عند قرب نهاية العقد الماضي أحسست "بنوستالجيا" أو شجن للقرن الماضي, وهو قرن لم يكن بشعاً في مجمله, وقد وقعت في حب بعض العقود التي عشتها والتي لم أعشها, وعندما نظرت من موقع أبعد, وجدت أن نوستالجيا وحنيناً آخر الى الألفية الماضية, وتذكرت بعض القرون التي وقعت في عشقها, لم يكن هناك بد من الاعتراف بأن العالم متناهي في الصغر.
هل هو الاحتلال الذي أصابني في أضعف نقطة بأول العقد الماضي؟! أم هو وجه العالم الجديد الذي مد إلي لسانه الكبير و أربك نظامي؟!
أنا أفهم أن الأمور لا تسير في طريق التاريخ كما تسير على " الهاي واي" أو طريق معبدة, فالحواجز تظهر أحياناً دون لافتات تحذير تسبقها, وهنا لا أعني عن نتائج بلا أسباب, ولكني أعني تلك الأمور غير المرسوم لها في نسقنا العقلي والمنطقي, فأحياناً يمكن ان يموت شخص مفتول العضلات من الغرغرينا، فقط لأنه استهان بالجرح الصغير, نحن كنا هذا الشخص.
نحن جناة وضحايا, ردعنا الشجاعة بذريعة الوحدة الوطنية وردعنا الحق بذريعة الديمقراطية, فهل يمكن تجزئة الإحباط؟! وهل يمكن تجزئة الانتصار؟! كنا جناة عندما أسدلنا ستائر ستالين, تلك التي عندما كان يمر بقطاره بين القرى فحذره أحد رفاقه أنه سينزعج من مناظر البؤس في هذه القرى فقال ستالين: "بسيطة أسدلوا ستائر القطار ولن نتألم من هذه المناظر", نحن أسدلنا ستائر ستالين على الجرح الصغير.
كنا ضحايا الأمل المخادع "لهاي واي" نسير فيه الى الخلاص, كما كنا ضحايا عندما ضحكنا كثيراً ولم نقل: " اللهم اجعله خير ", كنا ضحايا وعد من الدنيا بأننا سنكون على خير.
في عقد الفرص الضائعة قال التاريخ :"All aboard " وتخلف اثنان من السكارى كانا في البار, فملئا الدنيا صياحاً على الظلم الواقع عليهما، ثم قاما بكيل الاتهامات للتاريخ.
لم يكن السبب الأعداء الوهميين الذين اخترعهم "الرفيق بنشوني" وهي, من أكثر الروايات طرافة, بل السبب كان الخذلان من داخلنا, أضدادنا التي كنا نحملها في دواخلنا وما زلنا.
الهموم جدية بلا شك .. الهموم جدية يا أخي.
هل السر في الفكر؟ نعم هناك انحطاط في الفكر سبب ونتيجة, وهناك خطة لتدمير الشخصية الحضارية, هل ما زلنا نتوهم المؤامرة الغربية؟!.. هل ما زلنا نحلم بالدواء السحري الغربي؟!, لكن الغرب لن يستطيع معالجة شخص يرفض العلاج, بل لن يهتم ان عاش أو مات, وقد يكون الغرب نفسه يعاني من أمراض مميتة, فالرأسمالية التي أعلنت عن انتصارها النهائي بعد الحرب الباردة, خرجت من المعركة وفي قلبها خنجر, إن سحبته ماتت على الفور وإن أبقته ظلت تحتضر الى فترة أطول من المعتاد.
انحطاط الفكر هو ما جعل جماعة طالبان يدافعون باعتزاز عن جريمة تدمير التراث الإنساني في أفغانستان, هو ما جعل بعض أعضاء مجلس الأمة يهاجمون الثقافة, ويقاتلون من أجل ثقافة وقف الزمن.
نعم أن الجهود ذات الدفع الإيجابي التي قام بها صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد لاستعادة المجد الاقتصادي الكويتي القديم, والذي رفرف بجناحيه بعيداً في عقود الفرص الضائعة, هي جهود توقظ تفاؤلاً مع قهوة الصباح ومنشيتات الصحف..لكن ماذا عن المجد الثقافي والحضاري الذي –برأيي – صنع المجد الاقتصادي, ولولاه لكانت الوفرة النفطية مجرد إسمنتاً وأحدث الهواتف المتنقلة فقط, بيد أن الثقافة والتحضر قدما للكويت عبر عقود, قيمة مضافة..وإن شئت تميزاً..
السر في السؤال: هل نريد نقوداً "بانك نوت" أم تنمية؟!..
كانت المؤامرة على الثقافة والتحضر تأخذان مداهما عبر العقود المفقودة من تاريخ الكويت, فما أن يعرض فلم وثائقي عن الكويت حتى يبدأ بجمال وبيوت شعر تهفهف مع الرياح والغبار, حتى أعتقد أبناؤنا أن تلك هي الكويت, وتلك هي الثقافة الكويتية فقط, وليس صحيحاً أن الكويت أنجبت شعراء يسكنون في بيوت ويقرءون الكتب ويعرفون الإلياذة, فقد كان فهد العسكر أسطورة وصقر الشبيب أكذوبة, والشيخ يوسف بن عيسى والشيخ عبدالله السالم وهماً, وكل الأسماء مثل عبد العزيز حسين وعبدالله زكريا الأنصاري وعبد الرزاق البصير وغيرهم, كانت دعاية عنصرية, لم يكن في الكويت إلا إبل وفتوى ضد أصنام بوذا وفيلكا, وما السبعة آلاف عام من الحضارة والتي أثبتتها الحفريات في الصبية, إلا أحلام الطارئين من التغريبيين.
يقول أحد أعضاء مجلس الأمة: ما علاقة الغناء بالثقافة ؟ وبالمقابل يقول أكاديمي ليبرالي: ما علاقة برنامج عالم الحيوان بالثقافة؟ يالا بؤس الثقافة, أليس كورس الحضارة واحد؟ لا يمكن تجزئته مثل الإحباط والانتصار لا يمكن تجزئتهما.
هذا يمارس الجهل وذاك يمارس الجهل, وجميعهم يمارسون العنف في الوقت المناسب, لكنني أحذر دائماً من شماعة الغزو وحده, وأتنبه مرة أخرى الى الحراك الاجتماعي, والفئات التي لم تعتد تكوين المجتمع الكويتي, ولا الى حواراته من أجل مستقبله منذ عقود طويلة.
النوستالجيا لا تعني فقط التغني بالماضي الدافئ, ولكنها تعني أهم من ذلك, تعني الاستفادة من ال Left over" " العقود والقرون والألفية التي مضت, لا نريد أن نتذمر كثيراً وننسى أن العربة التاريخية تسير الى أمام.
أحمد الله أن قلبي ما زال ينبض, وعقلي ما زال يعمل, وسأصحو غداً على أمل جديد, وسأمد ذراعي علها تلتقي بذراع أخرى, كي ننتشل بعضنا من الوحل.
فرغم أن أرجلنا في الوحل, إلا أن أعيننا شاخصة الى النجوم.
· أرجلنا في الوحل لكن عيوننا شاخصة إلى النجوم مقولة لكاتب أمريكي نسيت اسمه.
No comments:
Post a Comment