في عام 1989م منعت الرقابة روايتي "بدرية", وتم استدعائي إلى مطار الكويت, وحقق الرقيب معي وطرح أسئلة غبية جداً مثل:" من تقصد بهذه الشخصية؟ أو ماذا تقصد بهذا الحوار" وبذلت جهداً لكي أفهمه أن هذا إبداع لا يحتمل التأويل السطحي, لكنه استمر, ثم حولني إلى مكتب آخر رافضاً أن أحمل الكتاب بيدي, بل طلب من أحد الموظفين التحفظ على النسخة وكأنها مخدرات وإيصالها إلى المكتب الآخر وأنا أتبعه بصفتي متهماً بالإبداع, ثم بعد أيام استدعيت إلى وزارة الإعلام وتم التحقيق معي وتعنيفي وإهانتي مرتين, حتى شككت أنني في أمن الدولة وليس وزارة الإعلام.
سألت المسئولين في الوزارة:" ما هي أسباب المنع حتى أتوب ولا أكررها ثانية؟", أجابوا بأن الرواية ضد المصلحة العامة, سألت:" ماذا تقصدون بالمصلحة العامة؟", قالوا نحن أدرى بالمصلحة العامة, قلت:" لماذا لا تشركوني فأنا مواطن مثلكم, وطلبت تقريراً مكتوباً عن أسباب منع الرواية واكتبوا أنها ضد المصلحة العامة, قالوا لا نعطي تقاريراً لأسباب المنع, وخرجت من الوزارة وأنا مصاب بالحيرة, فبدل التكريم حصلت على التعنيف والاهانة والمنع.
لكن بعد فترة وجيزة بدأ الناس يهربون بدرية من بيروت والقاهرة ولندن والبحرين, وبدأت الكتاب يتداول بشكل واسع في الكويت, وقام الاتحاد الوطني لطلبة الكويت بتصوير الرواية وتوزيعها على الطلبة والأساتذة, وقام الأخ مبارك العدواني الوكيل السابق للإعلام بتصويرها عندما كان يعمل في معهد الكويت للأبحاث العلمية, ووزعها على نطاق واسع, وحذا الكثير حذوه, وفي الواقع لم أحلم بهكذا انتشار, وكنت أتلقى اتصالات من قراء كويتيين وعرب يعلنون عن إعجابهم وتضامنهم.
وكتب الكثير من النقاد المرموقين العرب مقالات ودراسات نقدية عن بدرية, واعتبرت نموذجاً للرواية الكويتية, وأصبحت بدرية أشهر من نار على علم في الكويت والدول العربية.
وبعد التحرير وتحديداً عام 1994م, وكما قيل لي أن أحد الشخصيات الكويتية, ولا أعلم من هو حتى الآن, لام المسئولين في وزارة الإعلام قائلاً:" أليس عيباً أن رواية رفعت رأس الكويت في كل مكان, وتمنع في وطنها؟!", ورغم أن وزارة الإعلام أرسلت لي خطاباً رسمياً بإجازتها إلا أن الرقابة تصادرها من معرض الكتاب في كل عام, ورغم أنها تدرس في جامعة الكويت إلا أن الرقيب ما زال يمنعها حتى الآن, ولو رفعت قضية على وزارة الإعلام لربحتها حتماً.
ليس للرقابة أي مكان في عصرنا هذا, عصر الحصول على المعلومات دون قيود من شبكة الإنترنت, وحتى الأفلام التي تقطع أجزاء منها في دور العرض السينمائية, يتابعها الناس عبر الإنترنت كاملة وحتى قبل عرضها في الكويت, وحتى المواقف السياسية والفكرية والرأي المخالف نستطيع الوصول له عبر الإنترنت والمحطات الفضائية العربية المختلفة, وبذلك تصبح الرقابة بأنواعها المختلفة عبئاً مادياً, وسمة تخلف تتناقض مع أي نهج إصلاحي.
أي إصلاح وأي عصر هذا الذي يختار فيه موظف ما نقرأ وما نكتب كشعب؟!, وكأنه يدرك مصلحتنا أكثر منا, أي بلد هذا الذي يخشى من كلمة أو سطر أو بيت شعر؟!, أي إصلاح هذا الذي يحارب الإبداع ولا يستطيع منع سرقة المال العام؟! أي إصلاح هذا الذي يستطيع أي إنسان جاهل أن يجرجر المفكرين والأدباء وطليعة عقول المجتمع إلى المحاكم والسجون, ويسمح لمن يسمون بممثلي الشعب بالشتائم تحت قبة البرلمان؟! أي إصلاح يخاف من الغلو الديني والتعصب القبلي, ويعنف ويهين المبدع والمفكر, إن الزمن الذي يهان به المفكر والمبدع, ويحصل فيه الفاسد والجاهل على المجد, يسمى زمن الانحطاط, وقد مرت أمتنا العربية والإسلامية بأزمان انحطاط مشابهه, الحكومة خسرت ثقة شعبها, مثلما خسر النواب تقدير وثقة ناخبيهم, من للناس إذاً؟! من للإبداع؟!
في حادثة منع المجموعة القصصية "أفكار عارية" للأديب الشاب يوسف خليفة, وتعنيفه في وزارة الإعلام, مثال واضح لهذا الانحطاط, وهذه السذاجة, فالكتاب يباع إلكترونياً, ويستطيع أياً كان شراءه, ألا يعكس ذلك سذاجة الرقيب, ويستطع الناس تهريبه وتداوله, ولن يستطيع الرقيب فعل أي شئ, فلم يستطع فعل شئ مع بدرية ولم ينل غير الخيبة بعد إجازتها.
قد نتفق أو نختلف مع ما كتبه يوسف خليفة, لكننا ضد مبدأ المنع, فالأدب لا يجب أن يؤول بقراءة سطحية ومباشرة, الإبداع ليس نقلاً مباشراً ومطابقاً للواقع, وحتى مع القراءة المعمقة للأدب فإننا سنجد عدة احتمالات للمعنى.
الموظف الرقيب يخشى الوزير فيمنع, والوزير يخشى الاستجواب فيمنع, والضحية هي الكويت والتنمية والتقدم, هي سمعة الكويت والدستور الذي كفل حرية التعبير, لكن الرقيب لن يستطيع مراقبة أفكارنا وأحلامنا, ولن يستطيع منعنا من حب وطننا وأمنياتنا برفعته, لن يستطيع منع غضبنا وسخطنا على تردي أحول هذا البلد, على المعاملة المخجلة مع الإبداع والثقافة, والاستخفاف بعقول الكويتيين.
ومما يدعو للأسف أن رابطة الأدباء بمختلف مجالس إداراتها السابقة, لم تقف مرة واحدة مع أحد أعضائها, لم تدافع يوماً وبشكل علني عن حقوق أعضائها, ونست أنها نقابة قامت للدفاع عن الأدباء وحق التعبير, ولذا ففي سنة من السنوات اضطررنا الدكتور خليفة الوقيان وأنا لكتابة بيان ضد مجزرة الكتاب في معرض الكتاب, بعد رفض الرابطة للمبادرة, واتجهنا إلى الأخ عبدالله الطويل رئيس جمعية الخريجين في ذلك الوقت, لكي يصدر البيان من الجمعية, وبالفعل وقعت عليه أكثر من ستة عشر جمعية نفع عام ونشر بالصحف, فهل سيتغير هذا النهج في مجلس الإدارة هذا, أم أن الكراسي والمسميات أهم من الدفاع عن الأدب الكويتي؟
لكن مهما حدث من ظلم على المبدعين, مثل سليمان الشطي, وليلى العثمان وعالية شعيب وخليفة الوقيان, ونجمه ادريس ويوسف خليفة وغيرهم, فلن تقف مسيرة الإبداع ولن تستطيع الرقابة أو التخلف منع مسيرة التاريخ والتقدم, فالإبداع باق والوطن باق رغماً عن التخلف.
osbohatw@gmail.com
www.alrujaibcenter.com
4 comments:
نعم مع الأبداع
والكتاب يباع بالكويت الآن؟
للأسف حسب كلام الفارابي رجعوا منعوه رغم انه يدرس في جامعة الكويت لطلبة الآداب
رابطة الادباء اصبحت مجرد اسم
من غير اي رابطه
Post a Comment