Saturday, March 13, 2010

عازف الساكسفون



كان للتو قد خرج من السجن, كان ذلك في صيف 1990م, وعندما قلت له ممازحاً:
- "طولت علينا".
أجاب بحماس وروح إيجابية:
- "هذا واجبي".
عندما أفرج عنه بعد أكثر من اثنين وعشرين سنة, لم يستطع أن يتعرف على البحرين الجديدة, بشوارعها ومبانيها, التي تغيرت كثيراً منذ الستينيات, وكان الشيء الوحيد المألوف لديه, هي وجوه أصدقائه وأحبائه, ولكن بعدما عبث الزمن بأشكالها, وكان يظن أنه ظل صغيراً كما هو, وهم من تغيروا, لكن الزمن لم يكن ليستثني أحداً.
في بداية السبعينيات, وأثناء الدراسة في القاهرة, كان هناك بوستر معلق في مقر إتحاد الطلبة, لشاب أسمر يلبس بابيون, ورسم لقضبان تخرج من خلفها حمامات بيضاء, ولما سألت:
- من هذا؟
قيل لي:
- أنه مجيد مرهون.
وعندما قرأت قصة عازف الساكسفون, التي كتبها القاص البحريني المبدع محمد عبد الملك, في مجموعته القصصية "نحن نحب الشمس" عام 1975, لم أشك قط أنه كان يقصد مجيد مرهون, القابع في سجن جزيرة "جدا", في مقابل ساحل البديع, حيث ظل ما يقارب من الربع قرن, في هذه الجزيرة الموحشة, بعدما خرج منها جميع المعتقلين السياسيين, بمن فيهم شعراء وأدباء معروفين.
كانت تهمته هي مقاومة الاستعمار, أيام الحاكم العسكري البريطاني هندرسون, كان ذلك في عام 1968م, وظل وحيداً في سجن الجزيرة, إلا من الموسيقى التي تؤانس وحدته وخياله, ولأن طلبه في الحصول على آلة موسيقية رفض مرات عديدة, راح يؤلف الموسيقى بفمه, ويشكل إيقاعاتها بقبضته على الحائط, وكتبها على ما تيسر له من ورق, مثل ورق علب السجائر, والقراطيس المختلفة, وألف مقطوعات موسيقية, كانت تستعصي بعبقريتها, على خريجي معاهد الكونسرفتوار, كما اعترفوا بأنفسهم.
وشكلت معاناته ووحدته الموحشة, وخبر فقده لوالدته, حوافز شعورية وذهنية, مغلفة بشجن وحنين لجزيرة الأحلام, فكتب مقطوعة "ذكريات" ومقطوعة "نوستالجيا" أو حنين, ومقطوعة "أزميرالدا" المستوحاة من رواية أحدب نوتر دام, لفكتور هوجو, ومقطوعة "جزيرة الأحلام", ومقطوعات أخرى عديدة, وعندما هربت هذه الوريقات إلى خارج السجن, عزفتها الإذاعة السيمفونية في جمهورية ألمانيا الدموقراطية, واعتبر بعض المختصين في الأكاديمية الملكية السويدية, أعماله عبقرية.
يقول مجيد عن نفسه: أنه ولد في 17 أغسطس 1945, بعد اسبوع واحد على تفجير القنبلة الذرية على اليابان, مما جعل طقس الكرة الأرضية ساخناً جداً, ولد في حي "العدامة" الذي كانت بيوته من سعف النخيل, وعانى من الفقر والظلم, وعانى من التمييز في المدرسة, ثم دخل معهد شركة بابكو ليصبح فني كهرباء, وشكل فرقة "الزولوس", التي كانت تعزف في الأفراح والأعياد والمناسبات, وكان أول عازف ساكسفون في المنطقة, ولعل اختياره لهذه الآلة الحزينة ذات الشجن, جاء كعبير عن واقعه وأحاسيسه.
كان قد تشرب في بيته البسيط, ومنذ طفولته, الموسيقى الكلاسيكية العالمية, التي كان يسمعها من إذاعة الظهران, عبر الراديو الذي كان يعمل على البطارية الجافة, وقرأ كل ما وقعت عليه يده, من كتب حول الموسيقى الكلاسيكية العالمية, وحول الموسيقيين الخالدين.
وما لحنه للنشيد النضالي "طريقتا أنت تدري", إلا شكل من أشكال نضجه الموسيقي, وكان الشاعر المناضل أحمد الشملان, قد أكمل كلماته, وجاء الفنان سلمان زيمان ليكمل الباقي.
كان مجيد يعاني من صمم في إحدى أذنيه, البعض يقول بسبب من نفخه لآلة الساكسفون, وهو أمر مألوف عند عازفي آلات النفخ, والبعض يقول بسبب التعذيب الذي تعرض له, في بداية اعتقاله, لكنه شكل ظاهرة فريدة بين المعتقلين العرب, إذا قضى محكوميته المؤبدة كاملة, ولم ينافسه في طول سجنه, سوى نيلسون مانديلا الذي قضى أكثر من سبع وعشرين سنة في المعتقل, ولذا سمي مجيد مرهون "مانديلا البحرين", أو "ماجدلا".
عندما اعتقل, كان قد أعد له ضابط الاستخبارات البريطاني أيان هندرسون, محاكمة صورية, لم تستغرق سوى نصف ساعة, وحكم عليه حكمين, الأول مؤبد والثاني لمدة عشر سنوات, ووضعوه في زنزانة انفرادية لسنوات, وهو مقيد اليدين والرجلين بسلاسل ثقيلة, ومؤلمة.
لكن انحيازه لحبه, ولقضية شعبه, استنهض صبره وجلده, ودفع ضريبة حبه الكبير للبحرين, ولجبهة التحرير الوطني البحرانية, معظم سنوات عمره, وبعد الإفراج عنه انضم للمنبر الدموقراطي التقدمي البحريني.
في منزله, أراني عصا مايسترو جميلة, نحت عليها رئيس فرقة السجن الموسيقية, إشادة رائعة, مفادها "أشهد أنك فنان عظيم", فمجيد قدم خدمات جليلة حتى وهو في سجنه, فقد جعل من زنزانته مدرسة لتعليم الموسيقى لحرس السجن وللمساجين, ووضع فيها مكتبة موسيقية ثرية, وعندما بني جسر الملك فهد, الموصل بين المملكة العربية السعودية والبحرين, استعانوا به لعمل التوصيلات الكهربائية, وكلما عبرت الجسر ونظرت إلى الأضواء, قلت هذا عمل مجيد.
كان يحمل في جوانحه تواضع المناضل والفنان العظيم, وعندما خرج من السجن, لم يضع حول نفسه هالة, وحاول كسب عيشه بعرق جبينه, فكان يعيش على راتب يفوق المئة دينار بقليل, ومعونه من الدولة, وهي مداخيل بالكاد توفي بحاجات أسرته في ظل غلاء هذا العصر.
واصل بعد خروجه, العمل على القاموس الموسيقي, الذي بدأ في جمعه عام 1975, والمكون من عدة مجلدات, وهو يعد عملاً فريداً من نوعه, في المكتبة العربية.
كان مجيد مرهون, مناضلاً من الزمن الجميل, لم تلوث عقله نزعات شخصانية, ولم تجرفه عن مبادئه صعوبات الحياة, أو كبر سنه, أو اليأس من التغيير والتقدم, الذي أصاب الكثيرين.
كان كبيراً في تواضعه وعطائه لوطنه وشعبه وفنه, ولذا كرمه جلالة ملك البحرين بوسام رفيع عام 2003, لأعماله الجليلة, وواجب حكومة البحرين ومجلسها النيابي, تسمية شارع أو معلم أو مسرح كبير باسمه, بعد أن ضحى بكل سنوات شبابه من أجل البحرين, ولكنه سيبقى في كل الأحوال, خالداً في قلوب البحرينيين وغيرهم.


No comments: