Sunday, November 4, 2007

الحرية مادية أم ذهنية





صديقي موسيقي ساخط ومتبرم من القيود والحواجز, من المنع والرقابة ومن الأغنية الهابطة, من كل شئ, كلما سألته لماذا أنت متوقف عن التأليف؟ يجب بسخط وضيق: "أشعر بقيود التخلف تقيد إبداعي, ولم يعد أحد يهتم بالفن الرفيع والموسيقى الراقية", فقلت له سأقص عليك قصة فنانين موسيقيين, وكيف استطاعا تحدي القيود والاستمرار بالحلم.
القصة الأولى هي قصة الموسيقار الصديق البحريني مجيد مرهون, كان مجيد عازف سكسفون في الستينيات من القرن الماضي, يعزف بالحواري والأفراح والمناسبات العامة, ثم أعتقل بتهمة مقاومة الاستعمار البريطاني هو ومجموعة من المثقفين البحرينيين, وسجنوا بجزيرة "جدا" مقابل البديع, وتعرض مجيد للتعذيب حتى فقد سمعه, وبعد فترة زمنية أطلق سراح بقية السجناء السياسيين وبقى مجيد أربعة وعشرين عاماً لوحده في الجزيرة, أي أقل من فترة اعتقال نيلسون مانديلا بثلاث سنوات وهي تعتبر أطول فترة لسجين سياسي, والحمد لله أن الأوضاع قد تغيرت الآن في البحرين, وأصبحت الأجواء فيها أكثر ديمقراطية.
كان مجيد يلحن في وحدته, ويسجل النوت الموسيقية على القراطيس المتوفرة لديه, وعلى علب السجائر, ومن ضمنها مقطوعة أسماها "جزيرة الأحلام", كان يجلس على الشاطئ الصخري المرتفع كل ليلة ويتأمل منطقة "البديع" بأضوائها ونخيلها, ويتخيل أنه يطير إلى هناك ويعيش بعقله بين أهله وأصدقائه وأحبابه, وفي فترة من الفترات استطاع تهريب هذه الأوراق المتناثرة, وأوصلها أصدقاءه إلى الأوركسترا الألمانية أو الهولندية, وتعرف العالم أجمع على الموسيقار مجيد مرهون, ورغم أنه كان أصماً ومحجوزاً في جزيرة صخرية, إلا أن ذلك لم يمنعه من الحلم والإبداع والشعور بالحرية.
وعندما قابلته في الثمانينات بعد إطلاق سراحه, سألته كيف استطعت التأليف وأنت كنت بظروف كهذه؟! أجابني بأنه لم يشعر قط بأنه كان مقيداً بل كان يستمتع بشعور أن السجانين لا يستطيعون تقييد أفكاره وأحلامه, تحداهم وتحدى نفسه وخرج بمفهوم يختلف عن مفاهيمنا للحرية, فالحرية الحقيقية هي ذهنية داخلية, ولا يستطيع أياً كان حجرها.
والقصة الثانية هي لشاب كويتي عرفته طفلاً وعرفت أسرته جيداً, هو حمد الراشد, ولد هذا الطفل بمشكلة في شبكية العين, وهي عائق كبير للبشر, كبر حمد وهو لا يستطيع تمييز الأشياء, أو رؤية طريقه جيداً.
ورغم أن الجميع كان يظن أن حمد سيكون عبئاً على نفسه والآخرين, واكتفى الأهل بأن يكون ولدهم حياً يرزق, ويعيش بينهم, لكن حمد لم يكتف بذلك بل ثابر بالدراسة وتفوق, وحول إعاقته إلى حافز للتميز, فعزف على الاكسيلفون وأجاده, ثم جرب معظم الآلات الموسيقية وتمرن عليها وأجادها, واندفع برغبته لدراسة الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى, وأصبحت لديه مقطوعات بدأ العالم يتعرف عليها, ولتقدير العالم لموهبته وفنه, اختير ليكون في لجنة الحكم في معهد شوبان للموسيقى عندما فاز بمسابقة التأليف العربي عام 2004, وهو من المعاهد العالمية التي يصعب الوصول إليها إلا بموهبة خاصة وعبقرية موسيقية متميزة, أعرف ذلك لأنني زرت هذا المعهد في التسعينيات وتعرفت على أساتذته وإمكانياته, ودون نفسه كأول مؤلف أبرالي كويتي عزفت له فرقة رباعي باند كاس للسكسيفون الألمانية, وشارك بالعزف مع فرق عالمية مثل "ساسا" السويسرية والرباعي الوتري البريطاني, وقريباً سيعزف حمد مع أوركسترا مصاحبة لمغنية سبرانو مقطوعة عنوانها "المحبة والسلام".
للأسف لم تقدر إدارة الموسيقى في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب هذه الموهبة, وعينته حسب ما فهمت محققاً بالتراث الشعبي, لكن هل وقفت هذه الحواجز والقيود أمام تقدير العالم له؟ بالتأكيد لا, فلا يوجد أحد أو ظرف يستطيع منع الإنسان من الحلم والتفكير والإبداع.
يمكن لسجين خلف القضبان أن يكون حراً أكثر منا, والعكس فيمكن أن نكون في المدينة الفاضلة ونشعر بالقيد, لا شئ يستطيع تقييدنا إلا نحن أنفسنا, وسواء ظهر الإبداع الآن أم لم يظهر, أو تمت مصادرته, لا يوجد شئ بالدنيا يستطيع إيقافه إطلاقاً, فالقيد المادي أهون بكثير من القيد المعنوي والذهني.
وهذا ينطبق على التربية الأسرية والمجتمعات والدول, الكل يمارس فنون الوصاية الفكرية, الكل يتعامل مع الإنسان كملكية خاصة, دون اعتبار لإنسانيته وحقه في العيش حسب اختياراته الخاصة به, هم يرون مصلحتك وأنت..لا خيار لك, ماذا تلبس, ماذا تأكل, ماذا تقرأ, أو بماذا تفكر, هم يتكفلون بك.
علمياً, العقل الباطن الذي تتكون فيه القناعات والعادات الذهنية, وبالطبع الخيال والإبداع وأرشيف الذكريات, هذا العقل لا يقبل التلقين والقسر الذهني, هو يقبل فقط ما يناسبه ويناسب مصلحة الإنسان وقيمه الخاصة, فالتربية المعتمدة على الوعظ والتوجيه المباشر لا تفيد بالتربية, مثل "أدرس, أدرس, أدرس", هذه يرفضها العقل, لكنه يقبل الخيارات أكثر من الأمر المباشر, ويختار ما يراه مناسباً له, ولذا فالتربية الإيجابية تبقى كجوهر مغروس في أذهان أبنائنا, أي محاولات لتغيير هذا الجوهر لن تفيد, إلا بقناعة الشخص.
وهذا ينطبق على المجتمعات والثقافات السائدة في مكان وزمان معينين, وكذلك على القوانين التي تخالف جوهر الإنسان وقيمه في الحرية والعدالة والسلام, وهي قيم بشرية مشتركة بين كل الشعوب والثقافات, وتشترك بها كل الديانات والتعاليم.
فيا صديقي الموسيقي الأمر منوط بك, أنت تختار أن تكون حراً أم مقيداً, قال غاندي لأتباعه بما معناه: "الاستعمار في داخلكم فقط".
أهداني النحات الكويتي العالمي سامي محمد تمثالاً رائعاً في تصميمه ومعناه, وهو عبارة عن رجل مكمم الفم, وهو أحد أشهر أعماله, ونحت على قاعدته إهداء يقول فيه: "إن لم تكن حراً في داخلك, فأنت عبد للآخرين".

ملحوظة:المعلومات حول الفنان حمد الراشد, مقتبسة من لقاء معه في جريدة الجريدة, العدد 33 الأثنين 9 يوليو 2007.

osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com

No comments: