Monday, December 24, 2007

كنوز ضائعة




أذكر أنني عندما انتقلت إلى بيتي الحالي في منتصف التسعينيات, اتصلت بشركة لنقل الأثاث, وفوجئت عندما ذهبت إلى بيتي القديم للإشراف على نقل محتويات المنزل, بأن العمال كانوا يضعون كتبي في صرر كبيرة من ملاءات السرير ويربطونها على شكل "بقجة" ويجرجرونها على الأرض بكل إهمال, ثم يقذفون بها في الشاحنة دون رحمة, انفعلت وتجادلت مع المسئول ورفضت إتمام الأمر معهم, ففوجئت به يقول لي: "شدعوه..كلها كتب" ثم أردف: "مضيعين فلوسكم كلها على الكتب..كتبكم أكثر من أثاثكم", كان مستنكراً غضبي على طريقة تعامله مع كتبي وكأنها شئ بلا قيمة, ومستنكراً أكثر إنفاقي نقوداً لشرائها, وهذا جعلني أفكر بمصير مكتبتي الصغيرة بعدما أرحل من هذه الدنيا.
في الكويت هناك مكتبات خاصة ثمينة للغاية, بذل أصحابها كثيراً من الوقت والجهد والمال لجمعها, وربما قضوا معظم سنوات عمرهم في جمعها, وهذه المكتبات الشخصية لها قيمة معنوية عالية لدى أصحابها, لكنها في الكويت تحديداً تضيع برحيل أصحابها.
عبر تاريخ الكويت هناك شخصيات أدبية وفكرية وثقافية رحلت أو ما زالت على قيد الحياة, تملك كنوزاً من الكتب والمخطوطات لها قيم تاريخية وفكرية, وبعضها من النوادر التي تشكل ثروة لا تقدر بثمن, وبعضها طبعات قديمة, هذا عدا عن المخطوطات التراثية والملفات والملحوظات.
ووجود هذه المكتبات في بيوت بعض الأسر الكويتية, أتاح لبعض أبنائها الاهتمام بالثقافة والقراءة والاطلاع, لكنها في كثير من الأحيان لا تشكل أدنى قيمة لدى الأبناء خاصة بعد رحيل صاحبها, فأما أن تضيع وتتشتت, أو تتلف أو يستولي عليها أحد, لكن ذلك في المحصلة ضياع لجهد صاحب المكتبة وضياع لكنز من كنوز المجتمع والأجيال القادمة.
وهناك أمثلة لمبادرات لحفظ بعض المكتبات, مثل مكتبة أحمد البشر الرومي رحمه الله الذي تبرع بمكتبته للدولة, وبالفعل المكتبة الآن في مكتبة الكويت الوطنية التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, كذلك مكتبة الأستاذ عبد العزيز حسين ومكتبة الأستاذ عبد الرزاق البصير اللتان يحتفظ بهما المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في مركز عبد العزيز حسين الثقافي.
لكن تظل مشكلة المكتبات الخاصة في الطرفين, ورثة صاحب المكتبة وأجهزة الدولة المتخلفة ببيروقراطيتها وبطئها وعدم اهتمامها, فمثلاً بعد وفاة الأديب الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري, أقترح صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الصباح بأن يخصص مبنى في الشامية كمركز ثقافي لعبدلله زكريا تنقل إليه مكتبته الضخمة والقيمة, أو يعاد تأهيل مكتبة الشامية العامة والمقرات القديمة الملاصقة لها مثل مستوصف الشامية الذي بني بديل عنه, ومبنى البلدية, لكن ورغم أنها رغبة أميرية إلا أن أجهزة الدولة لم تخط خطوة باتجاه تنفيذها, مما يعرض هذه المكتبة القيمة للتلف أو الضياع مع مرور الزمن.
وهذا ينطبق على مكتبة المرحوم الأستاذ حمد الرجيب, التي تقبع الآن في كراتين, هذه المكتبة التي عاينتها شخصياً أثناء حياة الأستاذ حمد وبعد وفاته عام 1998م, تحوي كنوزاً من الكتب والتسجيلات النادرة, وكان قد أخبرني الأستاذ حمد أن بعضها لا يوجد له مثيل في العالم, إضافة إلى المخطوطات والنوت الموسيقية التي كتبها بيده, والتي قضى عمره كله في جمعها والحفاظ عليها حتى أثناء الاحتلال, وكان يقضي وقتاً ليس بالقليل في هذه المكتبة في سرداب بيته, يعزف ويلحن ويقرأ ويستمع إلى التراث الموسيقي الراقي.
بعد وفاة حمد الرجيب مباشرة خاطب المجلس الوطني عائلة حمد الرجيب بكتاب رسمي, طالباً الموافقة على جرد محتوياتها ونسخ التسجيلات الموسيقية, تمهيداً للاحتفاظ بها في مكتبة الكويت الوطنية, لكن هذا الأمر لم يتم لأسباب مختلفة.

وهذا ينطبق على مكتبات قيمة لشخصيات لعبت دوراً تاريخياً في الثقافة الكويتية, مثل مكتبة الفنان يوسف دوخي الموجودة في المعهد العالي للفنون الموسيقية, والتي تسرب منها بعض المقتنيات, ولا نعلم عن بقية مقتنياتها الثمينة, وكذلك مكتبة المؤرخ حمد الحاتم صاحب كتاب "من هنا بدأت الكويت", والتي حسب ظني ما زالت موجودة في بيته, إضافة الكثير من الوثائق والمخطوطات الموجودة في بيوت أهل الكويت, والمعرضة للتلف والضياع مع مرور الزمن.
ستظل هذه الكنوز ضائعة حتى تتخذ الدولة موقفاً جاداً تجاهها, وعندما أتحدث عن الدولة لا أتحدث عن الأجهزة البيروقراطية المتخلفة, فلا يمكن التعويل عليها لإنجاز هذا الهدف السامي, كما أن إصلاح هذه المؤسسات لا يبدو في الأفق هذا إن كان هناك جرأة على الإصلاح أو رغبة حقيقية به, أنا أعني هنا سلطة مجلس الوزراء مباشرة ومسئوليته في الحفاظ على الثروات الوطنية ومنها مكتبات الشخصيات الكويتية, يجب سن قوانين جادة لشراء هذه المكتبات ووضعها في مكان لائق لخدمة الأجيال القادمة وخدمة الثقافة في الكويت, لا أن يتم التعامل معها كحالات فردية, أو تترك لرغبة أو حتى حيرة أهل صاحب المكتبة في كيفية التصرف بها.


osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com

No comments: