Sunday, November 4, 2007

التنمية أولاً..الثقافة أولاً




أثناء الاحتلال, كنا نبحث عن ذواتنا ومكانتنا بين الشعوب, عبر إذاعات الدنيا, والتي كانت صلتنا شبه الوحيدة مع العالم ونحن داخل الكويت المحتلة, كنا نستمع إلى تعطش بعض المثقفين العرب لدمائنا, ونستمع إلى تضامن كثير ومن مختلف البلدان.
كانت الأصوات "المخشخشة" الصادرة من المذياع تتحكم في معنوياتنا, ترفعها أحياناً وتخفضها أحياناً أخرى, كان للضد مبرراته كما كان للتضامن مبرراته المختلفة, لكنني لم أتصور أن تكون الثقافة إحدى أهم مبررات التضامن مع شعب الكويت, حدث ذلك وأنا أحرك مفتاح المذياع لأسمع تضامناً أرجنتينياً, ويبدو أن المتحدث كان من أصول عربية, فقد كان يقول:" أنا لا أعرف تفصيلات الأمر, وليس لدي خلفية حول الخلاف الكويتي العراقي, ولكني أعرف شيئاً واحداً, وهو أن الكويت لا يمكن أن تكون مخطئة, فدولة تنتج كل هذه الكتب والسلاسل والدوريات الفكرية والثقافية, يجب أن تكون دولة متحضرة تؤمن بالسلام والعدالة, أنا أتابعها وزوجتي تنتظر بفارغ الصبر حتى أقرأ وأترجم لها محتويات الكتب".
إذاً فالثقافة حشدت تأييداً كبيراً مبنياً على المنطق الإنساني, مثلما حشدت الثروة النفطية موقفاً عدائياً مبنياً على العاطفة والوهم وردة الفعل البدائية, كنا نحتار ونتساءل عن سبب وقوف بعض الشعوب العربية ضدنا.
في تونس كنا في وفد ثقافي يرأسنا الدكتور محمد الرميحي الأمين العام السابق للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, وطرحنا هذا التساؤل على ذوي العقول المستنيرة, الذين قالوا:" أرسل صدام حسين باسمه شخصياً, شحنة باخرة من مناهج الكتب المدرسية ذات طبعة رخيصة, مكتوب على أغلفتها(هدية من صدام حسين إلى أطفال تونس), في نفس الوقت الذي كانت خلاله الكويت تبني استثمارات ضخمة كالفنادق والمطاعم التي لا يستطيع المواطن التونسي البسيط الاستفادة منها, ولو أن الكويت بنت مدرسة واحدة أو مركزاً صحياً, لتغيرت الصورة عند المواطن".
وفي اليمن تشكل موقفان, حكومي مع الاحتلال لأسباب برغماتية, وآخر شعبي ضد الاحتلال لأسباب كثيرة منها الجامعة الرائعة التي بنتها الكويت في صنعاء إضافة إلى المساعدات الثقافية التي قدمتها الكويت لليمنيين المقيمين في الكويت وفي اليمن نفسها, ففي القرن الماضي كان السطوع الثقافي الكويتي واضحاً في كل البلدان بدءً من دول الخليج إلى كل الدول العربية وغيرها من البلدان مثل الهند, وما زالت البصمات البيضاء تشي حتى هذه اللحظة بالإعلان الكويتي للمحبة.
لم نعد كما كنا, لأننا ببساطة تخلينا عن الروح الكويتية الحقيقية, قيم الانفتاح الفكري, وأصبحت الدول التي تفتحت على عطائنا الثقافي تعيرنا, تدرس أخطاءنا وتحاول اللحاق بالدنيا, كانت النهضة الموسيقية مثلاً في الخمسينيات والستينيات, ترغم أخواننا العمانيون واليمنيون أن يوصلوا أسلاكاً ببعضها فوق الأسطح فقط كي يتمكنوا من سماع إذاعة الكويت, كان للدولة وقتها مشروعها للتنمية وبناء الكويت الحديثة, "سويسرا الشرق" كما تقارن تحبباً أو كما كان مؤملاً أن تكون, ولكن للأسف تخلت الدولة عن مشروعها الذي صنع لها مكانتها الحضارية في العالم.
عندما نسمع ونقرأ أن الكويت عازمة على استعادة دورها التجاري والاقتصادي, نتفاءل, لأنه بالفعل كان هذا الدور تاريخياً منذ آلاف السنين, فالكويت كانت أهم محطة "ترانزيت" في كل الحضارات, والقارئ للتاريخ وكتابات الرحالة, يعرف أن بريطانيا استبدلت البصرة وبوشهر بالكويت, لأهمية موقعها ونشاطها التجاري وصلتها بالعالم.
أنا لست رجل اقتصاد بالتأكيد, لكني أظن أن هذا التوجه –استعادة الدور- سيواجه بعراقيل قد يكون بعضها كبيراً, فالدارس لتاريخ الكويت وسمات الشخصية الكويتية, يدرك أن الانتعاش الاقتصادي والتجاري لم يكونا مرتبطين في أي وقت بحجم التبادل والتراكم فقط, لكنهما ارتبطا دائماً بأجواء نهضوية ثقافية وانفتاح بشكل أو بآخر, ومن السذاجة أن نظن بأن النهضة هي إسمنت وإسفلت وزجاج, فالنهضة الحقيقية تبدأ بالإنسان بشكل أساسي وبنتاجه المادي والفكري, أي الثقافي, لا نريد أن نكون مثل بعض الدول التي استخدمت ال Banknote في إضفاء الدهشة واستعراض الثراء مثل محدث النعمة, وهذا يذكرني بموضوع الأدب –مع الاعتذار له- بالشكل والمضمون, الأولوية في الوجود هي للمضمون وله أن يفجر شكله المناسب, وبالطبع الشكل البراق جاذب كبير, بيد أنه لن يستطيع خلق مضمون جميل, وهنا تأتي العلاقة الجدلية بين الأمور, فالرجل الجاهل أو المتخلف يستطيع جمع ثروة, وإنفاقها بشكل غير مدروس لكنه لا يستطيع بناء اقتصاد أو مجتمع تنموي.
كيف يمكن استعادة هذا الدور الريادي دون إنسان متعلم ومستنير, دون أن يعود التعليم الذي ينمي العقول ولا يطمسها, دون أن تعود الحريات الشخصية, دون أن يعود الفرح, دون عودة التقدير للثقافة والمثقف.
التميز الذي حظيت به الكويت تاريخياً, لم يعتمد على أمثلة هزيلة لتقدم مصطنع, ولنتذكر أنه منذ ستين عاماً مضت كانت الكويت فتيل الزيت الذي يحترق لينير الدرب للآخرين, لأن الرؤية لم تكن ترتكن إلى عمل الخير فقط, ولكنها كانت تستند إلى رؤية أعمق من الخير والتضامن الأخوي, كانت تستند إلى صورتها الجذابة كدولة متحضرة تريد خلق البيئة الموضوعية من حولها, من أجل إستراتيجيتها البعيدة.
أما عراقيل التنمية, فهي عراقيل فكرية, عراقيل قيم فكرية لا تصلح لبناء دول حديثة, عراقيل تتعلق بفكرة "شايلوك" شكسبير في تنمية الثروات.
في عصور النهضة الصناعية الأوربية, وقفت السياسة خلف الاقتصاد وما زالت, ولذا كان هناك مسوغ دائم للاستعمار والحروب والبحث عن أسواق جديدة, لكن مع ذلك لم يقتصر الأمر على بائع وشار أو تراكم للثروات, بل أصبحت هناك استحقاقات أثبتت أهميتها تاريخياً, أهمها العنصر البشري, ولذا يكمن سر التقدم بالتنمية, وهو السر أيضاً في تراكم واستثمار الثروات, أليس مصير الدنيا إلى أمام, إلى التقدم والتطور؟ والإنسان وحده قادر على هذا الأمر, والثقافة هي الخيار لذلك, هي رمح أخيليس ضد سور طروادة.
في الخبر المنشور في مجلة البيان التي تصدرها رابطة الأدباء العدد 442 مايو 2007, والذي مفاده أن صاحب السمو الأمير تبرع بخمسة ملايين يورو إلى متحف اللوفر, ووعد بمليون آخر لمعهد العالم العربي بباريس, أمر يدعو إلى البهجة والفخر والتفاؤل, لأن الاهتمام الشخصي لرئيس البلاد يدفع بالحكومة للالتفات إلى ما غفلت عنه, مثل مسرح الدولة الكبير ومكتبة الكويت الوطنية, والصناعات الثقافية الثقيلة -على حد تعبير المرحوم الشاعر أحمد العدواني- , مروراً بمبنى برابطة الأدباء, هذا الصرح المتداعي بشكل مخجل, والذي لا يليق بمكانة الكويت الثقافية والأدبية.
بالطبع هناك دور للقطاع الخاص أيضاً, وأقصد دوراً وطنياً وليس شخصانياً لإبراز الأسماء, فقد نسعد لجائزة هنا ومركز ثقافي هناك, ولكن ما لم تتسلم الدولة زمام المبادرة الجادة من خلال خطة تنموية شاملة وحديثة, عمودها الإنسان, ستظل المبادرات فردية غير منهجية ومتعثرة.
وإذا أرادت الكويت استعادة ألقها, فيجب أن تفكر جدياً بدورها الثقافي العربي, وتتذكر العائد من استثمارها الثقافي طوال القرن الماضي.

alrujaibcenter@hotmail.com
www.alrujaibcenter.com


No comments: