استغرقني الدخول إلى متحف غاليريا دلا أكاديميا, ساعة وأربعين دقيقة, في طابور طويل يضم جنسيات ولغات مختلفة, فقط لمشاهدة تمثال داوود الأصلي في فلورنسا, ويعتبر تمثال داوود, رائعة مايكل أنجلو, أكثر الأعمال الفنية كمالاً, من الناحية الفنية والجمالية, عبر كل تاريخ فن النحت.
ويظن معظم الناس, أن مايكل أنجلو قصد به النبي داوود, ولكن كان الهدف الحقيقي من هذا العمل كان سياسياً.
كان في الأصل كتلة ضخمة من الرخام الأبيض, تابعة لأوبرا دل دومو في فلورنسا, حفرت من الجبل لنحت داوود, وعرض العمل مبدئياً على النحات أوغستينو دي دوتشيو عام 1462م, ثم لاحقاً للنحات أنتونيو روسيلينو عام 1476م, لكن الاثنين تراجعا جزعاً, أمام هذه الكتلة الضخمة, التي تحتاج إلى تقنيات هائلة وجهود كبيرة, كانت كتلة الرخام غير صماء, بل كانت تحوي مسامات, وفوق ذلك كانت طويلة ونحيفة, تصلح لجسم نحيف من تماثيل العصر القوطي, أكثر منها لجسم عضلي والذي يمثل عصر النهضة.
وعرضت الكتلة على العبقري ليوناردو دا فنشي, فاعتذر لصعوبة التنفيذ, فظلت الكتلة منسية في باحة أوبرا دل دمومو الخلفية حتى عام 1501م, حيث كانت تلك السنوات حرجة على جمهورية فلورنسا, فقد نفيت أسرة المديتشي عام 1494م, ودعت المثقفين والفنانين والأدباء والمفكرين للوقوف مع حكومتها.
وأخبر مايكل أنجلو بواسطة صديق, عن كتلة الرخام, وفكرة التمثال وهي عودة فلورنسا وحكم المديتشي, فقبل أنجلو هذا التحدي, وخاصة أنه كان يريد قياس موهبته, أمام فناني جيله الأفذاذ, وخاصة الشباب الذين فشلوا بالتعامل مع هذه الكتلة, فقاموا ببتر أجزاء منها, ثم توقفوا, كل ذلك شكل تحد حقيقي لمايكل أنجلو.
وخول أنجلو رسمياً في 16 أغسطس 1501م, وبدأ المشروع فوراً, وفي بداية سبتمبر, بدأ الفنان باختبار صلابة ونوعية الكتلة, وفي أوكتوبر بني حاجزاً خشبياً حول الكتلة, وسقالة.
كان تقدمه في العمل سريعاً حتى 25 يناير 1504م, وبعد أكثر من أربع سنوات كان داوود, التمثال الضخم مكتمل عملياً, وحظى العمل بفضول وتقدير مواطنيه, أما لجنة الفنانين التي كانت تعرف كيف كانت الكتلة, وصفته وكأنه نهض من الموت.
لكن التمثال أثار غيرة وانتقادات منذ البداية, من قبل المتعصبين والمخربين.
ويذكر جيورجو فاساري, في كتابه الذي خصصه لمياكل أنجلو, في ظل الإطراء والتمجيد الذي حصل عليه أنجلو, أن بيير سوديريني أعاب على التمثال بأن قال أن أنفه كبير جداً, وتظاهر بأنه سيعدل هذا الأنف بأزميله, وصعد السقالة, وفي هذه اللحظة نثر أنجلو بعض غبار الرخام الذي كان يخفيه بيده, فابتعد سورديني عن التمثال, وهنا قال أنجلو:" والآن ما رأيك؟"
بعدها تم قبول العمل, وقدمت للفنان اربعمئة سكودو على هذا العمل الإستثنائي, ودارت نقاشات حول أفضل موقع له, ولم يكونوا يرغبون بوضع هذا العمل الرائع, أمام جدار, حتى وإن كان جدار الدمو, وتشكلت لجنة من أشهر فناني العصر, ولكن ليوناردو دا فنشي العجوز, اقترح وضع التمثال في ساحة لوجيا دلا سنيوريا, أمام جدار يطلى بلون داكن, لكي يبرز بياض الرخام, كانت هذه هي فكرة دا فنشي التي يطبقها على أعماله في الاستوديو الخاص به, لكنها لم تكن فكرة مايكل أنجلو, فداوود نابض بحياة, ولم يخلق ليوضع أمام جدار أسود, ككنيسة بائسة.
رغم أنه لم يتم إدخال أنجلو في اللجنة, إلا أن صوته وصل عبر الفلورنسيين الذين أطلقوا على داوود "العملاق", ووضع في ساحة دل سنيورياً, في القلب الحضاري لمدينة فلورنسا.
وفي المقال القادم سأذكر كيف تم نقل تمثال داوود الرائع, على مدى أيام والصعوبات التي واجهتهم.
No comments:
Post a Comment