Sunday, March 29, 2009

نوروز




دعيت يوم الجمعة 20 مارس الجاري للغداء, في بيت أسرة إيرانية, حيث صادف اليوم دخول السنة الفارسية, وفي تمام الساعة الثالثة إلا ربعاً عصر ذلك اليوم, وحسب التقويم الفارسي, تم بدء العام الجديد, وهو ما يسمى بعيد نوروز, أو عيد الربيع الذي يوليه الإيرانيون والأكراد والتاجيك والأفغان وغيرهم من الشعوب الشرقية, توليه اهتماماً خاصاً.
ويبدأ الاحتفال بتحضير سفرة "هفت سين" أي سبعة أصناف يبدأ اسمها بحرف السين, مثل البيض الملون, والسمك الحي في الماء, والتفاح, والخضرة وغيرها, وقبل دقائق من بدء نوروز, يقرأ أحدهم أدعية إسلامية, تبدأ بيا مثبت القلوب إلى آخره, ثم تبدأ التباريك والتمنيات بعام سعيد, وتوزع العيادي.
وكطقس حضاري قديم, لابد وأن يكون هناك ما يشابهه من احتفالات في الحضارات الأخرى, وبقليل من البحث, وجدت أنه في الحضارتين البابلية والسومرية, أن عشتار آلهة الخصب والمخطوبة إلى تموز إله الخضرة, قررت النزول إلى العالم السفلي, فتوقف الخصب, فابتهل الناس إلى الإله الأكبر "أنكي", بأن تعود عشتار إلى الأرض, على أن ينزل بديل لها أسفل الأرض, وافق الإله فأخرج عشتار وأنزل تموز بديلاً عنها, فاختفت الخضرة من على الأرض, فابتهل الناس للإله بأن يرجع تموز إلى الأرض, فاتفق معهم بأن يخرج تموز ستة أشهر, ويعيده للأسفل ستة أشهر, فيخرج لينشر الربيع, ويعود للأسفل فيختفي الربيع, وهذه قصة مختصرة لأصل الاحتفال عند البابليين والسومريين.
ولكن المصريين أيضاً يحتفلون بعيد الربيع, ويقال أنه وجد قبل الأسرات الحاكمة, والبعض يقول أنه بدأ في أواخر الأسرة الفرعونية الثالثة, أي قبل 5000 سنة, وكان الاحتفال معروفاً في مدينتي هليوبليس و أوان, وأطلق عليه الكلمة الفرعونية "شمو", وتعني بعث الحياة, واعتقدوا أنه أول الزمان, حيث يتساوى الليل بالنهار, وقت حلول الشمس في برج الحمل, ثم مع مرور الزمن تغير اسم العيد, إلى شم النسيم, وتمارس فيه نفس الطقوس وتؤكل أثناءه نفس الأطعمة, فيخرج الناس إلى الحدائق, ويأكلون البيض الملون, والسمك المملح, والخضروات.
ويتشابه هذا الاحتفال بطقوسه وزمنه, في رأس السنة العبرية ويسمى "باساتش", اي الخروج أو العبور, وهو اليوم الذي خرج فيه اليهود مع النبي موسى من مصر, كما في سفر الخروج, وكان اليهود بعد عبورهم, يسلقون البيض بالماء والملح, كرمز للحياة الجديدة.
ويسمى هذا الاحتفال عند الاقباط, "عيد القيامة" وهو في أول يوم أحد من شهر برمودة في السنة القبطية من كل عام, على اعتبار أن المسيح صلب يوم الجمعة, ثم بعث يوم الأحد في هذا التاريخ, وما زال المصريون مسلمين ومسيحيين, يحتفلون بهذا العيد حتى الآن.
ويسمى في الغرب المسيحي "الإيستر", وأيضاً يشترك بالطقوس وبالطعام مع الحضارات الأخرى, حيث البيض الملون أساسي في هذا الاحتفال, الذي يرمز مع بقية العناصر إلى الحياة والخصوبة والربيع والبعث.
وقد يكون الأمر أبعد من ذلك, فلدى القبائل الجرمانية, آلهة تسمى "إيسترومنت", وهي آلهة الربيع والخصب, ويستخدم مصطلح "إيسترس" في الطب أيضاً, تعبيراً عن الإخصاب ومراكزه.
ويتضح هنا, ان هناك معتقدات وطقوس مشتركة أو متوارثة, عند جميع الحضارات, مثل رش الملح أو الأرز على العروسين, ففي الحضارات القديمة كان ذلك لطرد الشياطين والجن, وكذلك البصق على الإنسان لحمايته من الحسد, وهو طقس من الحضارات البدائية, ولكن مع تغير أديان هذه الشعوب, واعتناقها لأديان سماوية, ظلت محتفظة بهذه الطقوس, مع تغليفها بغلاف ديني.
ويتضح كذلك أن للربيع مكانة خاصة, لدي جميع البشر, فهو ليس فقط الفصل الذي يعتمدون عليه في معيشتهم, حيث تونع الأشجار والثمار, وتتزاوج فيه الكائنات, ولكنه أيضاً يحمل طاقة إيجابية حسب علوم الفيزياء, فترتفع معدلات السعادة أثناءه, ويزداد التفاؤل بين الناس, وقد يكون ذلك لتعادل أيونات الجو الكهربية, مع أيونات أجساد البشر كما يقال.
لكن البعض يصر على التعاسة والحقد والكراهية, حتى مع تقديم الطبيعة له, فرصة لا تعوض للمحبة والسعادة.
فكل ربيع وأنتم بخير.

Sunday, March 22, 2009

أزمة تلد أخرى



عندما بحثت في الإنترنت عن جملة "أزمة تلد أخرى", وجدت الكثير من المواقع والروابط, التي كتبت فيها هذه الجملة, لكن الغريب أن معظم الكتابات كانت تتحدث عن الكويت, حتى تلك التي لا تعتبر وسائل إعلام أو مدونات كويتية, وهذا يشي بكل تأكيد على أن هناك فهم عام وإتفاق مشترك, على الوضع الكويتي.
والمتابع للشأن الكويتي, يجد أن الأزمات هي المانشيت الرئيسي للأوضاع فيها, وهي أزمة شاملة لكل جانب من جوانب الحياة, سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً, حتى يظن الإنسان أن دولة الكويت قد جرفت ومحيت, كما محيت على خريطة الاحتلال, بل أبان الاحتلال كان هناك توافق ووحدة بين الشعب, بممثليه وأفراده مع الحكم, بيد أن هذه الأزمة هي سقوط وانحدار لكل شيء.
ولانعلق اللوم على طرف دون آخر, بل لا نستثني أحداً سواء كان حسن النية أم سيئها, فأعضاء مجلس الأمة بتركيبته المعادية لمصالح الشعب, وخصوصاً الإسلاميين منهم, جاء بسبب الدعم والرعاية الذي حصلوا عليه من الحكومة, قبل ثلاثين عاماً, والحكومة هي المسئولة الأولى عن هذا الخلل الاجتماعي والسياسي, هي المسئولة عن تسمين هذه الفئة, وليست الطبقة, لأنها لا ترقى بأن تكون طبقة اجتماعية, وأصبح التنفيع والفساد واستغلال أموال الدولة وأراضيها في الأوج, وأصبحت اللحية جواز مرور للثراء غير المشروع, وتهديد أركان الدولة, وأمنها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي, ورغم أن هذه الفئة تعرف تماماً أنها أصبحت مكشوفة للشعب, إلا أنها استمرأت واستقوت على كل سلطة وقانون في البلد, واحتقرت علم البلاد ونشيده الوطني, وتجرأت على الولاء الوطني بازدواج الجنسية, وطالبت بتحويل المخلصين من أبناء البلد, وأبطال المقاومة ضد الاحتلال الغاشم إلى النيابة, فقط لأن هؤلاء المخلصين طبقوا القانون, كما يجب على الكويتيين.
ولكن الحكومة التي تعرف أين موضع الخلل, تخاذلت أمام هذه الفئة, وفقدت هيبتها, فأصبح كل مجرم يحظى بحماية بعض النواب, أي جريمة سرقة أو هتك عرض أو الاتجار بالمخدرات, هي جرائم مباحة بحكم قانون نواب وصلوا إلى البرلمان بجريمة.
وأصبحت الحيلة والتهديد والخطاب المتدني, والألفاظ النابية هي وسائل أعضاء مجلس الأمة للوصول إلى غاياتهم الشخصية, ألغو الحكومة والشعب من حساباتهم, وخالفو الدين والدستور من أجل شعارات دينية يرفعونها.
والحكومة في سبيل إرضاء هذه الفئة, تخلت عن مشاريع التنمية والإصلاح, واندفعت بجسدها نحو السيف, وتحولت الحكومة إلى جدار واطئ, الكل يعبر عليه, حتى أصبح يحق لهذه الفئة ما لايحق للشعب, يرقصون ويفرحون, ويحرمون على الشعب الاحتفال بعيده الوطني ويوم التحرير, يصادرون حريات الناس, ويفعلون ما يحلو لهم, يحرمون التعليم المشترك, ويصافحون إمرأة أمريكية.
وأياً كان تبرير الناس لانتخاب هذا المجلس, فهم غير بعيدين عن اللوم لهكذا اختيار, سواء كانت الدوافع خدمات أم قبلية أم طائفية, فهذه اختيارات غير وطنية, لا تصب في مصلحة الوطن, لكننا نعود للسبب الأساسي, وهو تصرف الحكومة قبل ثلاثين عاماً.
وإذا كان الناس بسطاء, قد تغيب عنهم الحقيقة, ماذا يعتري الحركة الوطنية ورجالاتها, لماذا ما زالت تعيش في وهم التحالف مع هذه الفئة؟ ألم تتعلم من دروس أيام الاثنينات ونبيها خمس؟ هل يعقل أن هذه الشخصيات الوطنية, ما زالت تعتقد أن هناك مصلحة مشتركة مع هذه الفئة؟! والتي أثبتت مع الزمن أنها تعتلي على ظهر الحركة الوطنية, للوصول إلى غاياتها الخاصة, هل تعتقد الشخصيات الوطنية, أن هذه الفئة تؤمن بالدستور وبالدمقراطية؟
هل شاخت رموز الحركة الوطنية, أو بعضها على الأقل, لتكرر أخطاءها بالتحالف مع الانتهازية؟ ألا يعتبر ذلك انحرافاً سياسياً؟ أو على الأقل تخبطاً سياسياً؟ من نعول عليه لإنقاذ الوطن, بعدما ضاعت بوصلة الوطن؟
بالفعل, أزمة تلد أخرى, لكنها لم تبدأ اليوم, بل أصبحت أجيالاً من الأزمات, والحل بالرجوع إلى البدايات.

Sunday, March 15, 2009

ترجل عن صهوة الفن



رحل عنا قبل أيام الفنان التشكيلي الكويتي بدر القطامي, وهو من الفنانين الذين تعتز الكويت بإنجابهم وعطائهم الفني, رحل المرحوم بدر القطامي, بعد رحلة طويلة مع المرض.
والقطامي الذي لقب بفنان الديرة, اهتم بشكل خاص بالتسجيل والنقل من البيئة الكويتية القديمة, كانت لوحاته أشبه بنوستالجيا وشجن للماضي, وكانت كذلك توجهاً للتوثيق والحفاظ على المفردات التراثية الشعبية, وهو بذلك يشترك مع الفنانين التشكيليين التسجليين, مثل أيوب حسين, وحسين مسيب, ومحمود الرضوان, رغم أنه من جيل أحدث من جيل بعضهم.
وغياب هذا الفنان, يعتبر رحيل آخر لمبدع من مبدعي الكويت, الذين ترجلوا عن صهوة الساحة الأدبية والفنية, بعد عطاء غير محدود وغير مشروط للفن والوطن, رحل تاركاً إرثه الإبداعي لتاريخ ومسيرة الفن التشكيلي الكويتي.
وفي رسومات القطامي, لا نلمس أثراً للمدارس الفنية الحديثة, ولكننا نلمس بكل وضوح الحرص على التصوير الواقعي, الذي سيكون له الأثر الكبير, في حفظ وتخزين وتوثيق المشهد التراثي, للأجيال القادمة, التي قد يفوت على وعيها تفصيلات كويت الماضي, كما فعل الفنان أيوب حسين, عندما وثق بشكل مبدع حولي, ببيئتها المميزة, المتناقضة شكلاً ومضموناً مع حولي الآن, وكما فعل الفنان حسين مسيب, عندما سجل لحظات تاريخية, بشخصيات ماضوية, مثل الشاوي والحمالي وعامل البناء والصباغة وغيرها.
لكل مدرسة فنية دور أساسي وضروري في حياة الإنسان, وللتصوير التسجيلي الواقعي, دور اجتماعي وسياسي وعمراني هام, فقد عرفنا جوانب وتفصيلات كثيرة, عن أوربا وأسيا في العصور القديمة, من خلال الفن التشكيلي, وما نقله لنا من فنون الهندسة المعمارية, والحياة الإجتماعية, والحروب, وهموم الناس السياسية, والثورات في تاريخ البشرية.
وقد اهتمت الكويت, في عصرها الذهبي, الذي قدرت فيه الفنون والآداب, اهتمت بالفن التشكيلي, وأتاحت المكان وأدوات الرسم والنحت, وكذلك التوجيه والمعارض, من خلال تأسيس المرسم الحر, الذي كان بدر القطامي أحد مؤسسيه, وكان للفنان التشكيلي مكانة في اهتمام الدولة ورعايتها, ومكانة في قلوب الكويتيين الذين كانوا يتابعون المعارض التشكيلية, وأولها معارض الربيع, وأنشأت صالات العرض الفني, وجمعية الفنانين التشكيليين الكويتيين.
هذا الاهتمام تقلص بسبب المد الرجعي, الذي طغى على الشخصية الكويتية ومنجزاتها الفنية والأدبية, وقضى على آمالها بنهضة ثقافية, مستندة إلى تراث عريق من الانفتاح والعصرنة, والتي بدأت منذ منتصف القرن الماضي.
إن كل رحيل لفنان أو أديب كويتي, هو حدث حزين وخسارة ثقافية, تذكرنا بفقد هويتنا حجراً حجراً, تلك الهوية التي بدأ ببنائها الأجداد, وبدأ بتقويضها دعاة التخلف ومساجد "الشينكو", فغابت صورة شارع الجهرا "فهد السالم", وثانوية شويخ وأبراج الكويت, غابت من الأذهان رموز الجمال العمراني, لتحل محلها رموز مباني الصفيح على أرض الكويت, غاب صناع الجمال من الفنانين, ليحل محلهم صناع القبح والبشاعة, على وجه وطن الجمال والفن, غابت دولة القانون والمؤسسات الحديثة, لتحل محلها دولة محاكمة القوانين وانتهاك الدستور واهانته.
رحل بدر, وسيرحل بعده بناة الجمال, سيرحل الحالمون بوطن عزيز, وبعزة الوطن, رحل بدر وفي قلبه غصة على تشويه السور باللون الأسود, وعلى تلويث الخليج -مانح المحار والردى لرجاله- بالقبح والبشاعة, رحل بدر وأخذ معه ألوان البلد.
وداعاً بدر.

Sunday, March 8, 2009

الحرية الداخلية والحرية الخارجية




نشرت صحيفة أوان في عددها الصادر يوم الأربعاء 4 مارس الجاري, موضوعاً بعنوان "second life, هوس جديد يصيب الشباب", وهو برنامج في شبكة الإنترنت, أطلقه فليب لندلان عام 2003م, وهو عبارة عن حياة موازية, يختارها الشاب أو الشابة, وينشئ لنفسه أو تنشئ لنفسها عالماً آخر, يختلف عن العالم المعاش, وفيه يختار الشاب الوظيفة والدراسة والسكن والاستثمار المناسب, ويمارس أفكاره وشعائره الدينية, ويسافر من خلاله إلى أماكن سياحية.
وهذا العالم الموازي يشبه عالمنا الحقيقي, ففيه بطاقات هوية, ومكاتب توثيق السكان, ونظامه الاقتصادي هو النظام المالي العالمي, اذا يبيع ويشتري سكانه من بعضهم, بعملة تسمى "دولار ليندن".
ويعبر بعض المشتركين في هذا البرنامج, عن سعادتهم وشعورهم بالأمان والسلام, مع زملائهم من الجنسيات الأخرى, وعن تحقيق طموحاتهم, وحرياتهم في التعبير عن الرأي, والانتقاد, وحسب الجريدة فقد بلغ عدد المشاركين في البرنامج أكثر من 13 مليون شاب.
وهناك برامج أخرى, تتيح للمشترك إنشاء نظام سياسي, ووضع دساتير وسن قوانين, وإقرار أعياد بما فيها اليوم الوطني لنظامه السياسي, وله أن يكون عضواً في الأمم المتحدة, ويناقش سياسات الدول الأخرى.
وقد يبدو الأمر مجرد ألعاب إلكترونية, ولكنه في الواقع يعكس خيبة أمل الشباب من أنظمتهم السياسية, ومن واقعهم المعاش, فما لا يستطيعون قوله أو فعله في واقعهم, يستطيعون وضعه في هذه البرامج, فمعها يمارسون حرية داخلية, لا تشبه أحلام اليقظة, بل تشبه إلى حد كبير برلمانات الشباب.
وهناك فرق كبير بين الحرية الداخلية والحرية الخارجية, أو القيد الداخلي والقيد الخارجي, فالقيد الداخلي هو باختيارنا ورغبتنا, لكننا كبشر لدينا عقول مطلقة وغير محدودة, يختار لنا مجتمعنا وأسرنا قيودنا الداخلية, وتلك أحد أسباب مشكلاتنا النفسية, فقبل فعل أو قول أي شيء, نتساءل ماذا سيقول الناس, ونعطل الكثير من قدراتنا بسبب تربيتنا أحياناً, فنحن لا نسمح للطفل بأن يتحدث, طالما كان الكبار يتحدثون, وننهره ونقمعه, بطريقة جلوسه وكلامه, ونمنع الفتاة من الضحك أو حتى الابتسام أمام الرجال, رغم أنهم أطفال, فيكبر هؤلاء مقموعين مقيدين بقيود وأصفاد داخلية.
ورغم أن المجتمعات تتفاوت في قيمها, فالقيم نسبية, مثل الخطأ والخطيئة نسبيتان, تختلف عند الشعوب والأسر والمجتمعات, إلا أن الحدود الذهنية تتسع وتضيق, حسب تقدم المجتمع وتحضره, ففي بعض المجتمعات المتخلفة أصبحت الحدود الذهنية أضيق بكثير من منجزات العصر العلمية والإنسانية والاجتماعية, وهذه المجتمعات تعاقب محاولات التحرر الذهني بقسوة.
ولعل إندفاع الشباب المغرر بهم, لقتل أنفسهم وغيرهم, ما هو إلا تعبير عن محاولة الانعتاق والتحرر من القيود الذهنية, وهذا الانتحار سواء كان مبرراً بالدين, أو غير مبرر, هو شكل من أشكال الحالات المرضية, مثل الاكتئاب الشديد الذي يؤدي إلى الانتحار, وهو ما يسمى بالاكتئاب الانتحاري.
ليست الأشياء الملموسة, والتي نعرفها هي كل الحقيقة, ولا الأشياء التي نعرفها عن أنفسنا تعكس حقيقتنا أو امكانياتنا الكامنة, فإمكانات الإنسان المتمثلة بالخيال والتركيز والذكاء, واستخدامها كمعادلة أو وصفة, تتيح لنا الخفي من الحقيقة, ولذا فالحدس أصدق وأقوى من المنطق, والمجاز في اللغة أقوى من الدلالة.
ولا يمكن سجن حرية الإنسان الداخلية, إلا برغبته, فقد يكون هناك سجين خلف القضبان, لكنه حر في داخله, وأفكاره ومشاعره تنطلق من خلف القضبان, بالضبط مثل سجين الرأي الذي يظل يحتفظ برأيه.
جزء كبير من المشكلات النفسية والاجتماعية والأسرية, سببها محاولات فرضنا لنمط معين من التفكير والحياة على الآخرين, وخاصة أطفالنا, وكبح حرياتهم الداخلية, ولذا يعيش الكثير من الناس بتناقضات, فهو شخص مع نفسه وشخص آخر مع غيره, والظاهرة السلبية أن الإنسان يتخلى عن حريته الداخلية كلما كبر في السن, ويتنصل من انفتاحه الشبابي, وكأنه يستسلم لقيود المجتمع, لكن العكس هو الطبيعي, لأن الإنسان كلما كبر, ازادت خبرته وبالتالي تقديره للحرية الداخلية, ولذا تأتي الحكمة في الكبر.
فهل سيصبح هناك توازن وتوافق في المستقبل, بين الحرية الداخلية وبين الواقع المعاش؟ في ظني إذا حدث ذلك فسيختفي معظم الشقاء النفسي, إذا تحرر الإنسان من العيش بالماضي, والقلق على المستقبل, امتلك حريته الداخلية.
وهذا ما يبحث عنه الشباب في تلك البرامج, ففيها يمارسون حريتهم الداخلية, فهم لا يفكرون ويشعرون دون علم الآخرين فقط, ولكنهم يفعلون كذلك ما يحلو لهم, دون إساءة إلى مشاعر أحد.