كان ضيفي على العشاء الصديق الكاتب أحمد الديين, كنا نتحدث عن زمان القراءة, وكيف كانت المكتبات عامرة, وتجارة الكتاب مجزية, وكيف أصبح هناك كساد حتى لدور النشر العربية المعروفة, فهل السبب هو الكتاب أم عادات القراءة؟ تحدثنا عن ذكرياتنا, كيف بدأنا القراءة, وكيف تحولت عشقاً لدي واحترافاً لديه.
عندما كنت أعمل بجامعة الكويت كنت أصعق عند قراءة تقارير الطلبة, كانوا يكتبون باللهجة العامية, في الوقت الذي كنت فيه أحمل كتابي معي في كل مكان, المكتب, السيارة, البيت, الطائرة, كنت حين قرار السفر أختار الكتب قبل الملابس, وأحياناً أعمد لشراء كتب جديدة للاستمتاع بها أثناء إجازتي.
كنا في دمشق أحمد الديين وأنا ربما في العام 1986, كنت هناك قبله ورأيته للتو واصلاً, فرحت للقائه وسكنا في غرفة واحدة, وتحدثنا وتناقشنا وضحكنا حتى وقت متأخر من الليل, ضحكنا حتى ونحن في أسرتنا, وأخيراً قلت له: بوفهد أنا تعب وأريد أن أنام, نكمل في الصباح؟ قال لي: أنا لدي مشكلة, لا أستطيع النوم دون قراءة وليس لدي شئ يقرأ, فهل لديك؟ قلت له: للأسف كنت مستعجلاً ولم أصطحب معي كتباً.
وظللنا نبحث عن شئ يقرأه أحمد, فكرت بأن أنزل إلى بهو الفندق لعلي أجد جريدة أو شئ ما, ووجدت في أحد الأدراج قائمة الطعام ومصحفاً وإنجيلاً, فقلت له: اختر, قال أنا متخم من العشاء لا أريد أن أرى قائمة الطعام, والقرآن قرأته كثيراً, أعطني الإنجيل, أنا رحت في سبات عميق وظل بوفهد يقرأ الإنجيل ثم نام, وكان أول شئ فعلناه بعد إفطار "المسبحة" أن اشترينا كتباً.
علاقتي بالقراءة والكتابة أيضاً قديمة, تذكرني والدتي بأنني كنت أرسم أحرف مجلة حواء المصرية التي كانت والدتي تحرص على شرائها, كان ذلك في أواخر الخمسينيات قبل أن أدخل روضة "جول جمال" في شارع التيل –تونس- حالياً, بعدها أصبحت تعطيني كاتلوجات الأزياء لأرسم الحروف الإنجليزية, ثم سريعاً ألفت حروف القراءة, أقرأ كل شئ يعترض طريقي, قصاصة على الأرض, إعلانات, لافتات, بل قرأت أسماء كل محلات سوق حولي مراراً وتكراراً, وساهم في رسوخ هذه العادة نظامنا التعليمي الممتاز في ذلك الوقت, كانت حصص المطالعة والقراءة والتعبير والإنشاء حصص ضرورية وأساسية, في كل يوم وأعني يومياً نكلف بنسخ الدرس عدة مرات, وفي العطل الأسبوعية كانت المرات تتضاعف, وتتضاعف أكثر في عطلة نصف السنة, كان أهلي يذهبون يوم الجمعة "كشته" إلى البر منذ فجر الجمعة إلى مساؤها, وأظل أنا في ذاك البيت العربي الكبير في حولي أكتب وأكتب وأكتب, كانت جدتي موضي رحمة الله عليها تنهرني قائلة: "راح تنعمي عيونك من القراية والكتابة, بسك دراسة تبي تصير مثل جدك؟", كان نظر جدي رحمة الله عليه يضعف مع مرور الأيام, حتى أصبح يرى الضوء فقط, وكان لديه كتب كثيرة صفراء أذكرها تماماً, ولأنني كنت لصيقاً به تشكل وعيي بحكاياته وحكمه, وأيضاً والدي كانت لديه مكتبة جميلة, أنا تعرفت على الأدباء العرب بين صفحات كتبه, نجيب محفوظ, يوسف السباعي, طه حسين, إحسان عبد القدوس وغيرهم حتى كتاب هتلر "كفاحي" قرأته عدة مرات.
لست وحدي, بل كانت عادة اجتماعية راسخة, فجميع أبناء جيلي هكذا, كان أمراً محرجاً أن يتحدث أمامك الأصدقاء عن كتاب لم تقرأه, فتقرر أنه لن يمر هذا اليوم وربما الليل قبل أن تحصل على الكتاب وتقرأه, كانت عادة اجتماعية راسخة وجميلة.
في العام1961 دخلت المدرسة الابتدائية, وكنت أعرف القراءة والكتابة من الروضة التي بقيت بها ثلاث سنوات, لأني دخلتها صغيراً بالسن, وفي هذه المرحلة كنت أوفر مصروفي حتى أشتري مجلات ميكي وسمير وسوبرمان, المنزوعة الغلاف والمستعملة التي كانت تباع على شكل "بسطات", على الأرض, وكان التلاميذ يتسابقون ويتنازعون على شرائها, وأحياناً نرضى بأن نعيد شرائها بمبلغ أعلى, أي سوق سوداء.
في العام 1965 كنت في الأول متوسط, وكنت أقضي جزءً من أشهر الصيف في بيت جدي, وكنت أنام في غرفة عمي أحمد, الذي كان يستعير الكتب من المكتبة العامة, أذكر أنه استعار مجلدات ألف ليلة وليلة, وكانت 12 جزءً ضخماً, كنت أنتظره ليغفو مستنداً بظهري على الحائط, وأتلقفه فوراً وتعلمت أن أسرع من قراءتي خوفاً من أن ينتهي من الكتاب ويعيده ليأخذ الجزء التالي, وبالمناسبة كانت الطبعة الأصلية, قبل أن تستقطع الرقابة مقاطعاً وقصصاً, كنا أكثر تقدماً.
وفي المتوسطة سكنا كأسرة صغيرة في منطقة القادسية مؤقتاً, وكنت يومياً أسير من القادسية إلى مكتبة حولي العامة مشياً وهي مسافة طويلة جداً لا أجرؤ الآن على فعلها, فقط لكي أقرأ, وأعود مساءً لتلقي تقريع الوالد الله يرحمه, ثم بدأ معي أصدقاء من الحي هذه الرحلة اليومية, وأحياناً كان أمين المكتبة يضطر لطردنا بعد انتهاء الدوام.
كانت عادة اجتماعية راسخة.
في يوم ما اكتشفت في طريقي إلى مكتبة حولي العامة, مكتبة في شارع تونس, تبيع كتب "أرسين لوبين" أو اللص الظريف, وقصص المكتبة الخضراء, كان كنزاً حقيقياً, لكن للأسف لم أكن أملك ثمنها, فتذكرت شيئاً كنت أفعله عندما كنت صغيراً في حولي, كنت أبيع بعض أشيائي حتى أدخل أسبوعياً سينما الأندلس التي كانت حديثة أو حولي الصيفية المكشوفة, وأدخل درجة ال65 فلس, فبدأت ببيع ميداليات وأقلام وبعض الرسومات وقطع ملابس مثل الأحزمة, لأشتري هذه القصص, ويبدو أن والدتي قلقت علي وأخبرت والدي الذي دخل غرفتي وأقفل الباب, وسألني بعينين حانيتين:"ليش يبا تبيع هدومك؟ أنت محتاج فلوس؟ قولي وأنا أعطيك اللي تبيه", فقلت له قصة الكتب وأنا مطأطأ الرأس, وأنني أخجل أن أطلب منه كل مرة, فاتفق معي على حل, أن كل مائة فلس أوفرها سيعطيني فوقها مثلها, ودينار فوقه أخر منه, وفي الواقع كان يعطيني أكثر لتشجيعي على القراءة, ومن هنا بدأت أكون مكتبتي التي بدأت برف واحد, كان ذلك في العام 1965 بعد وفاة الأمير عبدالله السالم, وعندما انتهى بناء "قسيمتنا" في الرميثية, حرص أبي أن يضع في غرفتي مكتبة كبيرة, كنت أقرأ بالسر أحياناً, لأن والدتي كانت تطفئ الأضواء, حتى نصحو باكراً للمدرسة, وكنت أصطحب معي في سريري مصباحاً يدوياً, فما أن تطفئ الضوء حتى أغطي نفسي بلحافي وأفتح المصباح اليدوي لكي أقرأ.
لم أكن وحدي, ولكنها كانت عادة اجتماعية راسخة, ونظام تعليمي راسخ.
في الخمس سنوات الماضية, توقفت عن قراءة الكتب العربية, وبدأت أقرأ كل جديد يصدر باللغة الإنجليزية, فلم يعد لدي وقت لأضيعه بقراءات أو نقاشات تافهه ومزعجة, ولم أعد أبذل جهداً لإقناع أحد أو تغيير وجهة نظر, لكن ثمن الحكمة باهظ جداً, قد يكون الثمن العمر كله, حتى وإن عشنا ضعف أعمارنا, فسنظل نتعلم كل يوم..أليس كذلك؟
في سهرتنا أحمد الديين وأنا, ذكر لي بعض الإحصائيات المخجلة, قال: هل تعلم أن نصيب العالم العربي من إنتاج الكتب هو 1% من الناتج العالمي رغم أن عدد سكان العرب يشكل 5% من سكان الكرة الأرضية؟ وأن تركيا وحدها تنتج نفس النسبة 1% وهي ما توازي كل النتاج العربي؟!!
لم تعد القراءة عادة اجتماعية راسخة, بل أصبحت أزمة اجتماعية راسخة.
alrujaibcenter@hotmail.com
www.alrujaibcenter.com
1 comment:
Post a Comment