للصديق المسرحي والإعلامي سليمان الحزامي, مسرحية بعنوان "مدينة بلا عقول", وأظنها الأولى له, ومناسبة العنوان, أننا فقدنا قبل ايام المفكر والفيلسوف والمناضل المصري, محمود أمين العالم, وبفقده فقد العالم جزءً من عقله.
كان محمود أمين العالم, مفكراً من الطراز الأصيل والفريد, ولا أظن أن الأمة ستنجب مثيلاً له, خاض معارك فكرية في خمسينيات القرن الماضي, ووضع عهداً جديداً لاستخدام العقل, سواء في الفلسفة أو في الأدب, وساد مصطلح الاشتراكية الواقعية في الفن والأدب في العقود التي تلت ذلك, مؤسساً لمنهج في التفكير والتحليل جديد على الساحة الثقافية, ومعلماً لآلاف من المثقفين المستنيرين في العالم العربي.
كان مبدعاً مرناً, على عكس النصيين والدوغماتيين, بل حارب بضراوة ضد التحريفيين والانتهازيين, في السياسة والفكر, وحارب كذلك المراهقة السياسية, والتي اكتشف أنها موجودة في الكويت كتيار فئوي.
وبالطبع يعرفه ويحبه ويحترمه كل مثقفي الكويت, بجميع تياراتهم لسماته الإنسانية الرائعة, ودماثة أخلاقه, فهو رجل وطني دافع عن الإنسان والأوطان بكل ضراوة, ولم يحد عن مبادئه أو يهادن من أجلها, ولذا فقد حظي باحترام حتى أعدائه, ولذا سار مرشد الأخوان المسلمين في جنازته, كان يفتن الجميع بإنسانيته وتواضعه, رغم مكانته الفكرية الكبيرة, التي قدرتها الجامعات الكبيرة مثل أوكسفورد والسربون, اللتان عمل بهما كأستاذ زائر, بينما طرد من الجامعة في بلده, وعذب وسجن لآرائه وانتمائه السياسي عام 1959, هو ومجموعة من زملائه, حيث استشهد زميله شهدي عطية تحت التعذيب.
رغم أنني قرأت مؤلفاته, وعرفته عن طريقها, إلا أن لقائي الأول به كان في باريس في منتصف الثمانينات, كنت وقتها على موعد مع المناضل السياسي ميشيل كامل رحمه الله, والذي كان مقيماً في باريس, فوجدت محمود العالم يقف معه, فعرفني ميشيل به, فقال:"أنا قرأت لك حاجة", قلت:"أنا قرأت لك كل حاجة, بس كنت مراهق وقتها", ضحك بتواضع قائلاً:"ما تكبرنيش", ثم استطرد:" إلا قل لي يا وليد, أحنا ما تقابلناش قبل كده ليه؟", ضحكت وأجبته:"حضرتك استحليت السجون, من سجن لسجن", ومن يومها توطدت علاقتنا, فكنت ألتقيه بدار الثقافة الجديدة, ثم في قضايا فكرية, هو ومحمد الجندي وماجدة رفاعة, حفيدة رفاعة الطهطاوي, وبالطبع لا تقام ندوة فكرية في الكويت إلا ويكون حاضراً ومحاضراً بها, ونشطاً في تعليقاته ونقاشاته العقلانية.
ولم يكتفي هذا الرجل الموسوعي بالفلسفة والسياسة, ولكن كتب دواوين شعر, وكتب في النقد الأدبي بحرفنة واقتدار وإبداع, لم يتوقف عند التقليدي, رغم أنه كان كبيراً بالسن, إذ توفي عن عمر 87, لكنه كان مجدداً في رؤيته الأدبية والفكرية.
كان محمود العالم مقبلاً على الحياة, متفائلاً, فقبل سنتين كان يحتضر تقريباً, وظن الجميع أنه سيرحل وهو على فراشه, لكنه فاجأ الجميع عندما نهض مبتسماً, متحدياً المرض بإرادته الحديدية.
وبفقد هذا الرجل, فقدنا العقلانية, والتعامل الموضوعي مع قضايانا, وخرجنا من استخدام العقل, إلى استخدام العاطفة المظللة والمتعصبة, ليغدو موته شاهداً على موت العقل والرصانة الفكرية.
والباعث على السخرية, أنني عندما قرأت خبر وفاته في جريدة الجريدة, يوم الأحد 11 يناير الجاري, كان بجانب الخبر خبر آخر, ومانشيت يقول:" البرلمان المصري.. صدامات وحذاء", وقد رفع أحد أعضاء الإسلاميين حذاءه, في وجه نواب في الحزب الحاكم.
بعدك يا محمود سترتفع العديد من الأحذية, التي أصبحت بديلاً عن استخدام العقل.
No comments:
Post a Comment