Sunday, March 8, 2009

الحرية الداخلية والحرية الخارجية




نشرت صحيفة أوان في عددها الصادر يوم الأربعاء 4 مارس الجاري, موضوعاً بعنوان "second life, هوس جديد يصيب الشباب", وهو برنامج في شبكة الإنترنت, أطلقه فليب لندلان عام 2003م, وهو عبارة عن حياة موازية, يختارها الشاب أو الشابة, وينشئ لنفسه أو تنشئ لنفسها عالماً آخر, يختلف عن العالم المعاش, وفيه يختار الشاب الوظيفة والدراسة والسكن والاستثمار المناسب, ويمارس أفكاره وشعائره الدينية, ويسافر من خلاله إلى أماكن سياحية.
وهذا العالم الموازي يشبه عالمنا الحقيقي, ففيه بطاقات هوية, ومكاتب توثيق السكان, ونظامه الاقتصادي هو النظام المالي العالمي, اذا يبيع ويشتري سكانه من بعضهم, بعملة تسمى "دولار ليندن".
ويعبر بعض المشتركين في هذا البرنامج, عن سعادتهم وشعورهم بالأمان والسلام, مع زملائهم من الجنسيات الأخرى, وعن تحقيق طموحاتهم, وحرياتهم في التعبير عن الرأي, والانتقاد, وحسب الجريدة فقد بلغ عدد المشاركين في البرنامج أكثر من 13 مليون شاب.
وهناك برامج أخرى, تتيح للمشترك إنشاء نظام سياسي, ووضع دساتير وسن قوانين, وإقرار أعياد بما فيها اليوم الوطني لنظامه السياسي, وله أن يكون عضواً في الأمم المتحدة, ويناقش سياسات الدول الأخرى.
وقد يبدو الأمر مجرد ألعاب إلكترونية, ولكنه في الواقع يعكس خيبة أمل الشباب من أنظمتهم السياسية, ومن واقعهم المعاش, فما لا يستطيعون قوله أو فعله في واقعهم, يستطيعون وضعه في هذه البرامج, فمعها يمارسون حرية داخلية, لا تشبه أحلام اليقظة, بل تشبه إلى حد كبير برلمانات الشباب.
وهناك فرق كبير بين الحرية الداخلية والحرية الخارجية, أو القيد الداخلي والقيد الخارجي, فالقيد الداخلي هو باختيارنا ورغبتنا, لكننا كبشر لدينا عقول مطلقة وغير محدودة, يختار لنا مجتمعنا وأسرنا قيودنا الداخلية, وتلك أحد أسباب مشكلاتنا النفسية, فقبل فعل أو قول أي شيء, نتساءل ماذا سيقول الناس, ونعطل الكثير من قدراتنا بسبب تربيتنا أحياناً, فنحن لا نسمح للطفل بأن يتحدث, طالما كان الكبار يتحدثون, وننهره ونقمعه, بطريقة جلوسه وكلامه, ونمنع الفتاة من الضحك أو حتى الابتسام أمام الرجال, رغم أنهم أطفال, فيكبر هؤلاء مقموعين مقيدين بقيود وأصفاد داخلية.
ورغم أن المجتمعات تتفاوت في قيمها, فالقيم نسبية, مثل الخطأ والخطيئة نسبيتان, تختلف عند الشعوب والأسر والمجتمعات, إلا أن الحدود الذهنية تتسع وتضيق, حسب تقدم المجتمع وتحضره, ففي بعض المجتمعات المتخلفة أصبحت الحدود الذهنية أضيق بكثير من منجزات العصر العلمية والإنسانية والاجتماعية, وهذه المجتمعات تعاقب محاولات التحرر الذهني بقسوة.
ولعل إندفاع الشباب المغرر بهم, لقتل أنفسهم وغيرهم, ما هو إلا تعبير عن محاولة الانعتاق والتحرر من القيود الذهنية, وهذا الانتحار سواء كان مبرراً بالدين, أو غير مبرر, هو شكل من أشكال الحالات المرضية, مثل الاكتئاب الشديد الذي يؤدي إلى الانتحار, وهو ما يسمى بالاكتئاب الانتحاري.
ليست الأشياء الملموسة, والتي نعرفها هي كل الحقيقة, ولا الأشياء التي نعرفها عن أنفسنا تعكس حقيقتنا أو امكانياتنا الكامنة, فإمكانات الإنسان المتمثلة بالخيال والتركيز والذكاء, واستخدامها كمعادلة أو وصفة, تتيح لنا الخفي من الحقيقة, ولذا فالحدس أصدق وأقوى من المنطق, والمجاز في اللغة أقوى من الدلالة.
ولا يمكن سجن حرية الإنسان الداخلية, إلا برغبته, فقد يكون هناك سجين خلف القضبان, لكنه حر في داخله, وأفكاره ومشاعره تنطلق من خلف القضبان, بالضبط مثل سجين الرأي الذي يظل يحتفظ برأيه.
جزء كبير من المشكلات النفسية والاجتماعية والأسرية, سببها محاولات فرضنا لنمط معين من التفكير والحياة على الآخرين, وخاصة أطفالنا, وكبح حرياتهم الداخلية, ولذا يعيش الكثير من الناس بتناقضات, فهو شخص مع نفسه وشخص آخر مع غيره, والظاهرة السلبية أن الإنسان يتخلى عن حريته الداخلية كلما كبر في السن, ويتنصل من انفتاحه الشبابي, وكأنه يستسلم لقيود المجتمع, لكن العكس هو الطبيعي, لأن الإنسان كلما كبر, ازادت خبرته وبالتالي تقديره للحرية الداخلية, ولذا تأتي الحكمة في الكبر.
فهل سيصبح هناك توازن وتوافق في المستقبل, بين الحرية الداخلية وبين الواقع المعاش؟ في ظني إذا حدث ذلك فسيختفي معظم الشقاء النفسي, إذا تحرر الإنسان من العيش بالماضي, والقلق على المستقبل, امتلك حريته الداخلية.
وهذا ما يبحث عنه الشباب في تلك البرامج, ففيها يمارسون حريتهم الداخلية, فهم لا يفكرون ويشعرون دون علم الآخرين فقط, ولكنهم يفعلون كذلك ما يحلو لهم, دون إساءة إلى مشاعر أحد.

No comments: