Saturday, November 10, 2007
عصورالظلام -مظاهر الانحطاط العربي الاسلامي-3 من 3
في المقالين السابقين كتبنا عن مفهوم عصور الظلام في أوربا, ومظاهر الانحطاط الأوربي المتمثلة بالتخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي, وحظر استخدام العقل والمنطق والفلسفة, وتدهور الفنون والآداب, وانتشار الجهل والخرافة, ويعزو التاريخ ذلك إلى تسلط الكنيسة على الدولة وأفراد الشعب, وسرقة رجال الدين لأموال الناس وتأسيسهم لمؤسسات مالية ضخمة, جعلت من رجال الدين أثرى من الملوك أحياناً, كما حاكمت الكنيسة المخالفين لرأيها وعذبتهم وأحرقتهم بالنار, بمن فيهم العلماء والمفكرين والأدباء, فعاشت أوربا قرون من الممارسات اللاإنسانية, وقرون من التخلف والجهل والمرض.
أما الانحطاط العربي والإسلامي فقد بدأ منذ غزو المغول لبغداد عام 1258م, في وقتها كانت الإمبراطورية الإسلامية تقدم للعالم أرقى الأفكار والعلوم التي تعلمتها ونقلتها من الحضارة اليونانية وأضافت لها, وبنت المجمعات العلمية وهيئات الترجمة والعلوم الطبيعية والفلكية, وشجعت العلماء والمفكرين واعتمدت عليهم في نهضتها, وأتاحت للمواطنين مسلمين وغيرهم الحرية الكافية للإبداع والتفكير, وفصلت سلطة رجال الدين عن سلطة الدولة, وتحولت الدولة الإسلامية بذلك إلى دولة مدنية تحكمها القوانين المركزية, وتنفصل فيها سلطة القضاء, وأتاحت الفرصة لعلماء الدين للبحث والاجتهاد في أمور الشريعة دون تدخل في سلطة الدولة.
ولأن الإسلام لا يتعارض مع العلم, وإنما خلق هذا التعارض على يد رجال الدين, فقد تطورت العلوم في العصر العباسي الأول, وأهمها حركة التصنيف وكان أشهر المصنفين مالك وابن إسحاق وأبو حنيفة الذي صنف الفقه والرأي, وكذلك تم تنظيم العلوم الإسلامية, حيث ولد تفسير القرآن وتم فصله عن الحديث, وتميز العصر بوجود الأئمة الأربعة, مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل, وتطورت كذلك علوم النحو, ونشأت كتابة التاريخ واستقل علم السيرة عن الحديث, وانتشرت الترجمة عن اللغات غير العربية, وكتب ابن المقفع كليلة ودمنة عام 757م, كما فسر العلماء المسلمون ظاهرة الجاذبية, وعينوا خط العرض وقياس طول محيط الأرض, وأضاف العلماء المسلمين بجهودهم الكثير.
استمر الانحطاط وبلغ ذروته بعد الاحتلال العثماني للدول العربية الذي دام أربعة قرون, واستخدم العثمانيون الدين للسيطرة على الشعوب الرافضة لهذا الاحتلال, مثلما فعل نابليون بونابرت عندما احتلت جيوشه مصر, فقد أعلن مدعياً أنه مسلم وأنه غير اسمه إلى محمد بونابرتي, لأنه يعرف سهولة قيادة المسلمين باستخدام الدين.
والاحتلال العثماني الذي قالت عنه الجماعات الإسلامية السياسية:" الرسالة الإلهية للدولة العثمانية في نجدة الأمة الإسلامية (اقرأ تاريخ الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد 1898م), مارس كل صنوف التعسف والتنكيل بأبناء الأمة العربية واستفاد من ثرواتها, واعتمد على قاعدة رجال الدين الذي وضعوا الشعوب العربية أمام قدرية حكم الولاة والسلاطين بصفتهم الخلفاء على الأرض وحامين الإسلام, والخروج على أولي الأمر خروج على طاعة الله, بينما استمرت الدولة العثمانية في احتلالها للدول الأوربية وممارسة الوحشية تجاه شعوبها, وازداد ثراء السلاطين وفسادهم, وهذا ما جعل العرب يفضلون التحالف مع الشيطان في سبيل التخلص من نير العثمانيين في الحرب العالمية الأولى.
ولعل آثار وشواهد هذا الانحطاط العربي الإسلامي واضحة تماماً, فأين تكمن مكانة الدول العربية بين دول العالم هذا اليوم؟ ماذا قدمت الدول العربية إلى البشرية منذ ذلك التاريخ من مخترعات واكتشافات علمية وتكنولوجية؟ ما هي مساهماتها في تقدم العالم في أي مجال كان؟
تقف الدول العربية في الصفوف الخلفية لدول العالم, فظاهرة الفقر والجهل والقهر الاجتماعي والعنف والإرهاب من أوضح مظاهر الانحطاط, إذ هناك أكثر من 70 مليون أمي عربي في القرن الحادي والعشرين رغم الثروات الهائلة التي يملكها العرب, وتبلغ نسبة البطالة أعلى مستوياتها في العالم, هناك هشاشة وضعف في المنظومة المعرفية, وتركيز ماضوي على الحوار والرؤى دون التفكير في اللحاق بالتقدم العلمي, والمكابرة وعدم الاستفادة من تجارب التاريخ, والإصرار على العودة للماضي والاعتماد على كتب التراث دون تمحيص أو إبداع جديد يناسب متطلبات العصر, ومحاربة الاجتهاد والعقلانية وتكفيرها.
لقد دخلت الفلسفة الفكر العربي في حكم المأمون وخرجت منه في حكم الخليفة الموحدي ابن عبد المؤمن الملقب بالمنصور أمير قرطبة, الذي نفا ابن رشد وأحرق كتبه, وحارب الغلو الديني العقل والمنطق بمقولة "من تمنطق فقد تزندق", قدموا التكفير على الحوار العقلاني واحترام الاختلاف, كل ذلك لأن الجماعات الإسلامية السياسية نصبت نفسها وصية على البشر وضمائرهم, وأقحموا الدين بشئون الدولة طمعاً بالحكم, واستفادوا من القوانين الوضعية والنظام الديمقراطي في تكوين ثروات هائلة, وذلك بمساعدة الحكام العرب الذين لم يثقوا بشعوبهم, واستندوا على هذه الجماعات لتثبيت كراسيهم, لكن عادة ما ينقلب السحر على الساحر مثلما حدث مع الرئيس أنور السادات.
في فترات الانحطاط العربي, تنحط الفنون والآداب ويسود مسرح الإسفاف والأدب والشعر الرخيص, كما حدث في عصور الظلام الأوربية وكما يحدث معنا الآن, ويساق الأدباء والمفكرون إلى المحاكم وتمنع إبداعاتهم, وتنتشر كتب الشعوذة والسحر, وهذا أيضاً حصل في أوربا.
في فترة الانحطاط العربي يسود الفساد والسرقة والاستيلاء على مقدرات البلدان وأراضيها, وتتم خيانة الوطن بأكثر الطرق إبداعاً, وتغيب قيم الفكر الحر وقيم العمل النزيه البناء, تختفي قيم التسامح الديني والعرقي والمذهبي, ويسهل التكفير لأتفه الأسباب ولمجرد الاختلاف, ويسود التعصب البدائي الديني والطائفي والقبلي, التي جاء الإسلام ليلغيها ويضع قيم المحبة والإخاء والمساواة بديلاً لها, أما التفضيل فبالتقوى.
من مظاهر الانحطاط تخلف التعلم, ففي اليابان هناك 1000 جامعة, وفي الدول الإسلامية مجتمعة 430 جامعة فقط, وهناك 3000 أطروحة دكتوراه في مجال العلوم الطبيعية في بريطانيا, يقابلها 500 أطروحة فقط في جميع الدول الإسلامية, ونصيب العالم العربي من إنتاج الكتب هو 1% من النتاج العالمي, رغم أن سكان العالم العربي يشكلون 5% من سكان الكرة الأرضية, وأن ناتج الكتب في تركيا وحدها يعادل ناتج جميع الدول العربية 1%, وإذا أردنا الاسترسال في مقارنة العالم العربي والإسلامي بدول العالم, سنكتشف أننا نعيش في كارثة وفي عصور ظلام أشد حلكة من عصور الظلام الأوربية.
من مظاهر الانحطاط العربي غزو دولة عربية لجارتها, واستباحة شعبها وأراضيها وثرواتها, وحرق كتبها كما فعل المغول, وأسر وقتل واغتصاب أبنائها وبناتها, ويقف العرب والمسلمون مع هذه الهمجية, ويصفقون لها.
هل هناك مخرج؟ نعم هناك مخارج فإذا كنا مغرمين بالعودة إلى الماضي, فلنستفد من الماضي المشرق الذي فصل فيه الدين عن الدولة, ولنعد الاعتبار إلى بناء الدولة المدنية الحديثة, التي يتساوى فيها المواطنين أمام القانون, وحيث حرية الفكر والاعتقاد واحترام الإنسان أساس للتقدم والتنمية, والارتكان إلى الدساتير التي وضعتها الشعوب بعد معاناة كبيرة.
المخرج يكون باحترام العقل والعلم والمنطق, وتأهيل المواطن تأهيلاً عالياً وخلق يد عاملة ماهرة, ووضع موازنات وسياسات جادة للبحث العلمي, وسياسات جادة للإصلاح والتنمية, وتقدير أبناء الدول من المبدعين ليس بالجوائز والدروع فقط, ولكن بإتاحة الفرصة لهم كي يقدموا أفضل الفنون والآداب والعلوم في أجواء من الحرية والاحترام.
إذا ابتعدنا عن المكابرة وضيق الأفق, فمن السهل قراءة التاريخ العربي والعالمي, القريب منه والبعيد للاستفادة من عوامل النجاحات والإخفاقات في مسيرتنا, ولعل أوضح درس أن الشعوب التي تنهض لا تبدأ نهضتها من الصفر, بل تستند إلى المنجزات البشرية التي سبقتها, كما حدث مع النهضة الإسلامية والنهضة الأوربية.
osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com
لقراءة المقالات السابقة أرجع إلى:
www.osboha.blogspot.com
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
2 comments:
ما اروع هذه السلسلة
شكرا لك استاذي الكريم
بدوري أشكرك على المتابعة
Post a Comment