Monday, November 5, 2007

صباح الخير يا فلورنسا 2 من 4













انتقلت من روما إلى فلورنسا بالقطار, واستمتعت بمناظر المدن والقرى الإيطالية في الطريق, وكنت قد اخترت فندقاً يبعد ثلاثين كيلو متراً, أو عشرين دقيقة بالسيارة عن المدينة فلورنسا, والفندق عبارة عن فيلا بنيت في القرن السادس عشر, مكونة من دورين فقط, وهو في مقاطعة "توسكانيا" المذهلة بجمالها وأجوائها, بتلالها وسهولها وخضرتها, ومزارع العنب الممتدة إلى الأفق.
فلورنسا مدينة مذهلة, صغيرة لكنها أعجوبة بمبانيها التي تشكل فناً تشكيلياً نادراً من الناحية التاريخية, فلا يوجد بالعالم شيئاً يشبهها, يشعر المرء بنشوة ومتعة ذهنية وهو يجوب أزقة فلورنسا وجسورها القديمة.
ففلورنسا كانت موجودة كحضارة في القرن السادس قبل الميلاد, فيما كان يسمى "فيزولي ستيلا", كما كانت جمهورية في القرن الأول قبل الميلاد, وأصبحت مستعمرة رومانية عام 59 قبل الميلاد, وفي عام 1865م أصبحت فلورنسا عاصمة إيطاليا.
أما فلورنسا في عصر النهضة, فقد كانت مدهشة في هذه الفترة الرائعة من فترات تاريخ البشرية, ففيها تم إنجاز تنمية وتقدم هائلين في العمارة والأدب والشعر والفنون, وتطور النظام القانوني والسياسي, وغيرها من الجوانب الاجتماعية والإنسانية, كان ذلك في القرن الخامس عشر وما قبله بقليل, وبتقدمها وتقديرها للثقافة والفنون, أنجبت أعظم الفنانين والأدباء والمفكرين والعلماء في تاريخ البشرية, مثل ليوناردو دافنشي الذي ولد عام 1452م, والشاعر الإيطالي الفذ دانتي صاحب كتاب الكوميديا الإلهية ومؤسس اللغة الإيطالية الحديثة وهو مولود عام 1265م, ومايكل أنجلو النحات الأهم في تاريخ الفن الذي ولد عام 1475م, وغيرهم الكثير ممن قدموا لفلورنسا هالة ومكانة ستستمر للأبد, مكانة لا يستطيع النفط وحده تقديمها.
فساحة الفنان الرائع مايكل أنجلو, عبارة عن جبل مرتفع أو شرفة كبيرة تطل على كل فلورنسا ونهر "أرنو" Arno وقبب المباني التاريخية , وهي تعج بسياح من كل أرجاء الدنيا, وتحوي ضريح مايكل أنجلو, وفيها ظاهرة جميلة, وهي أن المتزوجين حديثاً ومن جميع البلدان يأتون بملابس العرس للتصوير هناك, رأيت هذا الأمر في أماكن عديدة لكنني لم أره بهذه الكثافة وهذا التنوع بالجنسيات مثلما رأيته في ساحة مايكل أنجلو, أيعقل كل ذلك التقدير للفن والفنانين؟! فمن اليابان وأفريقيا وأمريكا الجنوبية, وآسيا وأوروبا, أزواج جاءوا من جميع قارات الأرض لتقدير الفن.
في الساحة "بيازا ديلاسنيوريا" تماثيل كثيرة, وموسيقي شوارع, ومقاه عديدة بعضها تاريخي, وأهم تماثيل هذه الساحة تمثال داود وهو رائعة مايكل أنجلو, هذا التمثال الذي يعتبر أقرب إلى الكمال في الفن التشكيلي, لم ينحته باستخدام موديل واحد, ولكنه اختار أجزاء من أشخاص مختلفين, فأتي بصاحب أجمل ذراع وأجمل جذع ورأس وأرجل, وهكذا حتى نحت أجمل تمثال في التاريخ, ولذا يأتي لزيارته سياح من جميع أرجاء العالم, وكل أمنياتهم أنهم يصورون أنفسهم أمامه, وفي تلك اللحظة وأنا أصارع كي أجد لي مكاناً حتى أستطيع تصوير هذه التحفة الفنية الرائعة, تذكرت كلمة الأستاذ أحمد الصراف عندما قال أنه وهو عائد من أحدي الرحلات أحضر تماثيل صغيرة معه, وعندما رآها الرقيب في مطار الكويت حطمها بالمطرقة دون اعتذار أو تفسير, وتمثال داود يأتي إليه ملايين البشر من كل أرجاء الدنيا فقط ليشاهدوه, وتذكرت كذلك حديث الفنان التشكيلي حسين مسيب عندما قال, أن مدير المعارف في الكويت والرائد الثقافي عبد العزيز حسين كان يعجب بتماثيله ويوفر له كل الإمكانيات للإبداع, وأن رئيس المعارف الشيخ عبدالله الجابر كان يشجع النحت, وأن لدينا نحاتين على مستوى عالمي مثل الفنان الراحل عيسى صقر والفنان الكبير سامي محمد, الذي قدم له الشيخ صقر القاسمي حاكم الشارقة كل المساعدات والتسهيلات لكي يبدع, ولديه الآن مشغل في الشارقة.
وعندما رأيت اهتمام الحكومة الإيطالية بالحفاظ على المباني القديمة والتاريخية, تأسفت لضياع معالم الكويت القديمة, وهدمها بلا مبالاة من أجل المجمعات التجارية والزجاجية, التي أخفت هويتنا التاريخية, لدرجة أن أبناءنا لا يتخيلون كيف كانت الكويت, ولا كيف كان يعيش أجدادهم.
وعندما تعبت من التجوال وحان وقت الغداء, اتجهت إلى المقاهي التقليدية والشهيرة, فوجدت ازدحاماً غير طبيعي, فاضطررت إلى انتظار دوري حتى تفرغ أحدى الطاولات, وإذا بي أسمع صوت امرأة كويتية تنادي على أبنائها: "حمود خلود تعالوا لقينا ماكدونالد", عجيب, فالناس من جميع أرجاء الدنيا تتكالب على المقاهي والمطاعم التاريخية, والكويتيين يبحثون عن مكدونالد وستار بوكس.
في فلورنسا تعلمت أشياء كثيرة, وفي كل مرة أتعلم أن الثقافة هي جسر التواصل مع العالم, وأنها مقياس التقدم والتحضر, وأن لا تقدم دون تنمية للإنسان وذائقته, ولقد حظيت الكويت في عقود سابقة, بتقدير دولي بسبب اهتمامها بالثقافة, وخسرت هذا الاهتمام بسبب إهمالها لهذا الجانب التنموي الحيوي, ولنتذكر أنه لأهمية هذا الأمر قام الطاغية صدام حسين باستهداف المؤسسات الثقافية أولاً, مثل جامعة الكويت ومعهد الكويت للأبحاث العلمية والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, وقام هتلر بتفجير قبر الروائيين الروسيين دوستيفسكي وتولستوي.
ولنتذكر جميعاً أن غوبلز وزير الدعاية في عهد هتلر قد قال مرة:"كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي", مما يدلل على أهميتها وقوتها ورعب الطغاة منها, بينما تستقوي الأمم والشعوب وتصنع تاريخها بالثقافة.


osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com


No comments: