Sunday, February 28, 2010

افكار مسبقة


قرأت للكاتب الصديق حسن العيسى, في جريدة القبس الصادرة يوم 17 فبراير 2010م, مقالاً لطيفاً بعنوان "ماذا لو", مفاده ماذا لو كان عقار البروزاك, والمضاد للاكتئاب, كان موجوداً في القرن التاسع عشر أو قبله, وماذا لو تناوله جميع المبدعين والمفكرين, من أدباء ورسامين وشعراء في تلك العصور, فهل سنحصل نتيجة تعاطيهم له, على إبداعاتهم العبقرية, وروائعهم الخالدة؟
وبالطبع, يشير العيسى بوعي وواقعية, إلى ما قرأه في كتاب الطبيب النفسي "بيتر كارمن" المعنون "ضد الاكتئاب", أن هؤلاء المبدعين, كانوا سينتجون هذه الأعمال الخالدة, حتى وإن تناولوا البروزاك, والدليل أن هناك مبدعين عظام في التاريخ, قدموا أعمالاً صنعت فرقاً في وعينا, وفي التاريخين الأدبي والسياسي, رغم أنهم لم يصابوا بالاكتئاب.
لدينا نحن البشر, وخاصة في المجتمعات غير المتقدمة, أفكاراً ومفاهيماً خاطئة ومسبقة, حول الكثير من الحقائق, بل وحتى بعد تغير هذه المفاهيم والأفكار, تظل عدوى الرأي والفكر والمصطلح, تسير بالدفع الذاتي, كسير العادة الأوتوماتيكي, ومثال لهذه الأفكار المسبقة, أن كل من يعمل في الشأن النفسي, مثل الأطباء والاختصاصيين النفسيون, هم بالضرورة معقدين, ومصابين بالأمراض النفسية, وترسم نموذج صورة الاختصاصي النفسي في الأذهان, وفي السينما أيضاً, بشعر منكوش ونظارات طبية سميكة, وسلوك غير مختل, ومن الأفكار المسبقة والتي تسمى بالإنجليزية Misconceptions, أي الاعتقادات الخاطئة, التي يتداولها البشر, ويورثوها دون تمحيص أو تحليل أوقياس.
وكذلك مثال لهذه الأفكار والقناعات الخاطئة, هو العلاقة الطردية بين الفقر والمعاناة, وبين الإبداع, فيعتقد أنه كلما زادت معاناة الإنسان, كلما أبدع أكثر, وهو بالتأكيد اعتقاد خاطئ, بل ثبت أنه كلما استقر الإنسان في معيشته, وفي أفكاره ومشاعرة, كلما أبدع براحة أكثر, وهناك الكثير من القناعات التي استمرت لآلاف من السنين بين البشر, مثل عدم قدرة الإنسان على تغيير مصيره وظروفه وطباعه, بل أثبت العلم وبما لايدع مجالاً للشك, أن الإنسان يستطيع وفي أي مرحلة عمرية, تغيير مصيره وطباعه وظروفه, بتغيير ثلاثة اشياء رئيسية, تتغير بعدها شخصيته وظروفه, وهي أفكاره ومشاعره وعاداته الذهنية والسلوكية, أو نمط حياته, أما الأشياء التي لا نستطيع تغييرها, مثل الأب والأم, وغيرها فالإنسان يتعامل معها بواقعية وبهدوء واسترخاء, أي يتقبلها, ويتعايش معها, بما يسمى التكيف, وهو أحد القدرات البشرية التي تميزه.
المبدع, هو إنسان "حساس" بالتعبير الشعبي, وبالتعبير العلمي, أي أن استجاباته لما يحدث في الواقع, أو لما في داخل نفسه, استجابات حادة ومتضخمة, وأستخدم هذه الاستجابات البصرية والسمعية والحسية, بشكل مبتكر وخلاق, بينما تشكل هذه الحساسية لغير المبدعين, مشكلات نفسية, حتى يتم تعديل هذه الاستجابات, لتصبح أكثر عقلانية وواقعية, كما أن للإبداع ظروفه الذاتية والموضوعية, أو البيئية, بينما يختفى آلاف وملايين المبدعين, بسبب ظروفهم البيئية والاجتماعية, وأيضاً بسبب الأفكار والقناعات الخاطئة, مثل أن يكون الشعر غواية, والإبداع صنو الجنون, والاكتئاب يولد الإبداع.
الفكر والوجدان الإبداعي, هو طليعي وسابق للأفكار المجتمعية, أو الضمير الجمعي, وتضاده مع المجتمع, هو تضاد تاريخي بين التقدم والتخلف, ورفض للقيود المجتمعية, وجرأة على انتقادها, وخروجاً على سلطتها, بأشكال مختلفة, قد يكون بعضها سلبياً, مثل الإدمان.
لكن المجتمعات استطاعت تدجين العديد من المبدعين, الذين خشوا من رفض المجتمع لهم, وهربوا من عزلتهم الفكرية والشعورية, بإلغاء موقفهم الرافض للمجتمع, ونافقوا هذا المجتمع, كي يعيشوا بسلام, ولكي لا يتهموا بالشذوذ والخروج عن المألوف, وهذا يسبب شعوراً بالضدية مع الذات, وهو أحد عوامل المشكلات النفسية, ومن ضمنها الاكتئاب, لكن البعض الآخر انسجم مع قناعاته, ورفض الخضوع للسائد, فتعرض للنبذ أو الاستهجان, وأيضاً هذا الصراع يسبب المشكلات النفسية, واليأس أحياناً, وأحياناً يتبدى هذا الخروج الشكلي عن المألوف بطريقة اللباس, أو مثلاً إطالة الشعر عند الرجل المبدع, عندما يكون ذلك غير مألوف في المجتمع, وتلك أبسط أنواع التمرد, وهكذا.
إن أكثر ما يصيب المبدع بالاكتئاب, هو فقدانه لحريته الشخصية, وعدم فهم المجتمع له, وعيشه بتناقض بين رضاه عن نفسه, ورضا المجتمع عنه, ورغم أن هذا التناقض موجود على مر العصور, وعند جميع الشعوب, إلا أنه يتضح أكثر في المجتمعات المتخلفة, فبدلاً من أن يقدر له إبداعه وطليعيته, يرمى بسهام النبذ والاستهجان.
هذا الموضوع يحتمل كلاماً كثيراً, ليس مجاله مقال قصير, ولكن بشكل عام, الأفكار المسبقة, هي أحد أسباب تخلفنا, وعدم التعامل مع التعلم بعقل مفتوح ومتسامح وبحسن ظن.

No comments: