تقابلنا للمرة الثانية أو الثالثة أنا والصديق الأديب الجزائري الطاهر وطار, كان ذلك في عام 1989 على ما أذكر, وقال لي في معرض حديثنا:" أظن أنك تكتب كتبك مباشرة على جهاز الكمبيوتر", فأجبت:" بل أنسخها وأبيضها على الكمبيوتر", رد بدهشة:"أنا منذ خمس سنوات أكتب أعمالي مباشرة على الكمبيوتر, شعرت بخجل, فالطاهر وطار أكبر مني بالسن, لكنه كان منفتحاً أكثر مني على توظيف التكنولوجيا لخدمة الثقافة والأدب.
في الواقع كانت بداياتي مع جهاز الكمبيوتر في العام 1981 بيد أني لم أستطع أن أألفه إطلاقاً, لكن الحافز كان قدرة الوطار على مجاراة الدنيا قدر الإمكان, على الانحياز للحداثة والتقدم, دون الالتفات إلى المحاولات المستميتة للدفاع عن الأفكار المغبرة حول قداسة القلم وملمس الورق, عن متعة الشطب والإضافة وتلويث الأصابع بالحبر.
إذا كان هذا الكهل يستطيع, فأنا أستطيع أيضاً, ومن يومها وأنا لا أكتب أي شئ على الورق, ما عدا ملاحظات أو نقاط للتذكير, حتى أني لم أعد أحمل قلماً, رغم حبي لجمع الأقلام والمفكرات الصغيرة, أذكر عندما كان جيبي مملوءً بقصاصات الورق التي تحمل أرقام هواتف وملاحظات إذا فرزتها لا أذكر معناها أو غرض كتابتها, أذكر عندما كنت أكتب عموداً أو مقالاً, كنت أكتبه وأعيد تبييضة عدة مرات, وأتجشم عناء الذهاب إلى الجريدة لإيصاله, ثم تطورت وبدأت بإرساله بالفاكس, وعندما أكتب قصة أو عملاً طويلاً, كانت مكتبي يمتلئ بالورق المتناثر, بل بعضه يكون على الأرض, كانت لدي مشكلة وما زالت, وهي أنني إذا كتبت شيئاً لا أحب أن أقرأه, وكانت عملية إعادة كتابته لمرات عملية تعذيب ذاتي, وكانت قمة مشاكلي مع زوجتي في ترتيبها لمكتبي, ومازلت متحسراً حتى الآن على ضياع قصص أو أجزاء من عمل أدبي, مثلاً ترجمت منذ سنوات رواية دوبروفسي للشاعر الروسي العظيم "بوشكين" عن الإنجليزية, وأثناء الغزو تنقلت من مكان إلى مكان داخل الكويت, وبعد التحرير بحثت عنها لكي أنشرها لم أجدها, ضاعت تماماً وحتى هذه اللحظة لا أعلم ماذا حصل, وعليك أن تتخيل حجم الجهد المبذول والوقت في ترجمتها, وحجم الورق كذلك, كان لدي انتفاخ خشن في المفصل الأول لأصبعي الأوسط, مكان موضع القلم جراء الكتابة لسنوات طويلة, الآن بدأ يخف.
عندما بدأت باستخدام اللاب توب, حصلت على فوائد جمة, فلم أحتج إلى الورق أصبح مكتبي نظيفاً وأصبحت حياتي أكثر سلاماً مع زوجتي, وأصبح البحث عن شئ كتبته أيسر وأسرع, كما أن إمكانية التصحيح والحفظ هائلة, واحتمالات الفقد ضئيلة, أصبح بالإمكان تيسير عملية الصف والإخراج للناشر, وحتى غلاف الكتاب, ولا يتبقى مشكلة سوى سعر الطباعة, ففي جهازي هذا أكثر من خمسة كتب بعضها منتهي وبعضها ما زلت أعمل عليه, أتنقل بالعمل والكتابة من كتاب إلى كتاب, ومن موضوع إلى آخر دون حاجتي للانتقال بالمكان والبحث بين الأوراق, في الأدراج وعلى الرفوف, لأنتهي بالإحباط مجدداً.
الآن أستطيع أن أعمل من أي مكان بيتي, مكتبي, الطائرة, مقهى دون الاضطرار إلى حمل ملفات وأوراق وأقلام, أستطيع العمل على طاولة صغيرة أو حتى في الهواء الطلق دون خشية من تطاير الورق, ورغم ذلك أنا أعلم تماماً أنني لن أستطيع مجاراة العقول الطازجة من الشباب الذين فتحوا أعينهم على الكمبيوتر, لكنني لن أرفض أية إمكانية يقدمها لي العلم تتيح لي مزيداً من التعلم, فأنا أكره الدوائر لأنها مغلقة, وآخذ من العلم ما يفيدني ويمتعني ويطور رؤيتي, مثل الإنترنت استخدمه بتوجه هادف مراعياً الوقت ومصدر المعلومة, وخاصة المراسلة والاتصال.
هذا يذكرني عندما كنت أدرس بالقاهرة في بداية السبعينات, كانت وسيلة اتصالي بأهلي في الكويت هي الرسائل التي كانت تصلني بعد شهر على الأقل, تصل مفتوحة وعليها ختم الرقابة, وفي السنتين الأخيرتين, ولغرض عملي كان الأهل يسجلون شريط كاسيت ليتمكنوا من الحديث جميعاً في رسالة صوتية واحدة, أتذكر أن الرقابة استدعتني في يوم إلى مكتب يثير الفزع, وظل الرقيب يستمع إلى الكاسيت ويعيد سماع كل جملة ويكتب تقريره عن حديث والدتي كالتالي:"تبثه أشواقها وتشجعه على الدراسة" وعن حديث أخي:" يبدو من صيغة الكلام أنه يمازحه" تصوروا!! أما الآن فأستطيع إرسال رسالة أو بحث ضخم أو حتى إهداء كتاب إلى صديق دون حتى أن يكون هذا الكتاب بحوزتي, ويصل في نفس اللحظة, ناهيك عن إمكانية التواصل المرئي, أو الاشتراك بالمؤتمرات العلمية عبر ما يسمى tele seminar or conference وحتى تقديم أوراق العمل والعروض دون الاضطرار إلى السفر وحضور المؤتمر بشكل شخصي.
في الواقع ما استدعى هذه الذكريات هو إنتاج جهاز جديد في الأسواق الأمريكية واليابانية للقراءة E- reader ولا أريد أن أذكر أسم الشركة المصنعة حتى لا تكون دعاية لهذا المنتج الذي لم يصل الأسواق الأوربية والعربية بعد.
وأيضاً ذكرني ذلك بمعاناتنا وتخلفنا السابق, فعندما تخرجت من القاهرة في السبعينات, كنت قد اشتريت مجموعة كبيرة من الكتب أدبية وفكرية, خاصة أن سعر الكتاب كان زهيداً جداً بمقدور الطالب الحصول عليه, فكل مجموعات تولستوي ودستيفسكي وغيرها الكثير من الكتب اضطررت إلى شحنها في حقائب وكراتين, وصل بعضها ممزقاً وبعضها صادرتها رقابة وزارة الإعلام, وتكرر الأمر عندما عدت من الولايات المتحدة مع إمكانات شحن أفضل, وتخلف أكبر للرقابة في الثمانينات, فقد صادرت ديوان شعر للشاعر خالد محادين عليه ختم مكتبة الربيعان إضافة إلى كتب أخرى!! فقط لأن عنوان الديوان هو "الحب عبر المنشورات السرية" إن لم تخني الذاكرة, بالطبع ظلت الكتب في الحالتين متراكمة على الأرض إلى أن اشتريت أرفف تكفي الكتب, أو ربما طلبت نجارتها.
جهاز E-reader شاشة بحجم الكتاب القطع المتوسط, يتيح لنا تخزين عدد كبير من الكتب, وتحديداً أكثر من سبعة آلاف وخمسمائة صفحة, عن طريق الكتب الإلكترونية E-books التي تباع في معظم المكتبات العالمية, ولكتاب كبار ولإصدارات حديثة, يتيح هذا الجهاز التنقل بين الكتب لأغراض بحثية, وتغيير البنط, ويختلف عن شاشة الكمبيوتر لأن الصفحات تشبه صفحات الكتاب ولا تتأثر الشاشة بالإضاء الخارجية, أي نستطيع القراء في الهواء الطلق, كما أن به مشغل موسيقى, علماً بأنه إذا امتلأت ذاكرة الجهاز تستطيع أن تحفظ الشريحة memory card وتضع شريحة جديدة وهو صغير وخفيف الوزن تستطيع أن تضعه في جيبك, ومزايا أخرى عديدة, تخيل أنك تحمل مكتبتك في جيبك! لا أدري ماذا سيفعل الرقيب مع هذا الجهاز!
وطبعاً بدأ هذا الجهاز يثير بعض الأفكار المغبرة حول أهمية الكتاب العاطفية وملمس الورق ورائحتها, لكن من يستطيع أن يوقف عجلة التقدم؟ ليس الرقيب بالتأكيد.
alrujaibcenter@hotmail.com
www.alrujaibcenter.com
No comments:
Post a Comment