Sunday, November 4, 2007

صباح الخير يا شيراز




في مدينة شيراز يستولي عليك إحساس بأنك في مكان خلق للشعر والشعراء فقط, فكل ما تراه أو تلمسه أو تشمه لا بد وأن يكون قد مر عليك في الكتب القديمة, وبالأخص في شعر سعدي وحافظ من وصف استثنائي و فريد من نوعه للحياة وتفصيلاتها المدركة والمتخيلة.
فقد امتزج الجمال والحكمة الفارسيين بشعرية العرب ونظام قوافيهم وعروضهم, فتشكل شعر فذ بلغ قمته بدءً من القرنين الثالث والرابع, يتراءى لسامعه بعد نوراني للحياة, وعمق أخاذ لمعانيه, إذ لا عجب أن يكون في كل بيت من بيوت الإيرانيين ديوان لحافظ الشيرازي, حتى في القرى الفقيرة الأمية البعيدة عن المدن.
أبرز ما في شيراز - التي كانت تسمى عبر التاريخ بدار العلم - من معالم تاريخية, "بارس بولس", Pars poles الذي يضم "تخت جمشيد", وهو أحد شواهد الحضارة الفارسية قبل 2500 سنة, والأهم من ذلك أضرحة الشعراء المحاطة بهالة عظيمة من الاحترام والتبجيل, وقد يكون ضريحا سعدي وحافظ من أكبرها وأضخمها, إلا أن هناك العديد من الأضرحة المميزة لشعراء آخرين أكثر حداثة.
هل يحلم شعراؤنا بأن تكون لهم هذه المكانة بعد مماتهم؟ على النقيض تماماً يعيش شعراؤنا في ظل الإهمال ويموتون تعباً وهماً, ويبقون منسيين عبر الزمن, كما ذكرني الأستاذ الشاعر علي السبتي بما حل بخالد الفرج وفهد العسكر.
عندما زرت قبر حافظ ذهلت من عدد الزوار له من مختلف المناطق الإيرانية, يحملون ديوانه ويلمسون قبره بأطراف أصابعهم, وكأنه ولي من أولياء الله الصالحين, يقرءون الفاتحة ثم يفتحون الديوان بعشوائية لتكون الصفحة هي فألهم ويسمون ذلك " فال نامة " , وكانت دهشتي أكبر عندما وقفت عجوز تردد شعره عن ظهر غيب.
وزوار حافظ من مختلف الفئات والأعمار والأجناس, شباب وشابات بأمنيات مختلفة, وعشاق يطلبون منه المساندة كي يتمكنوا من الزواج, أو المعونة على صدود أو هجر الحبيب, وشعراء شباب يستمدون منه الإلهام, وقد اطلعت على صورة فوتوغرافية لشاعر الهند العظيم " طاغور " وهو جالس إلى قبر حافظ قبل أكثر من ستين عاماً.
هذا الاهتمام بالشعراء لدي الإيرانيين والشيرازيين بالأخص شئ فريد من نوعه في العالم, لم أره بهذا البهاء إلا عند الروس تجاه شاعرهم العظيم "بوشكين" ففي جميع مناسبات الإيرانيين وجلساتهم, لابد وأن يتخلل حديثهم أبيات من الشعر, وخاصةً شعر سعدي وحافظ وعمر الخيام, ومرد ذلك إلى تراث تقديس الحكمة والجمال وعناصر الحياة كالخضرة والماء, فطقوس الاحتفال بعيد " النوروز " أو السنة الفارسية التي تبدأ مع بداية الربيع, هي وضع سبعة أواني تحتوي على سبعة أنواع من عناصر الحياة, مثل الأعشاب الخضراء والبيض والسمك, وأواني مليئة بالماء, تسبح بداخلها أوراق الورود, ويقرأ أثناءها شعر حافظ.
ولدهشتي قبل سفري ودعتني سيدة العائلة التي كنت ضيفاً عليها, بصينية عليها إناء ورود تسبح بالماء وخضرة ومصحف, وأشارت لي بأن أقبل المصحف وأمر تحت الصينية التي رفعتها فوق رأسي.
ولكن بالطبع هناك أمر آخر يميز الإيرانيين, فهم أكثر الشعوب إيماناً بالشعر ودلالاته, فهم يعشقون الشعر ولديهم اعتقاد شبه غيبي بالشعراء وخاصة حافظ, فالكلام الحكيم والجملة المؤثرة والأسطورة والمعجزة لها مكانة في وجدان الإيرانيين.
ويطبع في إيران كل عام عشرات الآلف من النسخ لدواوين سعدي وحافظ, وبلغات متعددة, وبأشكال مختلفة, بعضها مزين الحواشي أو برسومات "المنياتور" رائعة الدقة والجمال, والمستوحاة من معاني الأشعار, فلكل قصيدة مشهورة لوحة مشهورة, حتى أصبحت القصائد تعرف من اللوحات, وتبلغ الرسومات في روعتها روعة الكلام, وتبلغ في دقتها أننا يجب أن نستخدم عدسة مكبرة لرؤية التفاصيل أحياناً, فمن المعروف أن رسامي "المنياتور" يستخدمون ريشة بشعرة حصان واحدة أحياناً.
أن هذا التفرد والرقي في الفن والعلم هو نتاج ماضي الخصوصية التراثية الحضارية من ناحية, والانفتاح والاحتكاك بالثقافة العربية من ناحية أخرى, وحرية الفكر والتعبير في ماضي الزمان من نواح أخرى, أن عظمة الثقافة العربية إبان العصور الإسلامية الأولى ترجع إلى كل تلك العوامل, فمتى ما تسيد الحظر والمنع والانغلاق في المجتمعات, بهتت الثقافة وانحسرت الحكمة والمعرفة, ومتى ما وجد الفكر الإنساني آفاقاً رحبة تألق وتطور, وأصبح النتاج المادي والروحي للشعوب أكثر سمواً ورقياً وغنى.
إن ذاكرة الشعوب والأمم على اختلافها وعبر الزمن, تختزن آلاماً من التدمير الذي طال إنسانيتها, نتذكر محاكم التفتيش والمغول وصدام حسين وأسراب الغربان التي تكره الفرح وخضار الأرض والزهور.
وأصبحت المدن الرائقة اليانعة مثل شيراز والكويت, مدناً شائخة غاض الدم عن وجهيهما فشحبتا, لكن قلبيهما ظلا أخضرين كغصن ينتظر المطر بعد طول شح وجفاف, وأصبح المستشرقون يصورون حالة غريبة ومتناقضة, فيرسمون الأهرامات الشامخة وبقربها خيام ممزقة وأطفال حفاة.
إذاً ليس غريباً أن يقوم أحد المتشددين في بداية الثورة الإسلامية في إيران بمحاولة هدم صرح "تخت جمشيد" بالجرافات بحجة أن ذلك ليس من الإسلام, ويقوم المتشددون والمتزمتون بمحاكمة الأدب والفكر, ومحاربة الإنترنت بالسيوف, كما قام صدام حسين والمغول ومحاكم التفتيش بحرق الكتب وتراث الفكر البشري العربي, عبر مراحل تاريخية مشئومة.
لدي مجموعات سعدي وحافظ, وسأقرأ منها الآن.


Osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com

1 comment:

سيزيف said...

للأسف نفتقد نحن العرب الى مثل هذه الظواهر
تحياتي