صادفت قبل أيام ذكرى وفاة الأديب الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري, هذا الرجل الذي قدم خدمات جليلة للثقافة والأدب, كما كانت لديه مواقف وطنية واضحة.
كنت قد قرأت مقالة الدكتورة سهام الفريح ورد الدكتور خليفة الوقيان في جريدة القبس, وبما أن أسمي قد ورد كاستشهاد في مقالة الوقيان, حول منح الأستاذ عبدالله زكريا جائزة الدولة التقديرية, فيهمني جداً ذكر الحقائق التاريخية غير الموثقة, والتي تحدث في سياق حياتنا, وأرجو أن تسعفني الذاكرة, إذ حدث الكثير منذ خروجي من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في سبتمبر 2001م, وليس لدي وثائق أرتكن إليها.
كانت جوائز الدولة بنداً رئيسياً في وثائق تأسيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, ولكن المجلس لم يستطع تنفيذ كل ما ورد في هذه الوثائق أحياناً لأسباب تتعلق بالموازنة المخصصة للمجلس, وأحياناً لأسباب فنية, وأحياناً بسبب مسئولين لا يكترثون للثقافة, حتى عين الدكتور سليمان العسكري أميناً عاماً للمجلس وكنت وقتها مديراً لإدارة الثقافة والفنون.
كان الدكتور سليمان جاداً في اهتمامه في الثقافة ومنحازاً للثقافة المستنيرة الراقية, وسعى لتفعيل جوائز الدولة, ولكن ما حدث هو أن الوزير في ذلك الوقت استطاع أن يحصل على موازنة خاصة بجائزة الدولة التشجيعية والتي كانت تمنح لعمل إبداعي واحد, ولم يستطع الحصول على موازنة خاصة بالجائزة التقديرية, لأن مبالغ الجوائز كانت ضخمة, وتم تشكيل لجنة عليا من خيرة الشخصيات الكويتية, وكلف النحات الفنان سامي محمد بتصميم مجسم الجائزة, والذي أيضاً صمم مجسم الجائزة التقديرية لاحقاً.
وتأخرت التقديرية, وأثناءها توفي عدد من المرشحين لها مثل الأستاذ حمد الرجيب, وعبد الرزاق البصير وآخرون, وكان الأستاذ عبد الله زكريا الأنصاري من هؤلاء المرشحين الأوائل, وكان الدكتور خليفة الوقيان هو من اقترح اسمه, حتى قبل أن تقر الجائزة بشكل نهائي كما أسلفت, وقتها كان الوقيان مستشاراً بالمجلس لشئون الثقافة, وقد أخبرني الدكتور خليفة أنه والمرحوم الشاعر الدكتور عبد الله العتيبي كانا من ضمن لجنة وضع أسس الجائزة في بدايات تأسيس المجلس الوطني في السبعينيات, وكانت الأسماء المقترحة للجائزة تضم عبدالله زكريا وحمد الرجيب وعبدالرزاق البصير وفهد الدويري.
ولكن بعد أن أصبح الدكتور محمد الرميحي وهو المثقف والمفكر المرموق, أميناً عاماً للمجلس الوطني, أكمل مساعي سلفه في إقرار موازنة خاصة بالجائزة التقديرية, وشكل لجنة عليا كنت عضواً ومقرراً فيها, وهي اللجنة التي أقرت شروط الجائزة والمرشحين المحتملين, وأيضاً جاء إصرار وحرص الوقيان على عدم نسيان عبدالله زكريا, وكان أول المرشحين لها, جاء ذلك في مذكرة رفعها الوقيان إلى الدكتور الرميحي بتاريخ 23 يناير 1999م, وكانت استجابة اللجنة العليا فورية, وشعرنا جميعاً بالامتنان, فلا نريد أن نفقد علماً آخر من أعلام الثقافة والأدب والسبب بيروقراطي بحت.
عبدالله زكريا الأنصاري كان قمة في التواضع والتعفف عن التكريم والشهرة, فعندما اختارته اللجنة العليا لجائزة الدولة لمنحه جائزة الدولة التقديرية, كلفت شخصياً بتبليغه القرار, ورغم محاولاتي الحثيثة لإقناعه, إلا أنه أصر على الرفض, كان يقول رحمه الله: أنا لم أفعل شيئاً لأستحق جائزة عليه, واستمرت محاولاتي, كان يرفض حتى التفكير بالموضوع, بيد أنه كان ممتناً لتفكيرنا واهتمامنا به, كان يقول:
-هذا هو التقدير الذي أريد, ويكفيني ذلك.
من يستطيع أن يصل إلى كل ذاك التواضع/العملقة؟ هذا النبل الجميل, كل الأدباء والفنانين تغريهم جوائز التكريم من دولهم, فهذا الاعتراف يحيي بهم الأمل بأنهم لم ينسوا, وبأن عطاءهم لم يكن هباءً, صحيح أنه رمزي ولكنه تقدير, بيد أن عبدالله زكريا سبقنا جميعاً إلى ماهية التقدير الحقيقي, وعلمنا وأخجلنا.
-هذا هو التقدير الذي أريد.
فاستعنت مشتكياً بالدكتور خليفة الوقيان قبل أن أبلغ الأمين العام ومن ثم اللجنة العليا بقرار الأنصاري وقلت له:
-للأسف رفض الأستاذ عبد الله الجائزة يا دكتور خليفة.
فرد بوغسان:
-نعم هذا هو عبدالله زكريا,.. للأسف.
لكن ألمي أنا من فقد عمالقة دون أن تكرمهم الدولة, جعلني أستميت:
-ما الحل أبو غسان؟ ألا تستطيع من جانبك أن..
أجاب د. خليفة:
-كرر محاولاتك, وسأرى ما يمكن فعله, سأحاول إقناعه.
لكن بالطبع لم يمنح عبدالله زكريا الجائزة حتى خروجي من المجلس عام 2001, كنت أحمل ندمي على رفضه الجائزة حتى بعد تقاعدي بسنوات, فقد كنت أزوره رحمه الله بمكتبه في الطابق الأرضي من منزله, والذي كان يحوي آلافا من الكتب, سمعت من أحدهم ولا أدري ما صحة ذلك, أن المكتبة كانت لسنوات في الطابق العلوي, ولأنها كانت تزداد باستمرار, بدأ ثقلها يشكل خطر انهيار الطابق, فقرر نقلها إلى الطابق الأرضي.
لم أستطع مجاراته بالمتابعة وهو الذي كان يكبرني بسنوات كثيرة, فعندما كان يسألني:
-هل قرأت هذه المقالة, في هذه الجريدة أو المجلة العربية؟
أجيب بخجل:
-لا والله.
وفي كل زيارة له, كان يكرر علي:
-تألمت جداً لاستقالتك من المجلس, لماذا استقلت؟!
أجيب عليه:
-لماذا رفضت أنت جائزة الدولة التقديرية؟
كان يبتسم بخجل, ثم يغير الموضوع إلى آخر سياسي أو ثقافي أو حتى شخصي, الغريب أنه كان يود أن يسمع مني أكثر مما يتكلم, فعندما كان يحكي عن خبرات حياته, كنت أنشد بكلي له, ثم يتوقف فجأة قائلاً:
-غير مهم, قل لي أنت, دعني أسمع منك حول..
كان متواضعاً جميلاً.
انقطعت عنه فترة, ثم فوجئت به يتصل على هاتفي النقال:
-أينك؟ أنا في رابطة الأدباء, سألت عنك فقالوا أنك منقطع عن الرابطة.
كنت خجلاً وخاصة عندما أكمل:
-ومنقطع عني أيضاً.
فوعدته:
-غداً في العاشرة صباحاً أزورك.
كيف كان هذا القلب الذي أتعبته السنين أن يحمل كل هذا التواضع والنبل؟! وهل يوجد مثيل له؟!
أيقنت أن الأديب لن يصبح عملاقاً خالداً في الأذهان, إن لم يكن يتحلى بثلاث صفات رئيسية, الصدق والتواضع وحب الوطن, أما المتسلقون والأدعياء فسرعان ما يتلاشى ذكرهم.
والآن, لم يزل لدينا عمالقة يستحقون التكريم, ولم تزل هذه الأرض حبلى بأجيال قادمة, وعلينا أن نقدرهم في حياتهم, لا أن نرثيهم بعد مماتهم.
* * *
سعيد بأنني كتبت عن ذكرياتي مع الأستاذ عبدالله زكريا, لأنه كان يريد هكذا تقدير, وكنت قد فهمت من بعض الأخوة أن هناك ملاحظة من البعض حول كتابتي, وهي أني أكتب عن خبراتي الشخصية وعلاقاتي, وهو أمر لا يخص الناس, بالطبع لا ألومهم لأنهم غير متابعين لكتاب الأعمدة في العالم, الذين يسمون كتاباتهم قصص stories, فهم لا يعنون بالتنظير كثيراً, ولكنهم يوثقون بشكل بسيط ومحبب لخبراتهم القريبة والبعيدة, وهو ما يسمى "بالسوسيوثقافي" Sociocultural, الذي يمس القضايا, سياسية واجتماعية وثقافية بطرق غير مباشرة, ولذا يجب توثيق الحكايات التي تعني شأناً عاماً بشكل أو بآخر.
osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com
No comments:
Post a Comment