Tuesday, November 6, 2007

عصور الظلام

جاليليو



تطلق صفة عصور الظلام في التاريخ الأوربي, على الفترة من 476 إلى 800 ميلادية, والبعض مدها لتصبح حتى 1000 ميلادي, وقد كان "فرانشيسكو بترارك" هو أول من أطلق هذا المصطلح عام 1330م, وهي فترة التحول من العصور الرومانية القديمة إلى نهاية العصور الوسطى.
ويصف مفكرو عصر النهضة "عصور الظلام الأوربية", بأنها عصور الانحطاط الفكري والاقتصادي والسياسي, والتخلف والاجتماعي والثقافي, قرون من السلوك اللا إنساني سادت خلالها الخرافة والجهل.
في هذه الفترة نقص وتراجع النشاط المعماري, وفقدت الثقافة اللاتينية أهميتها ومكانتها بما حملته من علوم وفلسفة وفنون وآداب, وتوقف تدوين التاريخ, وتم إفقار وسائل التكنولوجيا وازدراء استخدامها, ومحاربة التحضر والفكر التنويري, وانحسر الشعر الأوربي العظيم, وساد ما سمي بالشعر الشعبي والثقافة الشعبية ومسرح الإسفاف والتفاهة والانحطاط الفني والموضوعي والأخلاقي.
وتراجع الطب الأبوقراطي العظيم, والفلسفة الأفلاطونية والسقراطية, وساد بدلاً منها الطب الشعبي الذي يعتمد على الخرافات والخزعبلات المنسوبة للدين, وسادت نظريات متخلفة استخدم عبرها رجال الدين نفوذهم السياسي والديني وجهل الشعوب الأوربية لملئ خزائنهم بأموال الفقراء, وتغير ميزان الثروات فعاشت الشعوب في بؤس ومرض وفقر مدقع, وأثرى رجال الدين ثراءً فاحشاً, وأوهموا البسطاء أن من يضع أمواله في استثمارات الكنيسة سيدخل الجنة, مما أثار استياء التجار والساسة الذين فقدوا نفوذهم, وانتشر الفساد في أوربا بشكل ليس له مثيل في التاريخ الأوربي, وانتشرت حرائق الحروب وأقنع رجال الدين الملوك والحكومات التي أخضعوها لسيطرتهم بأن الحروب ستزيد من ثرواتهم, وفي الواقع ساق رجال الدين الفلاحين إلى المحرقة ليزدادوا ثراءً, لم تهمهم قط مصالح أوطانهم, بل كانوا يتآمرون على الملوك والوزراء الذين لا ينفذون مصالحهم, ويدخلون بلادهم في صراعات سياسية وطائفية دمرت أوربا قرون طويلة.
ورأى المفكرون مثل "إيمانويل كنت" و"فولتير", أن استعمال الدين بهذا الشكل وخضوع الحكام لهم, هو ما سمح بالتسلط الديني للوصول بأوربا إلى الانحطاط الاجتماعي وسيادة الفساد, إذ لم يكن يسمح لرأي مخالف دون اتهام بالكفر والهرطقة تصل إلى المحاكمات المتعسفة والتعذيب والإعدام حرقاً, لم يكن يجرؤ أحد على مناقشة نظريات علمية أو أدبية دون التعرض إلى إرهاب رجال الدين, وهذا ما حدث مع العالم "غاليليو" مخترع التلسكوب والذي قال أن الأرض غير ثابتة وهي ليست مركز الكون والقمر غير مسطح, وأن الشمس تدور حول الأرض, حوكم ووضع تحت الإقامة الجبرية لعشر سنوات ومنع من الكتابة والبحث العلمي, ومعروف صكوك الغفران التي تمنح لمن يدفع, ومحاكم التفتيش التي تلاحق من يعارضهم.
في فترة عصور الظلام بدأت الدول الإسلامية الحديثة بالنهوض, فالعصر الأموي الذي شهد أول دولة إسلامية حديثة وانتقالها من مجتمع البداوة إلى التحضر, كان في الفترة من 661 إلى 750م, وقد بلغت الدولة الإسلامية أوج تقدمها في الدولة العباسية في الفترة من 750 إلى غزو المغول لبغداد عام 1258م, ففي العصر العباسي الأول فقط انتشرت حركة التصنيف وتنظيم العلوم الإسلامية والترجمة من اللغات الأجنبية, وانتقل العرب من مرحلة التلقين إلى مرحلة التدوين في كتب وموسوعات, وأنشئ بيت الحكمة الذي يعتبر مجمعاً علمياً ضخماً يحوي مرصداً فلكياً ومكتبة جامعة وهيئة للترجمة وناسخين وخازني كتب ومجلدين وغيرهم, في هذه الفترة تسلم المسلمون العلوم في عصور الظلام الأوربية وأنقذوها من الفناء.
ورغم أن تسلط الكنيسة استمر بعد عصور الظلام, إلا أن التنوير أعلن عن انتصاره الحاسم لصالح منطق التاريخ, وهذا قاد أوربا إلى عصور رائعة من النهضة والتقدم في جميع المجالات العلمية والفكرية والأدبية والفنية, ورغم أن الكنيسة اعتبرت آراء المستنيرين هجوماً ضد الدين وانحرافاً عن الأصولية الدينية, إلا أن الشعوب وقفت مع الحرية الشخصية والانفتاح والتقدم, مع العقل والمنطق وليس الشعور, وضد تسلط وفساد رجال الدين, وحظيت هذه الشعوب برفاهية لقرون طويلة.
بدأ الانحطاط التدريجي في العالم الإسلامي بعد غزو المغول لبغداد, ولكنه ترسخ أثناء الغزو العثماني للدول العربية من 1300 إلى 1923م, هنا فقد العرب المسلمون الميزة التي جعلتهم يسودون العالم, وهي ميزة فصل الدين عن السياسة والحكم, ميزة الحرية والانفتاح الفكريين, وأصبح لرجال الدين نفوذ أكبر في سير السياسة والتعليم والحياة الاجتماعية, واحتقر العلم والفن والأدب, وانتشرت الخرافة وكتب السحر, واختفت مظاهر التحضر التي أذهلت أوربا وعادت قيم التخلف الاجتماعي والتعصب القبلي التي كانت سائدة في العصر الجاهلي وحاول الإسلام إنقاذ العرب منها, فضاعت الثروات وساد الفساد وحكمت الدكتاتوريات الشعوب العربية مستفيدة من أمثلة عصور الظلام, حتى أن هناك فتاوى انتشرت تقول :"من تعلم فقد تزندق", وامتد التحريم والتخويف الديني لكل مظاهر العلم والفكر, من الراديو والهاتف والسيارة ومكيف الهواء ولواقط الأقمار الصناعية والسينما, والبنوك, ومعرفة جنس الجنين في الرحم, والموسيقى والشعر "الذي يتبعه الغاوون".
أعلم أن هذا الموضوع يحتاج إلى بحث طويل, وكلمات كثيرة, لكن التاريخ يعطينا دروساً وعبر, ولم تتقدم أوربا إلا بالتعلم من عثراتها, استفادت من المثال الإسلامي في فصل الدين عن السياسة, وكل الحضارات والأمم استفادت من دروس التاريخ, وكلها بدأت الخطوة الأولى في الازدهار في اللحظة التي تم فيها فصل سلطة الأديان عن سلطة الدولة, وهذا ينطبق على الدول الإسلامية, ولذا استطاعت أوربا قهر عصور الظلام, ووصلت إلى قمة تقدمها في عصر النهضة وعصر التنوير, فاحتلت الكرة الأرضية وما زالت تنعم بميزة السيادة والتفوق, لكن الأمر استلزم جرأة وشجاعة من ملوك أوربا لوقف التسلط والإرهاب الدينيين, والنهوض بشعوبهم وبلدانهم.

osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com

No comments: