كنت في حديث مع الصديق الدكتور شملان العيسى, شفاه الله وعافاه, حيث يتلقى في هذه اللحظات علاجاً في مدينة "كليفلاند" بالولايات المتحدة الأمريكية, كان حديثنا عن والده المرحوم الشيخ يوسف بن عيسى القناعي.
قال الدكتور شملان: طالما تساءلت عن أسباب انفتاح وتسامح وتطور عقلية الشيخ يوسف, هل هي طبيعة عائلة القناعات, أم التنشئة, أم إطلاعه وثقافته الواسعة؟
كان رأيي حينها, أن هناك عوامل متعددة, منها ذاتي ومنها موضوعي, ولا أظن إطلاقاً أن السبب الحاسم هو طبيعة عائلة القناعات, ففي الكويت هناك عائلات ذات طبيعة انفتاحية أو ثقافية أو فنية ولكن ليس بالمطلق, مع كل التقدير والاحترام, وكثيراً ما نرى أن الآباء والأجداد يكونون أحياناً أكثر تقدماً وانفتاحاً من أبنائهم, وازداد هذا الأمر وضوحاً في سنوات المؤامرة على التنوير والثقافة والتحضر.
نذكر جميعاً, أن أبناء أحد رواد فن النحت الرائعين حطموا منحوتاته وتماثيله التي رفعت رأس الكويت, ووضعتها في مصاف العالم المتقدم في هذا المجال, وهنا لا نقصد انتقاد هذه الحالة باعتبارها فردية وخاصة, ولكنها حالة موجودة تكررت بشكل واضح في السنوات الأخيرة, فإتلاف شعر فهد العسكر أو تبرؤ أهل شاعر آخر منه, أمثلة تاريخية واضحة.
يذكر الدكتور خليفة الوقيان في كتابه القيم "الثقافة في الكويت/بواكير واتجاهات", أن من عوامل الاهتمام المبكر بالثقافة في الكويت, هي طبيعة السكان, وطبيعة الموقع, وطبيعة النظام السياسي, والمؤثرات الخارجية.
ومن يعتقد أن هذا الرأي هو رأي شخصاني, أو موقف فكري محدد لبعض مثقفي الكويت, فليراجع كتابات الرحالة الأجانب وانطباعاتهم عن الكويت وأهلها منذ قرون, ولا حاجة لنا لذكر أن موقع الكويت عبر تاريخ كل الحضارات كان محطة للتجارة والترانزيت, (ويقول الكولونيل "لويس بيلي" الذي زار الكويت في العام 1863م والعام 1865م, واصفاً التاجر الكويتي يوسف البدر ومجلسه:"مكنتني إقامتي في الكويت من رؤية الداخل, والحياة اليومية في بيت شيخ عربي, ولا أعتقد أن هناك جنتلمان إنكليزياً يمكن أن يكون ودوداً ومضيافاً مثل يوسف البدر", ومع أن الشيخ يوسف متشدد جداً في أمور الدين فقد سمح لنفسه بأن يقرأ عن الديانات الأخرى") انتهى المقتطف من كتاب الدكتور الوقيان.
إن التحضر والانفتاح والتسامح هي سمات للكويتيين, إذ يذكر للشيخ يوسف بن عيسى القناعي تسامحه الكبير مع الديانات الأخرى, رغم أنه كان رجل دين وقاض, فعندما بدأت المرحلة الثانية من تهجير اليهود الكويتيين في أربعينيات القرن الماضي, كان هناك كنيس لليهود في منطقة شرق, في مكان سوق الكويت الآن, وقبل أن تغادر الأسر اليهودية سلموا مفتاح الكنيس للشيخ يوسف بن عيسى على أمل عودتهم إلى وطنهم الكويت ثانية, في تلك الفترة كان يهود الكويت يتعرضون إلى السخرية والأذى من قبل بعض أهل الكويت وخاصة الأطفال, وازداد هذا الأذى بعد قضية فلسطين وموقف الدول العربية من اليهود, ويقول الدكتور شملان العيسى أن والده كان ينهرهم ويمنعهم من التعرض لليهود.
كان الشيخ يوسف بن عيسى من أشد المدافعين عن الدين الإسلامي, لكنه في نفس الوقت كان يحمل هم ضرورة التحديث, ولم يجد تناقضاً بين رسالته كقاض ورجل دين وبين مشروعه التنويري, ولم يكن التنوير لديه مفهوماً فلسفياً مجرداً, لكنه كان مشروعاً واقعياً ضرورياً للنهضة والتنمية وتحقيق رسالة الإسلام الدنيوية والدينية, وتعميق لقيم عقلانية في المجتمع, ليس بين النخب المثقفة فقط ولكن لسائر أبناء الشعب الكويتي.
وذلك لا يعني عدم وجود حركة مضادة من اتجاهات لا عقلانية, متعصبة حاربت بشدة وشراسة مشروعه التنويري, فقراءة متأنية في كتابه "المقتطفات", وملاحظاته وتعليقاته على القضايا الفقهية والأدبية, تكشف لنا كيف كرس هذا الرجل حياته من أجل الدفاع عن التحديث والعقلانية, بل بادر لتأسيس أول مدرسة نظامية في العام 1911م, وطالب بإلغاء "الكتاتيب", مما أعطى لمشروعه التنويري قيمة واقعية, ولم يقض حياته بالجدل حول أهمية وضرورة الحداثة, بل بادر إلى ذلك بنضال محسوب, وبرؤية مستقبلية, ولم يلتفت إلى حروب الجهل والغلو ضد التنوير, وفهم أن التنوير ليس نقاشاً فلسفياً فقط, ولكنه مشروع نهضوي عملي.
فعندما تأسست المدرسة الأحمدية باقتراح من مثقفي ووجهاء الكويت, عارض المتزمتون إدخال العلوم العصرية واللغة الإنجليزية في المناهج الدراسية, ولأن السمة الإصلاحية وعدد المستنيرين كانوا أكثر من أصحاب الغلو, تم تنفيذ هذا المشروع على يد الشيخ يوسف بن عيسى وآخرين, ولم يستطع فكر التخلف والغلو أن يوقف عجلة التقدم والتاريخ.
كان الشيخ يوسف يحمل ثقافة دينية, وكان التراث الثقافي الديني لديه متجاوراً مع التحديث, بل ومتفاعلا مع متطلبات العصر, وظل الشيخ يوسف قاضياً ومفتياً بالأمور الشرعية حتى تعب في أواخر أيامه, عندما ظل الناس يزورونه في بيته بأعداد كبيرة للإفتاء أو التقاضي, حتى اضطر ابنه الكاتب الصحفي حسن العيسى إلى تعليق لوحة على الباب مكتوب عليها اعتذار الشيخ عن عدم استقبال طالبي الفتاوى, والأسئلة الشرعية.
صحيح أن التنشئة والثقافة الشخصية تلعب دوراً في الفكر التنويري, لكن البيئة الاجتماعية الكويتية وقيمها الفكرية الراسخة لعبت دوراً في عقلية الشيخ يوسف المنفتحة والمستنيرة, وكما قلنا سابقاً فهناك الكثير من الأمثلة على أبناء لمفكرين وأدباء وفنانين, لم يرثوا بالضرورة هذا الانفتاح والاستنارة.
وينطبق هذا الأمر على الزمان والمكان, فرغم وضوح الفكر التنويري في بدايات القرن الماضي, إلا أن ذلك لا يعني أن الزمن قضي على اللا عقلانية المتعصبة والغلو وضيق الأفق التي تحاول العودة بالمجتمع إلى أزمان الانغلاق.
فهل ستشهد السنوات القادمة عودة للانفتاح والتسامح والاستنارة؟ لا نشك بذلك إطلاقاً.
osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com
No comments:
Post a Comment