ثم انتقلت بعد فلورنسا إلى فينيسيا بواسطة القطار أيضاً, مما أتاح لي رؤية مناظر طبيعية خلابة ومدن وقرى إيطالية كثيرة خلال الثلاث ساعات التي استغرقتها الرحلة, كانت الشمس الدافئة تعكس الحقول الممتدة, والتلال الخضراء, وتكشف بهاء الزهور البرية بعد بلل الندى الصباحي, وكان لحركة القطار فعل الربت على النفس, وكان صوت العجلات على السكة الحديد, يشيع شعوراً ما وشجناً لروما وفلورنسا, اللتين تركتهما دون ارتواء روحي, وشبع ذهني, وفي نفس اللحظة كانت حركة الغيوم الخفيفة في السماء تستثير في تشوقاً للآتي .. لفينيسيا.
من محطة "سانتا لوتشيا" santa lucia, أقلتني الحافلة المائية إلى جزيرة "ليدو" Lido البعيدة نسبياً, حيث يقع فندقي, وقد استغرقت الرحلة قرابة الأربعين دقيقة مع التوقف في محطات مختلفة, وبسبب تعبي من الحقيبة المحمولة على ظهري, استأجرت تاكسياً وطلبت منه إيصالي إلى فندقي, وبعد فترة ليست بالطويلة أوقفني أمام قصر, يتجمع أمامه مجموعة من السياح ليصوروه, وكانت تصدح منه موسيقى شوبان, فالتفت إلى سائقي وقلت له أنت مخطئ أنا لم أطلب متحفاً, وأعطيته ورقة بها عنوان الفندق, فقال: "هذا هو فندقك", دخلت متشككاً لكني فوجئت باستقبال موظفي الفندق, وتأكيدهم على وجود حجز لي.
كان الفندق قصراً بني عام 1905م, وهو يتميز بالنقوش المحفورة والرسومات على جدرانه الخارجية, وتتميز غرفه بحفاظها على طابعها القديم, والتي صمم ديكوراتها أحد أشهر المصممين الفينيسيين, وتقديراً لهذا المهندس والفنان, علقت على الجدران صوره وصور مخططات تصميماته للأثاث, ويحد الجزيرة من ناحية الغرب "البحيرة الفينيسية" ومن الشرق بحر الأدرياتيك.
والجزيرة التي اخترت الإقامة فيها تتميز بالهدوء, فهي بعيدة عن الازدحام السياحي, وعندما أتحدث عن الازدحام أقصد صعوبة الحركة في الشوارع والساحات التاريخية دون مبالغة, فالساحات التاريخية الشهيرة مثل "سانت ماركو" s. Marco "وسانت زكريا" s. Zachariah , مزدحمة على مدار الساعة, وفنها المعماري الفريد ذو تأثير شعوري ممتع على النفس والعقل, في هذه الساحات يزاحم الحمام السياح, لدرجة أن المرء يخشى أن يطأ عليه.
لكنني عادة لا أكتفي بالساحات وأماكن تجمع السياح, بل أدخل كل زقاق ومنعطف, وكأني أسير على غير هدى, يقودني حس الاكتشاف, وأطلق العنان لخيالي لأتصور كيف كان يعيش الناس في العصور الذهبية, عندما كانت إمكانات الفينيسيين وطاقاتهم الفنية والأدبية والعلمية والمعمارية في أوجها, حيث انطلقت هذه الإمكانات لتصنع واحدة من أجمل المدن في الدنيا.
فينيسيا هي عاصمة منطقة "فينيتو" Veneto, وقد اكتسبت عدة أسماء, مثل "ملكة الأدرياتيك" و"مدينة الماء" و"مدينة الجسور" و"مدينة النور", وهي تمتد على مجموعة من الجزر الصغيرة في شمال إيطاليا, وقد بلغ عدد سكانها حتى عام 2004م, 271,251 نسمة, وتتميز بجسورها الأربعمائة وقنواتها المتشعبة, وتقع في الناحية الشرقية على بحر الأدرياتيك, وهي مدينة استثنائية لا تشبهها مدينة في الكرة الأرضية, بل هي المدينة الوحيدة في العالم التي تستخدم القوارب في مواصلاتها, فالتنقل بين الجزر يتم أما بالحافلة المائية أو بالتاكسي المائي الخاص, أو بالجندول هذا القارب الرومانسي الشهير.
وقد منحها موقعها على الأدرياتيك عبر التاريخ مركزاً تجارياً هاماً وانفتاحاً على الشعوب والثقافات المختلفة, خاصة العالم الإسلامي, فقد كانت محطة تجارية هامة بين الشرق وأوربا الغربية, وكانت تستورد التوابل والحرير والسجاد والقطع الفنية الشرقية وغيرها, ومعروف لدى الجميع رحلات ومغامرات الرحالة "ماركو بولو" الذي عرف الأوربيين على الحرير والبارود الصينيين, ورغم صغر المدينة فقد كانت تمتلك في أواخر القرن الثالث عشر أكثر من 3300 سفينة تجارية, يعمل عليها أكثر من 36000 بحاراً, يسيطرون على تجارة البحر المتوسط, وفي هذه الفترة بنيت القصور الفخمة ذات الطابع الفريد, وخلالها تم دعم الثقافة والفن والأدب وارتفعت مكانة المبدعين والعلماء.
كما أن وجودها على ثغر الأدرياتيك, جعلها قوة عسكرية بحرية لا تقهر في ذاك الزمان, بل أن الحملة الصليبية الرابعة انطلقت من فينيسيا حاملة آلاف الجنود الأوروبيين إلى محرقة الحرب الدينية.
وحين استولى السلطان العثماني محمد الفاتح على الإمبراطورية البيزنطية عام 1453م, فقدت فينيسيا جزءً من نفوذها التجاري, وهذه كانت إحدى دوافع الأوربيين لإيجاد طرق تجارية أخرى بين القرنين الثامن والثاني عشر.
لكن جمهورية فينيسيا فقدت استقلالها بعد غزو نابليون لها عام 1797م, وأنهى بذلك قرون من التاريخ المذهل, فقد كانت أكثر مدن أوربا تميزاً في الفن والعمارة والأدب, ولا يمكن إغفال التأثير الإسلامي على فنها المعماري.
والجدير بالذكر أن نابليون ألغى "الغيتو" وهدم الجدار الذي كان يعزل سكن اليهود, مما اعتبره الفينيسيون علامة انحطاط.
وقد أنجبت فينيسيا في عصورها القديمة والحديثة, العديد من الشخصيات الفنية والأدبية المعروفة بالتاريخ, مثل الموسيقار العبقري فيفالدي الذي ولد عام 1678م, وكذلك الرحالة ماركو بولو الذي ولد عام 1254م, والموسيقار الرائع ألبينوني عام 1671م, والشخصية التي أثارت جدلاً تاريخياً واجتماعياً وفلسفياً جياكومو كازانوفا الذي ولد عام 1725م, وغيرهم, كما أن من أشهر الأعمال الأدبية التي كتبت حول البيئة الفينيسية مسرحية تاجر البندقية لوليم شكسبير, لكن هناك الكثير من الروايات والأفلام التي كتبت في سنوات التسعينيات, والسنوات السبع الأخيرة وكانت فينيسيا هي الأجواء.
مدينة فينيسيا مصدر مثير وملهم لخيال الأدباء والفنانين, ومثال حي عبر العصور على أهمية الانفتاح الفكري لتقدم الشعوب, وبقعة في هذه الأرض تستحق أن تشاهد ولو مرة في العمر.
osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com
No comments:
Post a Comment