سري تآمري أو حركات تمرد مسلحة، لكن في النهاية لن تكون الغاية هي نشر العدالة الاجتماعية والمساواة بين أفراد المجتمع، بل السيطرة على المقدرات الاقتصادية للدولة، بشعارات قد تبدو ظاهرياً نبيلة وإنسانية.في بدايات تكوينها، ضمت الأحزاب الإسلامية فئات فقيرة وكادحة في مجتمعاتها، واستقطبت الفلاحين وابناء البادية في المجتمعات المختلفة، تلك الفئات لها مصلحة تتناقض مع الرأسمال العالمي، ولكنها نشأت في البداية على أموال الدول الاستعمارية، مثل حركة الاخوان المسلمين في مصر، التي تبرعت لها هيئة قناة السويس البريطانية بمبلغ خمسين جنيها، ومثل حركة طالبان التي قدمت لها الولايات المتحدة الأميركية ملايين الدولارات من ميزانية الكونغرس، إضافة إلى الأسلحة لمقاومة دخول الاتحاد السوفياتي إلى أفغانستان، وقد لا يكون الدعم المادي من الولايات المتحدة مباشرة، بل من حليفاتها من الدول الإسلامية، إلا أنها وبعد عقود تحولت هذه الأحزاب الإسلامية إلى مؤسسات مالية ضخمة، تدعم مثيلاتها في الدول المختلفة.وقد ينخدع البعض بالعنف الموجه من قبل هذه الأحزاب، للدول الاستعمارية التي رعته بالأساس، لكن هذا العنف في جزئيته تحررياً، لكن في استراتيجيته سعياً للسيطرة على البلدان وثرواتها، بشعارات أخلاقية ووطنية، لكن بطرق لا أخلاقية في كثير من الأحيان.فمشروعها الأيدلوجي لا يتناقض مع المشروع الرأسمالي العالمي، بل يتقاطع معه جزئياً، فأميركا مثلاً أطلقت على الإسلاميين في أفغانستان صفة المحاربين من أجل الحرية، لكن هؤلاء المحاربين ظنوا وهماً بأن الفضل يرجع لهم في الانتصار، فتناقضوا جزئياً مع أميركا، لكن يبقى الصراع غير رئيسي.كما أن معارك الإسلام السياسي في مجتمعاته، ليست معارك من أجل الأخلاق كما يبدو على السطح، ولكنها معارك من أجل الحصول على حصة من الثروة، ومن ثم السيطرة عليها، وهذا ما دمج العديد من فئات الإسلام السياسي بطبقة الرأسمالية الكبيرة، وتلاقت معها بغض النظر عن شعاراتها المطروحة.وبعدما كانت الأحزاب الإسلامية تعتاش على مساعدات بعض الدول، أصبحت تسير وتنمو بقوة الدفع الذاتي، بقوة أموالها واستثماراتها، التي ما كانت لتنمو لولا التحالف مع الرأسمال العالمي، والسير في فلكه، إذ لا يوجد ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي خارج سياق النظام الرأسمالي القائم على الربح والعمل المأجور.وعندما يطالب النواب الإسلاميين في مجلس الأمة الكويتي، مطالب شعبية، مثل اسقاط القروض عن المواطنين، هي لا تفكر في مصلحة الشعب، التي لا تكمن في هدر المال العام، ولكنها تفكر في التكسب السياسي، الذي سيدر عليها في النهاية ملايين الدنانير، من خلال المناقصات والفساد الإداري، دون أن تضطر للإنتاج، فالاصلاح والتنمية تعني حرمانها من حصة أكبر من الثروة وبشكل أسرع.ففي مقابل دعواتها الظاهرية في الحفاظ على القيم وما يسمى بالثوابت، تجنح في سلوكها إلى استغلال الشعب وتكبيل حرياته، كما فعل الغرب الاستعماري، وتمارس سلوكاً لا أخلاقياً وبعيدا عن تعاليم الدين، في سبيل الربح وترسيخ النفوذ.

Saturday, November 7, 2009

التسلط الفكري الأبوي



عاشت البشرية عهوداً كثيرة, تحت ظل العلاقة الأبوية البطريركية التسلطية, سواء سلطة القبيلة أو النظام السياسي الاجتماعي, أو السلطة الدينية, وبلغ هذا التسلط أوجه في القرون الوسطى, على يد الكنيسة ورجال الدين في ذلك الوقت.
وشكل هذا التسلط, هو استلاب العقل وغربته عن حقيقتة تكوينه وعن إمكانياته اللامحدودة في التفكير والإبداع.
فقبل عصر التنوير الأوربي, كان السائد هو التفكير واتخاذ القرار بالنيابة, على اعتبار أن السلطة الأبوية هي الأعرف والأفهم والأدرى بالمصلحة, وفي هذا السياق منعت هذه السلطة سواء كانت سياسية أم دينية, أفراد الشعب من التفكير واختيار نمط حياتهم وقناعاتهم, وأطرت عقولهم وحددتها بالاتجاه الذي يناسبها هي كسلطة, وضمنت بذلك سيطرتها وهيمنتها وولائها.
وتعاملت مع أفراد الشعب, معاملة الراعي والقطيع, ولم تسمح لأي فرد بالخروج من سياق مجموع هذا القطيع, فأي خروج سيكون عرضة للعقاب والتكفير والإرهاب, فمع الراعي يمنع التفكير الحر, ويمنع الخروج عن السلطة البطريركية.
هذه السياسة كانت واضحة في إجراءات منع الكتب واحتجازها في معرض الكتاب الأخير, فلا يجب علينا كشعب أن نقرأ ما نريد, وليس علينا أن نتعلم, "فمن تعلم فقد تزندق", فهناك سلطة أبوية سياسية ودينية, تفرض عليك ما تقرأ, وتحجر عليك ما تراه ينمي تفكيرك, وتسلبك حريتك في اختيار طريق المعرفة.
ولأن هناك علاقة جدلية بين الحرية والتقدم, نجد أن الدول العربية والإسلامية في ذيل الركب الحضاري العالمي, ومن جميع النواحي العلمية والتكنولوجية والاجتماعية والسياسية, وهذا لا يختلف عليه اثنان.
لكن منع حرية القراءة والمعرفة في الكويت, لم تبلغ هذه الدرجة من التسلط, إلا بعد تنامي نفوذ جماعات الإسلام السياسي, فهذه الجماعات لم تكن قط قادرة على المجادلة والحوار وإعمال الفكر, ولكنها دائماً استخدمت مع الآخر سياسة التسلط والفرض والترهيب والتكفير والإقصاء, كانت وما زالت تخشى من العقل البشري ومن التفكير, ونظرة سريعة وعابرة على التاريخ, نجد التنكيل والقتل لمن يتجرأ ويفكر, ولمن يخرج عن القطيع, خاصة على يد النفوذ الديني.
وتشكل على مر العقود والقرون, ما يسمى في علم النفس "الخوف من الحرية", أو "قطها براس عالم, واطلع منها سالم", وهي احدى المشكلات النفسية الواضحة عند الشعب العراقي, الذي لم يعتد الحرية لسنوات طويلة, فأصبح هذا الخوف عادة, ويحتاج إلى سنوات طويلة كي يتعافى منها.
وحتى الناشرين المشاركين بمعرض الكتاب, اعتادوا هذا التسلط السنوي, وتعاملوا مع الكويت على أنها المحطة الأكثر تخلفاً, فأرسلوا الكتب الممنوعة في الكويت إلى معرض الشارقة الذي يلي هذا المعرض, حيث نسائم الحرية, وحيث أن اختيار الإنسان الإماراتي مطلق فيما يريد أن يقرأ, وهذا ينطبق على معظم دول الخليج, التي رأت في الانفتاح على الكتاب, ضمانة للاستقرار النفسي النسبي لشعوبها, وأنه مع التقدم التكنولوجي, فسيكون من السخافة منع كتاب.
التسلط الأبوي هو إرث اجتماعي تأصل أكثر في الثلاثة عقود المنصرمة, بعد أن كان معرض الكتاب في الكويت, ثاني أكبر وأقدم معرض كتاب في الدول العربية, عندما كانت الكويت واحة للحرية, ووطناً طموحاً للتقدم.
أصبح التسلط الأبوي إرثاً متأصلاً عند جميع فئات وطبقات المجتمع, بما فيها القوى الوطنية الحية, فقد ظلت القوى الوطنية ولعقود طويلة, مرتبطة برموزها بهذه العلاقة الأبوية, واي تمرد عليها هو تمرد على مقدسات, وانتقلت هذه العدوى إلى القوى الطلابية الشبابية, فكثيراً ما نشبت خلافات بل معارك في صفوف الحركة الطلابية الوطنية, مدفوعة بهذه النزعة الأبوية المتسلطة, لكنها مع الأسف وبدلاً من نقدها لذاتها آثرت "الطمطمة" والتكتم على خلافاتها, وهذا يضعفها تنظيمياً, ويفقدها مصداقيتها وجديتها ونضجها.
ومع إيماني الكامل بالقوى الشبابية, وقدرتها على تجديد دماء الحركة الوطنية, ومع الآمال التي أعلقها على أفكارهم الجديدة, وعلى عزيمتهم ونشاطهم وحبهم للوطن, إلا أن الإنجاز لا يمكن تحقيقه, دون نقد علمي متجرد للذات, دون الاعتراف بالنواقص الفكرية والسلوكية, ودون التخلص من التربية السياسية القديمة والإرث الاجتماعي المتخلف.

Sunday, November 1, 2009

المرض والعرض



يلجأ الكثير من الأطباء لمعالجة الأعراض وليس الأمراض التي سببتها, والسبب عادة هو قلة الدراية في العلم, والبساطة في التحليل, والاستعجال في التشخيص, فإذا أتى مريض يشكو من صداع مثلاً, يصف له الطبيب "بنادول", وإن أتي مريض يشكو من ألم بالمعدة, يصف له الطبيب "زنتاك", دون دراسة السبب في الصداع الذي يمكن أن يكون بسبب النظر أو الضغط النفسي, أو غيره من مئات الأسباب, وكذا الأمراض الأخرى.
وكذلك فيما يسمى بالأولويات, أو الاستراتيجة والتكتيك, سواء بإدارة الأعمال والاستثمار, أو في العمل السياسي, أو حتى بإدارة الحياة الشخصية, كلها تعني وضوح الرؤية والخطوات, التي من دونها ستختلط الأولويات وستتخبط المنظمات والأفراد, وستضيع الخطوات مما يؤخر التقدم والإنجاز في هذه المجالات.
ولهذا الغرض يجب وجود إطار نظري يستند إليه, مثل دراسة إدارة الأعمال أكاديمياً, أو في حال المنظمات السياسية نظرية متفق عليها, تحدد القضية الرئيسية والثانوية, فمثلاً في لبنان هناك جدل بين بعض المثقفين حول العدو الرئيسي والعدو الثانوي, هل هي هو العدو الصهيوني, أم القضية الطائفية بالنسبة للشعب اللبناني, وأيها كانت السبب وأيها كانت النتيجة.
وما يحدد هذا الأمر هو الوعي والإدراك لنقطة الإنطلاق في طريق التقدم, سواء على المستوى الشخصي أم على مستوى المؤسسات التجارية, أم على مستوى المنظمات السياسية, هل يجب التفكير بالربح الكبير السريع, أم بالكسب القليل الثابت والدائم, هل نفكر بالانتصارات الدون كيخوتية الكبيرة, أم بسياسة اكسب وطالب.
إذاً الوضوح الفكري, مقابل ردة الفعل العاطفية, ماذا نحارب السبب أم النتيجة؟ ماذا نعالج المرض أم العرض؟ فالقراءة الصحيحة للواقع تضمن تحليلاً سياسياً واضحاً, وخطوة عملية ثابتة وواقعية, وتشخيصاً علمياً يضمن علاجاً ناجعاً.
والوضوح الفكري يعني وضوحاً في رؤية الأولويات, والنهج الواجب اتباعه للإنجاز أياً كان مجاله, والتكتيك المناسب للظرف والمرحلة, ظمن الإطار النظري والاستراتيجية أو الهدف.
في الكويت من منا لا يعرف دور مجلس الأمة في تعطيل التنمية واستمرار الفساد, ومن منا لا يعرف ضعف الحكومة ورضوخها للأصوات العالية, وغض النظر عن الفساد, لكن هل تدارسنا معركتنا ضد من وضد ماذا؟ من هو أو ما هو العدو الرئيسي للشعب الكويتي؟ هل تدارسنا ما هي أسباب التراجع الذي منيت به الكويت؟ هل السبب هو الحكومة أم المجلس أم الدمقراطية؟ ومن أين يأتي التضليل واستنزاف وتشتت القوى؟ وماذا أصبح مآل مكتسبات الشعب المدنية والحضارية؟ الذي ناضل طويلاً لاكتسابها, ربما لقرن كامل.
ما هي قضيتنا الراهنة كشعب؟ هل هي وزير الداخلية؟ أم وزير الصحة أم وزير المالية؟ أم هي استعادة هيبة الدستور والقوانين ودولة المؤسسات العصرية؟ وهل يقوم وزراؤنا الوطنيون بدورهم كرجال دولة, بطرح وتنفيذ مشاريع تنموية والدفاع عنها؟ وهل يقوم نوابنا ونائباتنا بدورهم بالتصدي لمحاولات إفراغ الدمقراطية من محتواها, وحرفها عن مسارها مثلما يرمي الفساد والتخلف؟
ومن يقود من في هذا الأمر, الشعب أم قواه الوطنية؟ ومن أين يجب أن تأتي المبادرة؟ وما هي الحلول للمرحلة المقبلة؟ وأين يجب توجيه الطاقات؟
إذا كنت طبيباً وجاءك رجل متعدد الأمراض, فماذا تعالج أولاً وثانياً, حتى يعود الرجل إلى عافيته؟ وعلى ماذا تستند في قرارك؟ على حدسك أو على ردة فعلك أم على العلم؟