كانت رحلة متعبة من فينيسيا الإيطالية, إلى باريس الفرنسية إذ استغرقت الليل بطوله, بدأت الرحلة في الثامنة مساء, ووصلنا إلى باريس في الثامنة صباحاً, وفي أثنائها مر بنا القطار بمحاذاة جبال الألب مروراً بلوزان في الأراضي السويسرية, فأراضي شمال شرق فرنسا, ثم باتجاه الشمال إلى باريس.
لم يكن نومي مريحاً أو مستمراً, بل كان قلقاً وكان السرير ضيقاً, وبالطبع نمت بملابسي "الجينز والتي شيرت", فقد كنا ستة أشخاص في كبينة صغيرة تحوي ست أسرة, كل ثلاث فوق بعض, وفي النهار تتحول الأسرة إلى كراسي, وبين زملاء الكابينة زوجان فرنسيان كبيران بالسن كانا عائدين من رحلة استكشافية حول العالم, يحملان حقيبتاهما على ظهريهما, ويستخدمان كل وسائل التنقل, فهما يعملان ستة أشهر في السنة, ويسافران الستة أشهر الأخرى, كانا في غاية اللطف والحيوية رغم أنهما تجاوزا منتصف الستينيات, تبادلنا أثناء الرحلة الحديث حول مختلف المواضيع, وتشاركنا بطعامنا وتبادلنا عناوين الكتب التي كنا نقرأها أثناء الرحلة, وسألتهما عن تكاليف رحلتهما التي استغرقت ستة أشهر, واندهشت أنها لم تكن مكلفة أبداً بالنسبة إلى المدة التي قضياها والبلاد التي زاراها, وتذكرت أنه في الكويت هناك أشخاص يقترضون من البنوك آلافاً من الدنانير لكي يسافروا أسبوعين أو ثلاثة.
كان المطر ينهمر بلا توقف في باريس, ولأن محطة المترو كانت بعيدة نسبية, اضطررت إلى الوقوف في طابور طويل في محطة انتظار التاكسي المكشوفة, ولم أكن أحسب حساباً لتغير الطقس المفاجئ, بينما أخرج الأوربيين مظلات ومعاطف خاصة للمطر, ولكم أن تتخيلوا حجم البلل ولفحة الهواء البارد, وكأن الأمر استغرق دهراً حتى أتى دوري لركوب التاكسي.
تقع باريس على نهر السين في شمال فرنسا, وتعتبر إحدى مراكز الثقافة والاقتصاد وإدارة الأعمال, كما تعتبر من الجهات السياحية الهامة في العالم, إذ يتوافد عليها أكثر من ثلاثين مليون زائر بالسنة, وفيها علامات مميزة وشهيرة, مثل برج إيفل وكاتدرائية نوتر دام, وقوس النصر وميدان الكونكورد, ودار الأوبرا وأوبرا الباستيل الحديثة, ومتحف اللوفر, والشانزليزيه وفندق الريتز الذي بني عام 1898م, وجبل المونت مارت والعديد من المتاحف والمعارض التشكيلية, ومسارح العروض الفنية الشهيرة, مثل "ليدو" و"مولان روج" أو الطاحونة الحمراء وغيرها من المعالم السياحية الهامة, كما يوجد بها معهد العالم العربي.
ويعتقد كثير من الناس أن لقبها "مدينة النور" أتي من كونها مدينة لا تنام, ولكن في الحقيقة سميت كذلك لأنها كانت مركز العلم والتنوير, ولأنها بدأت مبكراً في إنارة الشوارع, وقد تعلم بها كثير من أدباء ومفكري ومثقفي العالم بمن فيهم العرب, منذ ما قبل القرن التاسع عشر.
وتنتشر في أرجاء باريس وعلى أرصفتها العديد من المقاهي, التي أصبحت جزءً مكملاً للثقافة الفرنسية, منذ افتتاح "مقهى ريجنس" café regence عام 1688م ومقهى الضفة الشمالية left bank café procope عام 1789م, وأصبحت هذه المقاهي شائعة جداً في القرن الثامن عشر, وبعد تصميم أرصفة الشوارع في القرن التاسع عشر انتشرت هذه المقاهي بشكل كبير, ومن المقاهي الشهيرة كذلك مقهى "ليتوال 1903" الذي تأسس عام 1903م, ومقهى "جورج سانك" أو جورج الخامس الذي تأسس حوالي 1930م, وتعتبر بعض المقاهي المعروفة منتديات ثقافية, وتجمع للفنانين والأدباء, وقد تم تقليدها في بعض المدن العربية مثل بيروت والقاهرة.
وإذا كنت في باريس ولم تر متحف اللوفر Louvre, فقد أضعت فرصة العمر, فاللوفر الذي يسمى جوهرة تاج فرنسا الثقافي, يعتبر من أهم المعالم الثقافية في العالم, وقد كان المبنى في القرن الثاني عشر عبارة عن قلعة, وتطورت عبر التاريخ, وأضاف لها الملوك المتعاقبين الكثير من التحسينات والأعمال الفنية من مقتنياتهم والمسروقة من البلدان الأخرى, وأفتتح رسمياً كمتحف في العام 1793م, واكسب فرنسا سمعة ثقافية لا نظير لها.
وبعد تصميم المدخل الحديث على شكل هرم زجاجي, على يد المهندس الياباني "بيا" pei-أظن هكذا ينطق- ازداد عدد الزوار, إذ يبلغ أكثر من ستة ملايين زائر بالسنة, وهو إضافة إلى القاعات الضخمة للأعمال الفنية, يحوي كذلك مكتبات ومحلات لبيع التذكارات ومطاعم ومقاه, ومن أهم الأعمال الفنية في المتحف, أعمال لدافنشي ورمبرانت وسيزان وغيرهم.
وهناك ظاهرة جديدة في اللوفر هذا العام, فبعد نشر الروائي دان براون لروايته "شيفرة دافنشي" DA Vinci code , انصب اهتمام الجمهور العالمي على لوحة "فيرجن أوف ذا روك" virgin of the rock التي ذكرها في روايته, فبعد أن كان الجمهور يمر عليها بشكل سريع في السنوات الماضية, أصبحت تنافس لوحة "الموناليزا" في الازدحام, إضافة إلى الإعلانات الدعائية الضخمة للرواية, والتذكارات المطبوع عليها غلاف الرواية, ولا أظن أن هناك روائياً يحلم بهكذا دعاية.
وبالطبع لم أغادر باريس دون زيارة جبل الفن "جبل مونت مارت" Montmartre, وهو تل عالي يشرف على باريس, ويشتهر بمقاهيه وبتجمعات الفنانين التشكيليين الذين يرسمون بالهواء الطلق, والفنانون معظمهم من فرنسا, ولكن تجد بينهم من دول أخرى, وفي الجبل عدة متاحف لعل من أهمها متحف الفنان العبقري/ المجنون صاحب المدرسة السريالية "سلفادور دالي", كما أن المونت مارت ضم عبر التاريخ فنانين عالميين كبار, مثل دالي, مونيه, بيكاسو, فان غوخ وماتيس وغيرهم.
كانت رحلة باريس رحلة تثقيفية وترفيهية ممتعة, غذيت بها روحي وذهني, وتعلمت فيها الكثير, بل كانت رحلتي للمدن الأربع روما, فلورنسا, فينيسا, وباريس, أفضل من قراءة عشرات الكتب.
osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com
5 comments:
حمدا لله على سلامتك
اللوفر هو هدفي السياحي القادم، أحلم بالتجول فيه، أعتقد أنه سيكون غير كل متاحف العالم الأخرى، له جو آخر، صحيح؟
يا ليتني كنت هناك
white wings
صحيح..اللوفر هو أحد أهم المتاحف بالكرة الأرضية ويستقبل ملايين الزائرين, لكن إدارته وتنظيمه لا يجعلك تشعر بالاكتظاظ
ولكي يغطي الإنسان كل أقسام المتحف سيحتاج إلى أيام
سلام الله على باريس، مهد الجنون الذي نحب،سلام الله عليك يا صديقي الجميل
شكرا يالعزيزة
ما كان لهذا الوليد أن يرى النور لولاك
أرجو الاستمرار بالدعاية حيث الموضوعات ليست من اهتمام الجميع
Post a Comment