Saturday, March 27, 2010

بيع قطاع الدولة


لا يختلف اثنان على أن الأزمة الرأسمالية العالمية الحالية, هي أزمة بنيوية, قد تكون الأكثر حدة منذ الكساد الكبير عام 1929م, التي تلتها انهيارات اقتصادية للدول, بما فيها الأوربية, وقامت على أثرها النازية, والحرب العالمية الثانية, التي قصد منها إعادة تقسيم الثروة, وإنقاذ الشركات الكبيرة, عن طريق فرض مزيداً من الأعباء على الشعوب, وزجهم في حروب مدمرة.
والكويت هي جزء من هذه المنظومة الاقتصادية, التي بالتأكيد تتأثر بأزماتها وانتعاشاتها, وتتخذ نفس الإجراءات التي يتخذها الرأسمال العالمي, ففي سبيل الربح الفاحش, فإن رأس المال يدوس على أي شيء وينتهك كل شيء, فخطط إنقاذ القطاع الخاص كانت دائماً على نفقة الدولة, مما يعني مزيداً من الأعباء على كاهل المواطن الكويتي, وعلى حساب حياته المعاشية, وانخفاض القوة الشرائية, ودفعه باتجاه صعوبات الحياة أكثر فأكثر.
وفي الخطة الإنمائية الأخيرة, إتجاه لخصخصة قطاع الدولة بالكامل, فيما عدى قطاع الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية مع الدول, مما يعني أن دولة الكويت, قد تكون الوحيدة, والنموذج الفريد في هذا التوجه المغالى فيه للخصخصة, فحتى الدول الأكثر رسوخاً وقدماً في النظام الرأسمالي, لم تجرؤ على تفكيك كامل القطاع العام, او قطاع الدولة, وبيعه للقطاع الخاص.
والكويت بذلك تتخلى عن الرعاية الاجتماعية, التي نص عليها الدستور, وانتهجتها السلطتين التشريعية والتنفيذية, والتي ضمنت حياة معاشية جيدة نسبياً, وقوة شرائية لا بأس بها للمواطنين, وقضت على الأمية في وقت مبكر, فالدستور ركز على العدالة وتكافؤ الفرص, إضافة إلى الحريات.
أنا أفهم أن هناك توجهاً إيجابياً, لجعل الكويت مركزاً مالياً وتجارياً, والقضاء على الفساد الإداري, وتطوير الخدمات, لكن الحل لن يكون برفع اليد عن حاجات المواطن الأساسية, وتنفيع الشركات الكبرى على حسابه, بل أن هذا التوجه الإيجابي, يجب أن يسهم برفع المعاناة عن كاهل المواطن, ودعم الخدمات الأساسية والمكتسبات التي كان يتمتع بها طوال عقود, من بعد وضع الدستور.
فكلنا نوافق على أن الفساد استشرى في الدوائر الحكومية, وتردت الخدمات, وسبقتنا بعض الدول في مجال التطوير الخدمي, لكن من قال أن القطاع الخاص, ليس فيه فساد, طال حتى بعض البنوك, وهي من أعمدة النظام الاقتصادي في الكويت, وطال أيضاً بعض المدارس الخاصة على سبيل المثال, وطال حتى بعض الشركات التي رسيت عليها مناقصات البنية التحتية, وما أزمة مجاري مشرف, إلا دليل آخر على فساد القطاع الخاص.
منذ بدء الأزمة الاقتصادية في العام الماضي, قام القطاع الخاص بتسريح آلاف من الشباب الكويتي والشابات الكويتيات, مما سبب في تحطيم أسر اضطرت معها إلى الغرق بالديون, وعجزت عن الإيفاء بالتزاماتها المالية, مثل تسديد أقساط مدارس ابنائها, ودخولها تحت طائلة القانون.
وحتى الإجراءات الحكومية التي اتخذتها, لم تستطع أن تسهم في رفع معاناتهم, ولم تستطع الحكومة الإيفاء بتعهداتها بإيجاد فرص عمل للمسرحين خلال عام من تسريحهم, فقد مر حتى الآن قرابة تسعة أشهر على هذه المشكلة, ولم تستطع الحكومة توظيف شخص واحد من هؤلاء المسرحين, كما أنها استنزفت أموالاً كثيرة لتعويضهم حسب قانون المسرحين.
وعلى ضوء ذلك, فالتوجه لخصخصة قطاع الدولة بالكامل, وبيعه للقطاع الخاص, سوف يصعب توفير فرص عمل للعمالة الوطنية, ويضاعف من البطالة بينها, وسيقوم القطاع الخاص بالاعتماد على العمالة المستوردة والرخيصة, وهذا بالتأكيد سينحدر بمستوى معيشة المواطن الكويتي.
أما الطامة الكبرى فهي تخصيص التعليم, وهو إجراء لم تلجأ إليه الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وغيرها, والتي حافظت على نسبة ضئيلة من التعليم الخاص, مقابل التعليم العام, وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة, إذ قامت بريطانيا وفرنسا مثلاً, بتعزيز ودعم وتوفير الخدمات التعليمية والصحية المجانية, كما حافظت الولايات المتحدة على نسبة أقل من 11% للتعليم الخاص فقط.
إن التوجه لتخصيص كامل قطاع التعليم, خطر للغاية وهو غير مسبوق, فالمنافسة التجارية في التعليم, ستخلق ليس منافسة في تحسين مستوى التعليم, لكنها على العكس, ستخلق أساليب متنوعة من أجل الربح, بما فيها التساهل في منح الشهادات, وانخفاض في مستوى المدرسين المختارين, وهو أمر حاصل في بعض المدارس البريطانية والأمريكية, فخفض جودة التعليم, لخفض كلفته المادية هو جريمة في حق أجيالنا القادمة.
لا يوجد مانع من مشاركة القطاع الخاص, في بناء الدولة وتطوير الخدمات, التي ساهمت البيروقراطية والفساد بتخلفها, لكن الحل يكون بالقضاء على الفساد الإداري, ورفع قيمة العمل لدى المواطن, وتطبيق القانون للقضاء على التسيب, والقضاء على الواسطة والمحسوبية, وفي الجانب التعليمي, ما زلنا نطالب بتطوير المناهج لمواكبة متطلبات العصر, وتطوير أداء المدرسين, وذلك لا يعني إلغاء التعليم الخاص, وإعطاء الفرصة للناس لاختيار الأنسب لأبنائها.
الغريب رغم انه تجري الآن, تحركات شعبية في العالم أجمع, ضد مثل هذه الإجراءات, يوافق أعضاء مجلس الأمة على الخطة الإنمائية فوراً, على غير عادتهم, وهذا يجعلنا نتساءل.

Saturday, March 20, 2010

الدوغما

قرأت بعض الانتقادات لأغنية غنتها فرقة أنثروبولوجي الشبابية, ورغم أني للأسف لم أمكن من تلبية الدعوة لحضور الحفل, الذي أقيم في جمعية الخريجين, ولم أسمع الأغنية التي غنيت باللغة العبرية, إلا أني لم أستغرب من تلك الانتقادات.
الدوغما "العقائدية", والنصية, مشكلات يعاني منها العقل العربي إن جاز التعبير, لأنني أؤمن بأنه لا يوجد عقل عربي واحد, وهو أيضاً يختلف في الزمان والمكان, لكن يغلب على التفكير العام الجمود وعدم إعمال الفكر, والوقوع في المسلمات وعدم مناقشتها فكرياً, وهو نمط من التفكير يقود إلى التخلف والمحدودية, ولم يسلم من هذا النمط, العديد من الفلاسفة والمفكرين, فما بالك بالإنسان البسيط.
هذه الدوغما, هي التي قادت بعض الشعوب العربية, إلى الوقوف مع صدام حسين, في إجتياحه الوحشي, ضد دولة عربية, تحت ذرائع فكرية مختلفة, مثل الوحدة العربية, ومثل نقف دون تفكير مع من يقف ضد أمريكا, ولا يختص تيار سياسي أو فكري أو ديني, بهذا النمط من التفكير, فعندما تصدر فتوى من شيخ دين, تقبل من التيار دون تمحيص أو مناقشة, وعندما يطرح شعار قومي, يؤخذ على علاته كحقيقة مطلقة, ولعل إحدى أزمات اليسار العربي, كانت في الوقوع في شرك الجمود والنصية.
بعض الدوغماتيين مثلاً, يرفضون الثقافات الأخرى, وإبداع القوميات الأخرى, فكثير منهم يرفض تعلم لغات تلك الشعوب, أو حتى الاستفادة من آدابها وفنونها, أو حتى الحديث عن إيجابياتها إن وجدت, فمثلاً ساد مصطلح "الشعب الصهيوني", بدلا من شعب إسرائيل, إذ لا يمكن أن يكون كل فرد في هذه البلد صهيونياً, فهناك جمعيات وتنظيمات وجماعات, في داخل إسرائيل, هي ضد السياسة الإسرائيلية, وحتى ضد سياسة أمريكا في مساندة إسرائيل, فالصهيونية هي حركة سياسية عقائدية عنصرية, مثلها مثل النازية, وهذه قابلة للرفض أو القبول بين اليهود أنفسهم, ولا يمكن أن يكون الإنسان صهيونياً بالولادة.
في الستينيات كنت أستمع إلى برنامج إذاعي من صوت العرب, أسمه أعرف عدوك, وكانت في حينها فكرة جيدة, لكنها في الواقع لم تطبق بشكل جيد, والدليل هي نكسة حزيران, بينما عمد الإسرائيليون, إلى ترجمة الأدب العربي, وتدريسه في الجامعات الإسرائيلية, واستفادوا من كل الفنون والثقافات الأخرى, وبالأخص العربية, في الوقت الذي بقينا عقوداً, لا نعرف خلالها شيئاً عن الأدب الإسرائيلي, أو الفنون الإسرائيلية ذات الطابع الشرقي.
لم نكن نريد تحرير أذهاننا من النصية, وأحياناً نرهب ونخشى من هذا التحرير, وخضعنا لمسلماتنا, حتى أصبح كل حديث عن إبداع فنان إسرائيلي, هو تطبيع وخيانة لأطفال غزة, ولقضية الشعب الفلسطيني, وكل فنان أو أديب إسرائيلي, هو فنان أو أديب صهيوني, بل قرأت مرة في إحدى الصحف العربية, قراءة عنوانها, قراءة في الأدب الصهيوني, ولم أكن أعرف هل المقصود الأدب المستند إلى الفكر الصهيوني, أم كان المقصود الأدب الإسرائيلي, أي المنسوب إلى الدولة, ناهيك مثلاً عن مصطلح الأدب اليهودي.
لقد قدم الموسيقار اليهودي الكويتي صالح الكويتي, ألحاناً عظيمة مازلنا نستمتع بها, وظل محتفظاً بتراثه الكويتي العراقي, حتى بعد أن هاجر إلى إسرائيل قسراً, بينما في إسرائيل تم تكريمه, وإذاعة أغانيه, بل سمي شارع في تل أبيب مؤخراً, باسم شارع الأخوين الكويتي, نسبة إلى صالح وداود الكويتي.
نحن لا نتوقع أن تتغير سياسة إسرائيل وأمريكا, تجاه قضايانا العربية, ولا تجاه شعوب العالم, لكننا سنظل نقرأ الأدب الأمريكي, ونستمع إلى الموسيقى الأمريكية, وداخل شعبي أمريكا وإسرائيل, أخيار وأشرار, مثلما لدينا في الكويت أخيار وأشرار.


Saturday, March 13, 2010

دلالات كتاب خليفة



صدرت الطبعة الثالثة من كتاب الدكتور خليفة الوقيان, "الثقافة في الكويت, بواكير-اتجاهات-ريادات", وقام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مشكوراً, بتوزيعه مجاناً على القراء.
ولا أحد منا يختلف حول أهمية هذا الكتاب, وما يحويه من مادة قيمة للمهتمين والدارسين للشأن الثقافي الكويتي, وقد صدرت سابقاً عدة كتب في هذا المجال, أذكر منها كتاباً أصدره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, وآخر للدكتور محمد حسن عبدالله, صدر في القاهرة أثناء الغزو, وكتاب الشاعر الراحل خالد سعود الزيد, "أدباء الكويت في قرنين", وغيرها من الكتب التي ركزت على الثقافة في الكويت.
لكن بماذا يختلف كتاب الدكتور خليفة الوقيان؟ فمعظم المادة هي تاريخ متاح في المراجع, في تصوري أن في هذا الكتاب نفس أو إتجاه, لتأكيد الوشائج القوية, بين الثقافة والكويتيين, وأن الكويت لم تكن يوماً صحراء قاحلة, ولم تولد مثل الكمأة قبل أربعمئة سنة, ولكن هذه البقعة من الأرض, كانت آهلة بالسكان المنتجين للثقافة, وكما هو معروف أن المجتمعات المستقرة, التي تملك وسائل وأدوات الإنتاج, تنتج وعياً وثقافة أيضاً, أي إضافة إلى النتاج المادي, هناك نتاج معنوي, وأنماط للسلوك, وتعريف الثقافة هو أنها مجمل النتاجات المادية والفكرية وأنماط السلوك, في مكان معين وزمن معين.
والوجود السكاني القديم, في هذه البقعة من الأرض, أثبتته الحفريات والآثار التي اكتشفت, فالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, كشف عن تجمعات بشرية في منطقة الصبية, تعود لخمسة ألاف سنة قبل الميلاد, ووجد فيها مقابر, وبقايا مراكب, وهياكل عظمية لأسماك, وأكتشف في تل بهيته عند ميناء الشويخ, ثلاث حضارات فوق بعضها, تعود إلى ما قبل الميلاد, كما أن الكويت وجزيرة فيلكا بها آثار تعود إلى حضارة دلمون والعصور البرونزية, إضافة إلى الحضارة الهلينية وغيرها, فعبر التاريخ شكلت الكويت أهم مناطق الترانزيت التجارية للحضارات القديمة, ورغم أن بعض قاطني الأراضي الكويتية, أتوا من قوميات أخرى غير عربية, مثل اليونانيين والفرس, إلا أن ذلك لا يمنع نسب هؤلاء لأرض الكويت, فكل حضارات الدنيا, تحوي آثاراً لحضارات وأعراق أخرى, فتلك كانت طبيعة التكون الحضاري, ومنها أيضاً الهجرات من مناطق أخرى, والأمثلة كثيرة منها مصر وأمريكا اللاتينية, ودول أوربا التي ما زالت تحوي آثاراً رومانية, وتعدها هذه الدول جزءً من حضارتها, وجميع هذه الدول أصبح لها كيانات سياسية مختلفة عدة مرات في التاريخ, وهذا ينطبق على الكويت, عندما تكون كيانها السياسي الحديث, بينما كانت الكيانات السياسية القديمة مختلفة.
والثقافة في الكويت, ليست شيئاً طارئاً, أو ثانوياً أو مقحمة على الشخصية الكويتية, بل كانت جزءً عضوياً من المجتمع, والأسباب عديدة, منها ما ذكره الدكتور خليفة, عن عوامل الاهتمام المبكر بالثقافة, التي أرجعها إلى طبيعة السكان, وطبيعة الموقع, وطبيعة النظام السياسي, والمؤثرات الخارجية.
ولعل الكتاب يرد بالوثائق والتواريخ والأسماء, على بعض الأخوة العرب, وبعض الفئات التي تتعمد نفي الطابع المتحضر للكويتيين, إذ توجد في الكويت حتى أفلام وثائقية كويتية, تصور ماضي الكويت كصحراء وخيام, ناهيك عن الطابع الثقافي لها, والذى تجرى محاولات طمسه كل يوم, وحتى هذه اللحظة.
أن الحديث عن الثقافة في الكويت, هو صراع من أجل تأكيد الهوية الحضارية لسكان هذه الأرض, قد لا يدرك أهميته سوى المنشغلين بالهم الثقافي, خاصة بعد تخلي الدولة عن اعتبار الثقافة أولوية تنموية.
وكتاب الدكتور محمد حسن عبد الله, والذي ذكرته سابقاً, هو أول كتاب يصدر عن سلسلة عالم المعرفة, بعد التحرير مباشرة, وبعد توقف قسري بسبب الاحتلال, مما يدل على أهمية الثقافة بالنسبة إلى الكويت.
ولعل من الأشياء المهمة في كتاب الدكتور خليفة, هو ما ذكره حول الاتجاه الإصلاحي والنزعة التنويرية في المجتمع الكويتي, وهي سمة للمجتمعات المنفتحة, فيقول الوقيان في صفحة 195:" قام النموذج الكويتي على أساس تنوع المنابع الثقافية, وتجذر مبدأ الحرية والدموقراطية, والانفتاح على الآخر والتفاعل الإيجابي معه, ونبذ الغلو, ومقاومة ثقافة احتكار الحقيقة". انتهى.
وهو ما تجسد في رفض الكويتيين للدعوة الوهابية, ومنذ بداياتها, ويقول الوقيان في صفحة 197:" لم يكن النموذج الكويتي القائم على الانفتاح مقبولاً في منطقة تغلب عليها الاتجاهات التي تميل نحو الغلو في فهم الدين". انتهى.
ويضيف في نفس الصفحة:" ويبدو أن الأفكار التي نادت بها الدعوة السلفية "الوهابية" في بداية ظهور الشيخ محمد بن عبدالوهاب كانت موضع حوار في الكويت, ولعلها كانت محل تشكيك وعدم قبول, بسبب تعارضها مع طبيعة الانفتاح والتسامح التي سادت المجتمع الكويتي, وجاء علماء الكويت أكثر ميلاً نحو المنهج الاصلاحي". انتهى.
ولعلنا الآن نحن أحوج إلى استلهام تاريخنا, وإلى المنهج الفكري لأجدادنا, الذين كانوا منذ قرون مستنيرين ومنفتحين ومتسامحين, يقدرون الثقافة, ويثرون من تنوع مصادرها, بدلاً من التناحر القبلي والطائفي والعرقي, الذي كاد أن يمحو هويتنا الثقافية الأصيلة.

عازف الساكسفون



كان للتو قد خرج من السجن, كان ذلك في صيف 1990م, وعندما قلت له ممازحاً:
- "طولت علينا".
أجاب بحماس وروح إيجابية:
- "هذا واجبي".
عندما أفرج عنه بعد أكثر من اثنين وعشرين سنة, لم يستطع أن يتعرف على البحرين الجديدة, بشوارعها ومبانيها, التي تغيرت كثيراً منذ الستينيات, وكان الشيء الوحيد المألوف لديه, هي وجوه أصدقائه وأحبائه, ولكن بعدما عبث الزمن بأشكالها, وكان يظن أنه ظل صغيراً كما هو, وهم من تغيروا, لكن الزمن لم يكن ليستثني أحداً.
في بداية السبعينيات, وأثناء الدراسة في القاهرة, كان هناك بوستر معلق في مقر إتحاد الطلبة, لشاب أسمر يلبس بابيون, ورسم لقضبان تخرج من خلفها حمامات بيضاء, ولما سألت:
- من هذا؟
قيل لي:
- أنه مجيد مرهون.
وعندما قرأت قصة عازف الساكسفون, التي كتبها القاص البحريني المبدع محمد عبد الملك, في مجموعته القصصية "نحن نحب الشمس" عام 1975, لم أشك قط أنه كان يقصد مجيد مرهون, القابع في سجن جزيرة "جدا", في مقابل ساحل البديع, حيث ظل ما يقارب من الربع قرن, في هذه الجزيرة الموحشة, بعدما خرج منها جميع المعتقلين السياسيين, بمن فيهم شعراء وأدباء معروفين.
كانت تهمته هي مقاومة الاستعمار, أيام الحاكم العسكري البريطاني هندرسون, كان ذلك في عام 1968م, وظل وحيداً في سجن الجزيرة, إلا من الموسيقى التي تؤانس وحدته وخياله, ولأن طلبه في الحصول على آلة موسيقية رفض مرات عديدة, راح يؤلف الموسيقى بفمه, ويشكل إيقاعاتها بقبضته على الحائط, وكتبها على ما تيسر له من ورق, مثل ورق علب السجائر, والقراطيس المختلفة, وألف مقطوعات موسيقية, كانت تستعصي بعبقريتها, على خريجي معاهد الكونسرفتوار, كما اعترفوا بأنفسهم.
وشكلت معاناته ووحدته الموحشة, وخبر فقده لوالدته, حوافز شعورية وذهنية, مغلفة بشجن وحنين لجزيرة الأحلام, فكتب مقطوعة "ذكريات" ومقطوعة "نوستالجيا" أو حنين, ومقطوعة "أزميرالدا" المستوحاة من رواية أحدب نوتر دام, لفكتور هوجو, ومقطوعة "جزيرة الأحلام", ومقطوعات أخرى عديدة, وعندما هربت هذه الوريقات إلى خارج السجن, عزفتها الإذاعة السيمفونية في جمهورية ألمانيا الدموقراطية, واعتبر بعض المختصين في الأكاديمية الملكية السويدية, أعماله عبقرية.
يقول مجيد عن نفسه: أنه ولد في 17 أغسطس 1945, بعد اسبوع واحد على تفجير القنبلة الذرية على اليابان, مما جعل طقس الكرة الأرضية ساخناً جداً, ولد في حي "العدامة" الذي كانت بيوته من سعف النخيل, وعانى من الفقر والظلم, وعانى من التمييز في المدرسة, ثم دخل معهد شركة بابكو ليصبح فني كهرباء, وشكل فرقة "الزولوس", التي كانت تعزف في الأفراح والأعياد والمناسبات, وكان أول عازف ساكسفون في المنطقة, ولعل اختياره لهذه الآلة الحزينة ذات الشجن, جاء كعبير عن واقعه وأحاسيسه.
كان قد تشرب في بيته البسيط, ومنذ طفولته, الموسيقى الكلاسيكية العالمية, التي كان يسمعها من إذاعة الظهران, عبر الراديو الذي كان يعمل على البطارية الجافة, وقرأ كل ما وقعت عليه يده, من كتب حول الموسيقى الكلاسيكية العالمية, وحول الموسيقيين الخالدين.
وما لحنه للنشيد النضالي "طريقتا أنت تدري", إلا شكل من أشكال نضجه الموسيقي, وكان الشاعر المناضل أحمد الشملان, قد أكمل كلماته, وجاء الفنان سلمان زيمان ليكمل الباقي.
كان مجيد يعاني من صمم في إحدى أذنيه, البعض يقول بسبب من نفخه لآلة الساكسفون, وهو أمر مألوف عند عازفي آلات النفخ, والبعض يقول بسبب التعذيب الذي تعرض له, في بداية اعتقاله, لكنه شكل ظاهرة فريدة بين المعتقلين العرب, إذا قضى محكوميته المؤبدة كاملة, ولم ينافسه في طول سجنه, سوى نيلسون مانديلا الذي قضى أكثر من سبع وعشرين سنة في المعتقل, ولذا سمي مجيد مرهون "مانديلا البحرين", أو "ماجدلا".
عندما اعتقل, كان قد أعد له ضابط الاستخبارات البريطاني أيان هندرسون, محاكمة صورية, لم تستغرق سوى نصف ساعة, وحكم عليه حكمين, الأول مؤبد والثاني لمدة عشر سنوات, ووضعوه في زنزانة انفرادية لسنوات, وهو مقيد اليدين والرجلين بسلاسل ثقيلة, ومؤلمة.
لكن انحيازه لحبه, ولقضية شعبه, استنهض صبره وجلده, ودفع ضريبة حبه الكبير للبحرين, ولجبهة التحرير الوطني البحرانية, معظم سنوات عمره, وبعد الإفراج عنه انضم للمنبر الدموقراطي التقدمي البحريني.
في منزله, أراني عصا مايسترو جميلة, نحت عليها رئيس فرقة السجن الموسيقية, إشادة رائعة, مفادها "أشهد أنك فنان عظيم", فمجيد قدم خدمات جليلة حتى وهو في سجنه, فقد جعل من زنزانته مدرسة لتعليم الموسيقى لحرس السجن وللمساجين, ووضع فيها مكتبة موسيقية ثرية, وعندما بني جسر الملك فهد, الموصل بين المملكة العربية السعودية والبحرين, استعانوا به لعمل التوصيلات الكهربائية, وكلما عبرت الجسر ونظرت إلى الأضواء, قلت هذا عمل مجيد.
كان يحمل في جوانحه تواضع المناضل والفنان العظيم, وعندما خرج من السجن, لم يضع حول نفسه هالة, وحاول كسب عيشه بعرق جبينه, فكان يعيش على راتب يفوق المئة دينار بقليل, ومعونه من الدولة, وهي مداخيل بالكاد توفي بحاجات أسرته في ظل غلاء هذا العصر.
واصل بعد خروجه, العمل على القاموس الموسيقي, الذي بدأ في جمعه عام 1975, والمكون من عدة مجلدات, وهو يعد عملاً فريداً من نوعه, في المكتبة العربية.
كان مجيد مرهون, مناضلاً من الزمن الجميل, لم تلوث عقله نزعات شخصانية, ولم تجرفه عن مبادئه صعوبات الحياة, أو كبر سنه, أو اليأس من التغيير والتقدم, الذي أصاب الكثيرين.
كان كبيراً في تواضعه وعطائه لوطنه وشعبه وفنه, ولذا كرمه جلالة ملك البحرين بوسام رفيع عام 2003, لأعماله الجليلة, وواجب حكومة البحرين ومجلسها النيابي, تسمية شارع أو معلم أو مسرح كبير باسمه, بعد أن ضحى بكل سنوات شبابه من أجل البحرين, ولكنه سيبقى في كل الأحوال, خالداً في قلوب البحرينيين وغيرهم.