Sunday, August 30, 2009

العيارين



ما زالت بعض التسميات والصفات في اللغة العربية, موجودة في لهجاتنا المحلية, وإن اختلفت مدلولاتها عن أصلها في التراث العربي, مثل العيار والشاطر والأزعر والفتوة والقبضاي والحرافيش وأيضاً اللوتي والشلايتي.
كلها تدل على أشخاص أو حتى مجتمع من طبقة اجتماعية واقتصادية متدنية, احترفوا بسبب الفقر والجوع شتى أنواع السرقة والتحايل, واحتقرهم أصحاب النفوذ ووصفوهم بأقذع الألفاظ مثل الغوغاء من السفلة والأوباش والحثالة العامية والسراق وأهل السجون, وعاشوا منبوذين من الدولة والطبقات العليا, وخارجين عن القانون.
ويحفل التراث العربي بحكايات ونوادر وأدب الشطار والعيارين, وفي ظني أن أهم الدراسات الحديثة التي صدرت في هذا الموضوع, هو كتاب "الشطار والعيارين" للدكتور محمد رجب النجار, ضمن سلسلة عالم المعرفة العدد 45, والتي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت, صدر العدد في سبتمبر 1981م, بل أزعم أنها قد تكون الدراسة العلمية الأولى في هذا المجال, ولكن حكايات هؤلاء ذكرت في التراث العربي عند الجاحظ والمسعودي والطبري وغيرهم.
ولا تقتصر ظاهرة العيارة والشطارة على المجتمعات العربية, ولكنها موجودة في التراث الهندي والبابلي والفرعوني والفارسي والأوربي, ونموذج البطل الشعبي البريطاني روبن هود, هو نموذج العيار, إذ أنهم جيمعاً ظهروا في فترات الانحطاط والفساد السياسي والحضاري في بلدانهم, وتمردوا على مجتمعاتهم ودخلوا في صراع مع المجتمع الذي احتقرهم, "لينالوا باسلوب غير شرعي, ما يتصورون بأنه حق شرعي لهم"
[1], كما أنهم أخذوا من الأغنياء وأعطوا الفقراء, ولهم مبادئ لا يحيدون عنها, مثل عدم سرقة الفقير والمرأة, وعدم سرقة من يخرج الزكاة, كما أنهم يهبون لنجدة ومساعد المظلوم, ويتحلون بصفات الشهامة والكرم والإنسانية والشجاعة, ولذا فقد حضوا بإعجاب العامة, فتعاطفوا وتستروا عليهم.
وحمل التراث العربي معه, الكثير من القصص الشعبية التي تم تناقلها شفاهة, مما جعلها أقرب إلى الملحمية, مثل ملحمة "علي الزيبق", التي اختلطت فيها الحقيقة بالخيال, ولكن شخصيات هذه القصص لم تأت من خيال, فهناك شخصيات من العيارين عرفها التاريخ, مثل دليلة المحتالة وأحمد الدنف, الذين كان لهما دور مهم في أحداث التاريخ, فالخليفة العباسي استنجد بعلي الزيبق لاخماد الفتنة التي حدثت في بغداد عام 443ه, بين السنة والشيعة.
ومن الطبيعي أن تلقى تلك الفئة مقاومة عنيفة من قبل السلطات, ليس فقط لأنها جماعة مشاغبة, ولكن لأنها تشكل إدانة للعصر وللمستأثرين بالسلطة والثروات, لكن الخلفاء استعانوا بهم ضد خصومهم عند ظهور القلاقل السياسية, فوقفوا دائماً مع الحق, وواجهوا الجيوش المسلحة والمنظمة, بالعصي والمقاليع, وقدموا العديد من الضحايا في دفاعهم عن شعوبهم.
وكان العيارون والشطار والحرافيش والقبضايات, جزءً من الثورات الشعبية العربية, فأظهروا أنهم أصحاب قضية, وليسوا رعاعاً, فقد تزعموا حركة المقاومة الشعبية في العواصم العربية, مثل بغداد ودمشق والقاهرة, ضد الغزاة والمحتلين, بينما كانت الأنظمة السياسية تنهار, وكانت الطبقات العليا من التجار وأصحاب المصالح الاقتصادية, تهادن المحتل خوفاً على مصالحها.
وحتى إلى تاريخ قريب, كانت هذه الفئة من القبضايات والفتوات, هي ذراع الخير الذي ينصف المظلوم, ويقاوم ظلم تسلط أصحاب النفوذ على أبناء الشعب من البسطاء, ويسهم بشجاعة في الدفاع عن بلاده.
وإذا رجعنا إلى مدلولات لهجاتنا المحلية عند وصف العيارين, نجد أنها إدانة محببة, فعندما نقول:" يا عيار", لا نعني بها سبة, مثلما نصف الطفل بأنه "شيطان", فالعيار بالنسبة لنا, لا يمكن أن يكون مجرماً أو إنساناً سيئاً, بل قد يكون محبباً قريباً من القلب.




[1] رجب النجار "الشطار والعيارين"

No comments: