يعيش العالم العربي منذ عقود طويلة, بإشكالية الدائرة, والعيش في دائرة يعني دائماً العودة إلى نقطة البداية, وإذا راجعنا المنطق التاريخي لتقدم المجتمعات, نجد أن الدائرة تعني المراوحة وعدم التقدم إلى أمام, بالضبط كفعل البقرة مع الساقية, تدور وتدور وتسقي الغير في دورانها, ولأن الفلاح يغمض عينيها, لا تعلم إلى أين تسير, ولا أي طريق تسلك, هي تعلم أنها تنهك من المسير, وتتوهم السير في طريق يؤدي إلى هدف, لكن واقع الأمر هي تسير في دائرة, لساعات وأيام وربما لسنوات.
ولم يحدث أن راجع العالم العربي خياراته, ولم يقرر الخروج من الدائرة, ووجد في هذه الدائرة أماناً من المجهول الذي ينتظره, لو سار في خط مستقيم, في اتساق مع حركة التاريخ, والتقدم البشري.
في الألفية الثالثة, مازل العرب يتعاملون بنفس منطق بدايات القرن الماضي, حتى بعد أن أسسوا كيان جامعة الدول العربية, وبعد مرور أكثر من ستين سنة على اغتصاب دولة إسرائيل لفلسطين, مازالوا يسيرون في نفس الدائرة, يواجهون الاعتداء بردود الفعل, أما بالشجب والاستنكار المجرد, وأما بمزيد من المغامرة غير المحسوبة.
وأتذكر في بداية الغزو على الكويت, أن المقاومة غير الخبيرة, والمعتمدة على العاطفة والحماس, كانت تصطدم بمغامرة ومواجهة غير متكافئة مع الغازي, حتى بدأت تتنظم وتستخدم كل الوسائل والفنون للمواجهة, ولو ظلت على ردود فعلها في المواجهة لألحقت ضرراً بالغاً بالشعب الكويتي, ولدمرت بنيته التحتية بالكامل, ولكن تغيرت هذه المغامرة إلى عمليات مقاومة نوعية.
في ظروف التمزق العربي, وتدني مستويات التنمية الشاملة, التي لم تستطع الانقلابات العسكرية تحقيقها, وفي ظل تدهور الإنسان العربي, نتيجة لتدهور التعليم والصحة والثقافة والخدمات, إزدادت الدول العربية ضعفاً, وعدم قدرة على مواجهة تحديات العصر بما فيها معاناة الشعب الفلسطيني, والتي كثيراً ما يكون سببها التناحر الفلسطيني الفلسطيني, على حساب الشعب.
إن انتهاج الواقعية, يعني استخدام العقل لا العاطفة والانفعال, وتغطية العيوب بمؤتمرات قمة تؤدي واجب الشجب, والتبرع بأموال طائلة, قد تبني دولاً بكاملها, فالواقعية عكس الأحلام والأمنيات والسير في دائرة, الواقعية تعني الانطلاق من الواقع, تعني السير في خط مستقيم.
لا يمكن حل أي قضية عربية بردود الفعل السياسية, والشجب والاستنكار على أهميتهما, ولا يمكن مواجهة هذه القضايا بأوهام المؤامرة على الدين والعرق العربي, فالعالم يعيش على هذه الكرة الأرضية, وتتطور دوله كل على حدة بالحس والفعل البراغماتي المنفعي الواقعي العلمي.
كل المؤتمرات العربية في العقود النصرمة, فشلت في المواجهات, لأنها فشلت بالتنمية الشاملة لبلدانها, لأنها تجاهلت الأفراد في مجتمعاتها, تجاهلت المستوى المعيشي لهم, تجاهلت استثمار الإنسان, تجاهلت ثقافته وتعليمه وصحته, همشته وقمعته, وسلبت حرياته, فكل القمم العربية تعالت على مواطنيها, ونظرت إلى الأمور بنظرة فوقية ليس لها علاقة بإنسان هذه الأوطان.
وحتى تتطور الدول العربية, التي تحمل وترعى إرث التخلف والجهل, وبالتالي تواجه قضاياها, يجب عليها أن تبدأ من البداية, من الإنسان صانع الأوطان, تبدأ من الداخل, ومن الأساس وهو الاقتصاد والتنمية الشاملة, واستخدام العقلانية.
لكن للأسف أن ما يحدث في الألفية الثالثة, أننا استبدلنا العقل بالحذاء, فلم تعد لنا مكانة يحسب حسابها بين الأمم, لم تعد دول العالم تأخذنا بجدية, لتشرذمنا وخلافاتنا الطفولية, ومحاولتنا جر الميكروفون لأفواهنا, حتى طغت السياسة والشعارات على الحلول التنموية العقلانية, فلكي تؤثر بالآخرين يجب أن تبدأ بتغيير نفسك أولاً.
وأظن أن القمة الكويتية الاقتصادية التنموية الاجتماعية, كانت محاولة للخروج من الدائرة, فرغم عادة الانفعال التي خيمت عليه, إلا أن دولة الكويت وبدبلوماسية صاحب السمو الأمير العريقة, قادت المؤتمر إلى خارج المألوف, وقدمت للدول العربية خارطة تبدأ من البداية, من بوابة التقدم العربي, وهنا لا أتحدث عن المصالحة العربية, التي لا نعلم مدى جديتها, بل أقصد لأول مرة في تاريخ مؤتمرات القمة, يأتي على ذكر الشباب والمرأة والثقافة والبحث العلمي, والقطاع الخاص والربط البري, بأجندة عمل براغماتية.
مبادرة كهذه قد تعيد الكويت لمكانتها الريادية, في وسطها العربي, وسواء أخذت هذه الدول المبادرة بجدية, أم لم تأخذ بها, فقد حظيت الكويت بشرف المبادرة, وشرف نضج الرؤية, وإذا كانت الكويت تريد أن تقدم المثال, فلا بد من أن تلتفت إلى الداخل, وتشرع بالتنمية الشاملة كما طرحتها في المؤتمر, فالتنمية لا يحلها الزمن وحده, لابد من مبادرة وفعل شجاع, يستبدل الحذاء بالعقل.
No comments:
Post a Comment