في عام 1988م, تلقيت دعوة من اتحاد الكتاب السوفييت, لحضور مهرجان بوشكين الشاعر الروسي العظيم, والذي يقام سنوياً في ذكرى مولده, وأتذكر أنني التقيت وقتها الأديب المصري والصديق جمال الغيطاني للمرة الأولى, والذي جاء لمناسبة مختلفة.
كنت الضيف العربي الوحيد بين الوفود الأجنبية, وكنا نجري أحاديث جانبية موسعة, حول بلداننا وهمومنا الثقافية, وسألني رئيس الوفد البلغاري, كم يكلفكم التعليم؟ وكم تكلفكم الرعاية الصحية؟ وكم نسبة قيمة إيجارات السكن من رواتبكم؟ فأجبته ببساطة: لا شيء, كل ذلك مجاني ومكفول من الدولة, فقال ولكنكم دولة رأسمالية, قلت: الكويت دولة رعاية اجتماعية, الدولة ترعى أبنائها منذ ولادتهم وحتى مماتهم.
وقبل اسبوعين, شاهدت برنامجاً وثائقياً في "شو تايم", عبارة عن تحقيق قام به أحد الإعلاميين الأمريكيين, حول الرعاية الصحية والتعليمية في الولايات المتحدة, وفي تحقيقه وجد أن قروض التعليم للطلبة, الذين يعملون في ثلاث وظائف أحياناً كي يسددوا هذه القروض, ترهقهم وقد يحرمون من التعليم لعدم قدرتهم على السداد.
لكن الأهم أن هذا الإعلامي اكتشف, أن شركات الرعاية الصحية, وشركات الدواء, استطاعت رشوة وشراء أعضاء في الكونغرس الأمريكي, ليمرروا قانوناً يوقعه الرئيس بوش, والذي اتهمه الإعلامي بتلقي رشوة, وهذا القانون يسمح لهذه الشركات برفع اسعارها كيفما شاءت, لتتضاعف أسعار الدواء ثلاثة أضعاف, وتصبح العمليات الجراحية بمئات الآلاف من الدولارات, ولذا فالفقراء الذين يتعرضون إلى حوادث, أما أن ترفض المستشفيات علاجهم, وأما يعالجون بشكل سريع, ثم يطلبون من سيارة أجرة متعاقدين مع سائقها, على إيصال المريض إلى أقرب شارع منعزل.
وباستمرار التحقيق, اكتشف الإعلامي أن العلاج في كندا مجاني تماماً, وعندما سافر إلى بريطانيا وفرنسا, وجد ليس فقط مجانية الرعاية الصحية, ولكن المستشفيات تدفع أجرة التاكسي للمرضى, وفي فرنسا تدفع الحكومة إلى موظفة تعتني بالمرأة الوالدة حديثاً, وتقوم بالطبخ وغسل الملابس, وتعليمها التربية والرضاعة, إضافة إلى آلاف الخدمات, واكتشف أن كثيراً من المواطنين الأمريكان ينزحون إلى هذه الدول, من أجل صحة وتعليم ابنائهم.
والغريب أنه اكتشف أن العلاج الوحيد المجاني في الولايات المتحدة, موجود في قاعدة غوانتنامو الأمريكية, والتي تحوي معتقلين متهمين بالإرهاب, وغامر هذا الشخص بنقل رجال الإطفاء المتضررين من عملية 11 سبتمبر إلى غوانتنامو, والذين يسميهم الأمريكان أبطال 11 سبتمبر, بعد ما فقدوا الأمل في الرعاية الصحية داخل الولايات الأمريكية, ولكن رجال الجيش رفضوا دخولهم القاعدة, فدخلوا كوبا بشكل غير شرعي, وتلقوا علاجاً متقدما مجانياً في إحدى المستشفيات, وحصلوا على الأدوية بسعر 5 سنت, بينما كانوا يحصلون عليها بمئات الدولارات في أمريكا.
يحدث ذلك في الولايات المتحدة, ذات المداخيل الضخمة, لأن الهدف هو الربح وإثراء الشركات على حساب رعاية الشعب الصحية والتعليمية, ففي الوقت الذي سنت فيه بريطانيا قوانين الرعاية التعليمية والصحية وخاصة لكبار السن عام 1948م, أي بعد انتهاء الحرب العالمية, وخروجها مثخنة بالجراح, وفي الوقت الذي تخصص فيه الدول المتقدمة مبالغ هائلة, لتقدم ورخاء شعوبها, تنحى الولايات المتحدة قائدة العالم الحر منهج استغلال شعبها, وتركه عرضة لنهب الشركات الكبيرة.
ذكرني ذلك بما يحدث حالياً في الكويت, التي كانت دولة الرعاية الاجتماعية في يوم ما, فقد وجه عدد كبير من الكويتيين والكويتييات, العاملين في القطاع الخاص, رسالة استغاثة إلى صاحب السمو أمير البلاد, من خطر الطرد من أعمالهم, كما اتخذت بعض الشركات الكبيرة قررات بتخفيض رواتب موظفيها بنسب كبيرة, كما قلصت شركات أخرى امتيازات موظفيها, وخيرتهم بين تقديم الاستقالة, أو قبول هذه التخفيضات.
ورغم أن هؤلاء الموظفين يدخلون ملايين الدنانير لهذه الشركات, ورغم انه لم تتأثر رواتب وامتيازات المسؤولين الكبار في هذه الشركات, إلا أن لا أخلاقية الرأسمالية تكشف دائماً عن وجهها القبيح, وجه الجشع واستغلال الإنسان.
وحتى بوجود بقايا لهذه الرعاية الصحية والتعليمية, إلا أن الفساد وتردي الخدمات, تدفع الناس إلى اختيار المدارس والمستشفيات الخاصة مرغمين.
وقد تحدثت إلى بعض الشباب الذي تم التضييق عليهم لتقديم استقالاتهم من هذه الشركات, والذين يعيشون برعب وعدم أمان, وربما يتعرضون للسجن, بسبب القروض والالتزامات الأسرية التي تثقل كاهلهم.
وفي ظل وجود مؤسسات تعليمية وجامعة متدنية, وفي ظل مستشفيات ورعاية صحية متخلفة, وفي ظل سياسة تفنيش المواطنين, وتنفيع الشركات من أموال الشعب, ماذا تبقى من دولة الرعاية الاجتماعية؟ ماذا تبقى من جوهرة الخليج؟
No comments:
Post a Comment